النزوح في السودان... الأزمة الأكثر إهمالا في العالمhttps://www.majalla.com/node/323776/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B2%D9%88%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D8%A5%D9%87%D9%85%D8%A7%D9%84%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85
السودان: شبه حفاة، بظهور محنية ووجوه تغمرها مشاعر الرعب والحزن والخوف، يفر النازحون السودانيون في مناطق القتال، هربا من أتون الحرب. كبار السن يتكئون على عكازات، وبعضهم يحمل حقيبة صغيرة أو حتى بلا أي شيء سوى ملابسهم التي يرتدونها، لكن المشهد الأكثر شيوعا هو الهروب الجماعي سيرا، بلا مقتنيات، بلا وجهة، ولا أمل بسوى النجاة.
على مدار 19 شهرا، يشهد السودان واحدة من أكبر موجات النزوح في أزمة وُصفت بأنها الأكثر إهمالا على مستوى العالم اليوم، في ظل عجز جماعي عن التحرك لمعالجتها.
نتحدث هنا عما يناهز 11 مليون شخص نزحوا من منازلهم، هذه الأرقام جعلت السودان يتصدر العالم من حيث عدد النازحين داخليا، خلال النزاع الأخير الذي بدأ في أبريل/ نيسان 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
اخيرا، وثقت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة نزوح أكثر من 135 ألف شخص من مواقع مختلفة في شرق ولاية الجزيرة بين 20 و30 أكتوبر/ تشرين الأول، منهم الطبيب السوداني معاذ فيصل وعائلته.
يقول الطبيب فيصل، 37 عاما، لـ"المجلة": "هربت مع عائلتي، والديّ وإخوتي وأخواتي وأطفالهم وزوجتي من مدينتنا تمبول، إحدى مدن شرق ولاية الجزيرة، في رحلة استغرقت منا أربعة أيام مشيا".
قبور في المنازل، نازحون في الشوارع، وملايين الجنيهات السودانية فدية للمخطوفين وفك الحصار
كان قرار النزوح مؤجلا بالنسبة إلى الطبيب منذ نحو عشرة أشهر، أي منذ أن فرضت قوات الدعم السريع سيطرتها على المنطقة وبدأت لنهب سيارات الناس وممتلكاتهم هناك. "ورغم أن الحياة كانت شبه مشلولة، مع انقطاع الاتصالات والكهرباء والماء لساعات طويلة، إلا أن اتخاذ قرار المغادرة كان صعبا ومكلفا"، يوضح فيصل. ومع تصاعد هجمات قوات الدعم السريع بعد انشقاق أحد قادتها، أبو عاقلة كيكل، وانضمامه الى الجيش السوداني مع مجموعة كبيرة من قواته، حسم فيصل قراره بالرحيل، مجبرا ومرعوبا مثل كثيرين غيره.
غادر فيصل منزله في 23 أكتوبر/تشرين الأول، بعد أيام من الرعب عاشها مع عائلته، حيث كانوا ينامون على الأرض خوفا من شظايا قصف الطيران من قبل الجيش السوداني، ويفتحون باب منزلهم كل ساعة لعناصر مختلفة من قوات الدعم السريع. "أخذوا منا كل ما نملك من ذهب ومال، وكانوا يجبروننا على الركوع أرضا ويطلقون الرصاص بجانب رؤوسنا"، يروي فيصل.
رغم الأهوال التي شهدها، يعتبر الطبيب نفسه أوفر حظا لأن قوات الدعم السريع لم تقتل أحدا من عائلته أمام عينيه، لكنه فقد الكثيرين من أقاربه وأصدقائه في هذه الحرب، من بينهم ابن عمه الذي قضى بشظية من قصف الطيران، واضطروا إلى دفنه في المنزل لأن المقاتلين منعوهم من دفنه في المقابر، مثل كثيرين غيره.
"لسنا وحدنا من اضطررنا لدفن من قُتل في المنازل، فالكثيرون مثلنا مروا بذلك، وآخرون عجزوا عن دفن أحبائهم، فبقيت جثثهم مرمية في الشوارع. كانت مشاهد النزوح مروعة، جثث ومصابون يصرخون طلبا للنجدة، وجوه أعرفها من جيران وأقارب وأصدقاء. رأيت شبابا يحملون كبار السن أو الأطفال على أكتافهم، بينما نقاط التفتيش التي أقامها المسلحون تفتش وتنهب كل ما نملك. وصلنا إلى هنا في حلفا بولاية كسلا، وليس معنا سوى الملابس التي نرتديها"، يقول فيصل.
رأيت شبابا يحملون كبار السن أو الأطفال على أكتافهم، بينما نقاط التفتيش التي أقامها المسلحون تفتش وتنهب كل ما نملك
الطبيب معاذ فيصل
منذ اندلاع الصراع في السودان، تشير التقارير إلى أن عدد القتلى تجاوز 15,000 شخص، بينما العديد من العائلات لا تزال مفقودة ولا يعلم أحد عنها شيئا. هناك أيضا أشخاص اختطفوا ولم يُسمع عنهم شيء، لأن عائلاتهم لم تتمكن من دفع "الفدية المالية" المطلوبة مقابل إطلاق سراحهم.
تعد ولاية الجزيرة في وسط السودان ثاني أكبر ولاية من حيث الكثافة السكانية بعد الخرطوم، وهي نقطة محورية تربط غرب البلاد بشرقها، وتمثل سلة السودان الغذائية، حيث تضم مشاريع زراعية كبيرة تشكل مصدر دخل أساسي لسكانها الذين أصبحوا اليوم نازحين جراء الصراع.
أصبحت غالبية قرى ولاية شرق الجزيرة شبه خالية من سكانها، ومن كان ينزح في طريقه، كان يمر بهذه القرى ليبلغهم بما يحدث من نهب وقتل وترويع، مما دفع هذه القرى بدورها لتشهد حركة نزوح جديدة في اتجاه مناطق أكثر أمنا مثل كسلا والقضارف وحلفا.
نزح كثيرون في فترة زمنية متقاربة مشيا، من وصل إلى مدينة حلفا وجد أهالي المنطقة في استقباله، حيث قدموا لهم الطعام والشراب، وفتحوا المدارس لاستقبالهم. ولم تكن هذه أول موجة نزوح يستقبلها أهالي المنطقة، فقد وصل إليها في وقت سابق نازحون من الخرطوم وغيرها من المدن التي شهدت العنف والتشريد، مما تسبب في أزمة في استقبال المزيد من النازحين.
تجد النازحين في الملاعب الرياضية والمدارس، انتهى الأمر بفيصل وعائلته في أحد صفوف المدارس، حيث كان يساعد هناك، مع مجموعة من الشباب في المنطقة، في تقديم الدعم للمرضى والمصابين. كما قاموا، بدعم من سودانيين من داخل البلاد وخارجها، باستئجار سيارات لإجلاء الأسر التي كانت لا تزال عالقة في الحصار. لكن، لم يتمكنوا من إجلاء الجميع، ولا يزال مصيرهم إلى اليوم مجهولا.
عندما غادر فيصل منزله، كان يدرك تماما أنه فقد كل شيء، تماما مثل البيوت التي شاهدها تُنهب خلال النزوح، لم يكن يشغل باله سوى جمع شمل عائلته مجددا. "في تلك اللحظات، لم أكن أفكر في منزلي الذي ربما لن أعود إليه، كنت أفكر هل سننجو أم لا؟"، هذه هي المشاعر التي شاركنا بها الطبيب السوداني الذي يسعى اليوم للحصول على فرصة عمل خارج السودان. فهو الوحيد في عائلته الذي لديه خبرة في مجال عمل، الأمر الذي قد يفتح له فرص عمل في الخارج، ليساعد عائلته في الخروج من الوضع السيئ الذي يعيشون فيه. "لا أستطيع أن أتخيل أن نبقى نازحين في مدرسة".
أعلن المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، أن عدد الذين غادروا السودان بسبب الحرب وصل إلى 3 ملايين شخص. وصرّح غراندي: "إن الأطراف المتحاربة الساعية للسيطرة على السودان تسببت في تهجير وتشريد الناس داخل البلاد وخارجها".
نازحو الخرطوم: حقيبة والكثير من الذكريات والألم
انقسم النازحون في السودان بين من اضطر إلى مغادرة منزله على عجالة بما يرتديه من ملابس فقط، وبين من أتيح له الوقت لأخذ حقيبة صغيرة، كما كان حال الشابة السودانية هبة عبد العظيم وعائلتها.
أعلن المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، أن عدد الذين غادروا السودان بسبب الحرب وصل إلى 3 ملايين شخص
تعتبر الخرطوم من أكثر المناطق تأثرا بالنزوح، فقد شهدت العاصمة السودانية اشتباكات وغارات جوية أجبرت سكانها على النزوح ومنهم هبة.
لم يكن قرار هذه الشابة السودانية سهلا، خاصة مع مسؤوليتها عن رعاية أربع شقيقات، ومع ذلك، بعد مغادرة جيرانها ومعظم سكان الحي، بدأ الخوف يتسلل إليها من فكرة البقاء في المنزل.
تقول عبد العظيم لـ"المجلة": "كنا نسمع دوي الأسلحة والطائرات، ونرى الشهب والنيران، كانت مشاهد وأصواتا مرعبة، ومع كل ذلك، كنا في البداية نتمسك بالبقاء في المنزل ونرفض المغادرة".
شهدت الخرطوم تدهورا أمنيا سريعا وحادا، حيث تركزت المعارك في أحياء سكنية مكتظة، مما أدى إلى دمار واسع في المباني والبنية التحتية، وتفاقم النقص في المواد الغذائية وسوء خدمات الاتصالات والإنترنت، كما أدت الغارات الجوية العشوائية والقصف المتكرر إلى تعطيل الخدمات الأساسية، بما في ذلك المستشفيات التي خرج معظمها عن الخدمة.
تضيف عبد العظيم: "كنا نعتقد أن هذه الحرب محصورة بين الجهات المتقاتلة، مع أننا ندرك أن المواطن قد يتضرر في النهاية لأنها حرب، لكن الصدمة الكبرى كانت حين بدأ استهداف الناس، فقد تعرضوا للاغتصاب والقتل والتهجير والتنكيل، ومُنعت عنهم المساعدات والغذاء، وهذا أمر صادم للغاية بالنسبة إلينا، الحرب نفسها كانت صادمة جدا، لم نتوقع أبدا أن يحدث لنا ما حدث".
تقول لنا: "لو كان الأمر بيدي لكنت ربطت المنزل بحبل وجررته معنا، أن تختصر حياة كاملة وذكريات في حقيبة، هو أمر صعب للغاية، لكنني اخترت الأشياء التي تذكرني بوالديّ الراحلين".
أخبرها أخوها المقيم في الخليج العربي أنه يتابع منطقتهم عبر صور الأقمار الصناعية، وبينما وصلتهم أنباء عن فتح أبواب المنازل ونهبها من قبل قوات الدعم السريع، بدا أن منزلهم لا يزال صامدا هناك، ولم تطاوله القذائف أو القصف حتى الآن.
تحولت شوارع الخرطوم، كحال العديد من المدن والقرى السودانية، إلى ساحة حرب مفتوحة، حيث انتشرت فيها أعمال النهب والاعتداءات بشكل واسع. وترافق هذا كله حركة نزوح واسعة لم تهدأ.
الانتقال من مدينة الى أخرى يعني ساعات طويلة من السفر، والتوقف عند نقاط تفتيش متكررة تختلف باختلاف المنطقة التي تمر بها. بعضها يتبع لقوات الدعم السريع، وبعضها الآخر يتبع للجيش السوداني. بالنسبة إلى عبد العظيم، كانت نقاط التفتيش التابعة لقوات الدعم السريع الأكثر رعبا، حيث تقول: "تعرضنا للذل والإهانة، وتلقينا تهديدات، وكانوا يسألوننا عن سبب تركنا لمنازلنا، مع أنهم السبب في ذلك".
بينما استغرقت رحلة نزوحهم من الخرطوم الى أقصى شمال السودان لمدينة دنقلا قرابة اليوم، كان وضع عمتها التي نزحت في وقت لاحق أكثر صعوبة، فقد استغرقت معهم الرحلة التي لا تأخذ عادة الا ساعات عدة، 3 أيام متواصلة.
جهود غرف الطوارئ
النزوح يعني البدء من الصفر، حيث يواجه النازحون كوارث مختلفة حسب المناطق التي يتجهون إليها، من أبرزها الارتفاع الكبير في الإيجارات في الولايات الآمنة. هذا يأتي في وقت فقد فيه معظم النازحين وظائفهم وأموالهم ورؤوس أموالهم، ليبدأوا من جديد من الصفر. كما يضاف إلى ذلك غلاء أسعار المواد التموينية والطعام والشراب، مما يزيد أعباءهم.
الصدمة الكبرى كانت حين بدأ استهداف الناس، فقد تعرضوا للاغتصاب والقتل والتهجير والتنكيل، ومُنعت عنهم المساعدات والغذاء
هبة عبد العظيم
وارتفع معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية إلى أكثر من 200%، وفقا لبعض التقديرات، في حين ارتفعت أسعار الوقود بأكثر من خمسة أضعاف منذ بدء الحرب. تأسست في الولايات المتأزمة المختلفة غرف طوارئ للاستجابة لهذه الكوارث، وكان معهد أبحاث أوسلو قد رشحها لجائزة نوبل للسلام لعام 2024 لدورها الحاسم في تقديم المساعدات المنقذة للحياة وسط واحدة من أشد الأزمات الإنسانية حدة في العالم.
استطعنا التواصل مع أحد المسؤولين في غرفة طوارئ الخرطوم، وهو مقيم حاليا في العاصمة وفضّل عدم الكشف عن اسمه حفاظا على أمنه وسلامته. قال لـ"المجلة": "كان خبر الترشح لجائزة نوبل للسلام مفرحا لنا ولجميع السودانيين، وكذلك للعاملين والمتطوعين في غرف الطوارئ. شعرنا بأن هناك تقديرا لجهودنا واعترافا بالحاجة الملحة للعمل الذي نقدمه، وسلّط هذا الضوء على الجهود المبذولة في دعم المتضررين من الأزمة".
اضاف: "بدأنا العمل منذ نشوب الحرب، بتوفير أدوية للمحتاجين والغذاء وتأمين مناطق آمنة لكل من اضطر إلى مغادرة منزله بدعم من بعض المنظمات والسودانيين من الداخل والخارج، هذه الغرف نشأت بشكل طبيعي من عاداتنا وتكاتفنا، ففي أوقات الأزمات يتكاتف الناس لتقديم المساعدة بالإمكانات المتاحة".
تدير غرفة طوارئ الخرطوم قرابة 300 مطبخ في مختلف محلياتها، لتقديم الاحتياجات الغذائية. وقد أنشأت أيضا مكتبا نسويا متخصصا للتعامل مع الفتيات والسيدات اللواتي تعرضن للانتهاكات والاعتداءات، بما في ذلك حالات اغتصاب شملت فتيات لا تتجاوز أعمارهن الثامنة، وسيدات وصلت أعمارهن إلى 75 عاما، وقال لنا المسؤول من الغرفة: "الرجال أيضا تعرضوا للاغتصاب".
لا ينتقل النازحون دائما إلى ولاية أخرى، بل قد يكون النزوح داخل المدينة نفسها، كما يوضح لنا المسؤول من غرفة طوارئ الخرطوم: "هذا ما حصل في جزيرة توتي، بعد تقدم الجيش وحصار قوات الدعم السريع هناك، تصاعدت الانتهاكات، ونُهبت المطابخ والعيادات والمواد الغذائية، كما طُلب من الأهالي دفع مبالغ باهظة، تصل إلى نحو 5 ملايين جنيه سوداني، أي ما يقارب 8 آلاف دولار أميركي، للسماح لهم بالمغادرة".
لكن، في مناطق أخرى، بدت الأرقام أعلى بكثير. وفقا لشهادات حصلنا عليها من بعض الأشخاص، فقد قامت عناصر من قوات الدعم السريع باختطاف شباب من عائلاتهم وطلبت فدية مالية ضخمة، وصلت إلى مليارات الجنيهات السودانية. من استطاع دفع الفدية استعاد أبناءه، أما من لم يكن لديه القدرة على الدفع، فلا يزال مصير أبنائه مجهولا.
المواطن هنا لا يمثل أي قيمة للطرفين المتنازعين، فهم يتعاملون معه كغنيمة، يستنزفونه من كافة النواحي، سواء روحه، صحته، أو ممتلكاته
وقد تأثر الوضع الاجتماعي للسودانيين على نحو فادح بسبب الأزمة، حيث تفاعل العاملون في غرف الطوارئ مع أسر عانت من التشتت أثناء الهرب من أهوال الحرب، وفقد العديد من العائلات الاتصال بأفرادها، ووجدت نفسها في حالة من الفزع والضياع. يقول المسؤولون إن هناك أمّهات فقدن أطفالهن، وآباء لا يعرفون مصير أسرهم، فالبعض يتساءل هل نجا أحباؤهم، أم لقوا حتفهم، أم لا يزالون في عداد المفقودين.
ويضيف المسؤول من غرفة الطوارئ: "الكثير من الأشخاص فقدوا قدرتهم على التحمل من شدة التهجير والظروف القاسية. المواطن هنا لا يمثل أي قيمة للطرفين المتنازعين، فهم يتعاملون معه كغنيمة، يستنزفونه من كافة النواحي، سواء روحه، صحته، أو ممتلكاته".
ويختم حديثه: "نحن بشر، ونشترك في الإنسانية مع العالم. تحدثوا عن السودان".
السودانيون يموتون جوعا
بحسب خبراء في الأمم المتحدة فإنه: "لم يسبق في التاريخ الحديث أن واجه هذا العدد الكبير من الناس المجاعة كما هو الحال في السودان اليوم"، فهناك نحو 13 مليون شخص يواجه مستويات حادة من الأمن الغذائي وقد يواجه 755 ألفا ظروف جوع كارثية.
وتشير التقديرات إلى أن هناك 3.7 مليون طفل تحت سن الخامسة معرضون لسوء التغذية الحاد هذا العام. وكان هذا الواقع يمثّل أحد التحديات للطبيب مجاهد حلالي، في عمله بأحد مواقع النزوح في قرية أم القرى، حيث حول أحد صفوف المدرسة إلى عيادة ميدانية وأسس مطبخا لتقديم الوجبات الغذائية لأكثر من 500 أسرة نازحة.
بتاريخ 27 يونيو/ حزيران، كان الطبيب الشاب في غرفة العمليات عندما اقتحمت قوات الدعم السريع محلية الدالي في ولاية سنجة. وجد نفسه، مثل الكثير من النازحين، مضطرا إلى النزوح. فهرّب ما استطاع من معدات طبية بسيطة وأدوية ساعدته في تأسيس العيادة الميدانية التي أنشأها لاحقا.
يقول حلالي لـ"المجلة": "عالجت المئات من النازحين، كانوا يعانون من أمراض مثل الإسهالات المائية نتيجة عدم الحصول على المياه الصالحة للشرب ولا دورات مياه صالحة للاستخدام، أو تعرضهم للسعات الحشرات أو لدغات الثعابين والعقارب. كما أن هناك من تعرضوا لإصابات نارية، وكان هناك سيدات على وشك الولادة".
خسرنا كل شيء: هويتنا، أنفسنا، وذواتنا. فقدنا حرفيا كل شيء، لم يتبق إلا الهياكل العظيمة، الناس والأطفال حرفيا هياكل عظمية
مجاهد حلالي
كان يقدم الأدوية مجانا في هذه المنطقة التي نزح إليها ما يقارب من 950 أسرة، موزعة على 4 مدارس، ومن لم يجد مكانا في هذه المدارس نام في العراء.
المشهد نفسه تكرر هنا، نازحون قضوا أياما سيرا، وصولا الى محطة النزوح هذه. إحداهن سيدة حامل في الشهر الأخير، يقول لنا الطبيب حلالي: "وجدتها مغمى عليها ملقاة على الأرض، لم نستطع إنقاذها. ماتت ومات الجنين، وتركت خلفها 8 أطفال أصيب بعضهم بسوء التغذية". ويضيف أنه طيلة هذه الفترة لم يتلقّ أي مساعدة من أي منظمة لدعم الأطفال المصابين بسوء التغذية بالمحاليل الوريدية وهو لم يستطيع تأمينها من ماله الخاص.
هناك عائلات منهارة من الجوع، لا تستطيع حتى رفع يدها، يقول حلالي: "التقيت فتيات يتيمات كن في حالة انهيار كامل من الجوع، وتبين لي أنهن قضين أياما في العراء تحت الأمطار"، يضيف "عائلة وصلت إلينا وهمست بأذني الأم قائلة أولادي يموتون من الجوع".
تواصل حلالي في وقت لاحق مع رابطة الأطباء السودانيين في الولايات المتحدة التي قدمت له الدعم لإتاحة عمل أسبوع مجاني كامل. في هذا الأسبوع وحده، استقبل الطبيب أكثر من 100 مريض يوميا يعانون من حالات حرجة مثل الإسهال والأمراض الجلدية والملاريا والكوليرا. وعلى مدار ذلك الأسبوع، عالج قرابة 714 شخصا.
الطبيب نفسه هو ضحية لهذه الحرب، فقد حالت الأوضاع دون تمكنه من إكمال اختصاصه في الطب. ومن هول ما شهد من قصص وأمراض، يشعر أنه خسر أحلامه. يقول: "خسرنا كل شيء: هويتنا، أنفسنا، وذواتنا. فقدنا حرفيا كل شيء، لم يتبق إلا الهياكل العظيمة، الناس والأطفال حرفيا هياكل عظمية".