مسرحية "رقصة سماء"... بين العشق الإنساني والعشق الإلهي

التونسي الطاهر عيسى بن العربي يواصل مغامرته التجريبية

Bayrem Ben Mrad - Journées Théâtrales de Carthage
Bayrem Ben Mrad - Journées Théâtrales de Carthage
مسرحية "رقصة سماء" إخراج الطاهر عيسى بن العربي، تونس

مسرحية "رقصة سماء"... بين العشق الإنساني والعشق الإلهي

الطاهر عيسى بن العربي مخرج مسرحي تونسي درس المسرح والسينما. هذا ما قد يُفسر أن آخر مسرحياته "رقصة سماء" التي أنتجها المسرح الوطني التونسي بالتعاون مع مركزين بمدينتي الكاف وزغوان، تجسّد بطرافة فيلما قيد التصوير. في هذه المسرحية التي تعرض دوريا منذ سنة في قاعة الفن الرابع بالعاصمة التونسية والتي شاركت في مهرجان أيام قرطاج المسرحية في دورتها الأخيرة، تتراوح على الخشبة قصة الفيلم من جهة وملاحظات فريق التصوير والكتابة من جهة أخرى... وأحيانا تتداخلان.

وحتى في الفيلم نفسه، تتداخل الحكايات، لكنها جميعا عن الحب وصعوبته، بدءا من عائلة هالة، الزوجة البورجوازية المثقفة التي كرست حياتها لزوجها وبيتها، ووصولا إلى العشق الإلهي كما لقنه شمس الدين التبريزي للشاعر والصوفي جلال الدين الرومي، والذي انتهى بمقتل شمس. فابنة هالة ترتبط بشاب من وسط شعبي وتجد صعوبة في فرض زواجها منه على عائلتها. وهالة يتجاهلها زوجها ولا يعيرها اهتماما، وهي تتجاهل بدورها جراحها وألمها كي تحافظ عليه. زوجها داود، هو مثال رأس المال الفاسد، وزير صحة أسبق يمارس الطب بطريقة تجارية، وهو زير نساء. وعشيقته التي تُبدي اهتماما بالجانب الحسي فقط وطبعا تجنبيا للعاطفة، تصر بالرغم من ذلك على منافسة زوجته وتحرص على التفرد به. وعلاقة حلومة الجدة بابنتها هالة وابنها نجم، معقدة ومطبوعة بتسلطها وبالصدمة التي تسببت بها لهما جراء سوء معاملتها لوالدهما الذي كان بدوره متغيبا.

أمام هذا المحيط الجاف من العاطفة، وإثر هجر ابنتها للبيت العائلي وإصابة والدتها بالزهايمر (تؤدي دور الجدة باقتدار الممثلة منى نور الدين)، تهرب هالة إلى القراءة كما تنصحها السيناريست بذلك في إحدى التداخلات بين الفيلم والتعليقات. تنغمس المرأة الأربعينية في كتاب يروي قصة شمس وجلال الدين الرومي ويحكي قواعد العشق، فينتقل بقية فريق التمثيل إلى لعب أدوار هذه القصة التاريخية التي تعود إلى القرن الثالث عشر.

حتى في الفيلم نفسه، تتداخل الحكايات، لكنها جميعا عن الحب وصعوبته

ما يبقى جسرا بين ذلك العصر والقرن الـ21 ، هو الكتاب الذي نرى هالة تقرأه بصوت عال من حين إلى آخر، قبل أن تشرع في التواصل الافتراضي مع كاتبه، لتنشأ بينهما قصة حب ستكون نهايتها عسيرة، فالحب لدى الطاهر عيسى بن العربي، صعبٌ.

Bayrem Ben Mrad - Journées Théâtrales de Carthage
مسرحية "رقصة سماء" إخراج الطاهر عيسى بن العربي، تونس

قصة داخل قصة

الطاهر عيسى بن العربي هو مؤلف المسرحية وهو أيضا من أعد السينوغرافيا، ويبدو أنه أراد من خلال تقنية التبئير التي استخدمها، أي وضع قصة داخل قصة، أن يتموقع داخل منهج الميتامسرح، وتحديدا بروح مسرح "الكوميديا دال آرتي" الإيطالي والهزلي. الميتامسرح هي تلك المسرحية التي يتضمن نصها تمثيل مسرحية أخرى، فيصبح العرض الأصلي حجة كي يتحدث المسرح عن نفسه وتقنياته وتحدياته. ولكن، لدى بن العربي، وربما بتأثيرِِ من تكوينه المهني، كان المسرح يتحدث عن السينما، مما قد يجعل مصطلح "ميتادراما" مناسبا أكثر لهذا العرض. والأطرف من ذلك هو أن الطاهر عيسى بن العربي يقلب الآية ويذهب بالتبئير إلى حد بعيد، فليست "رقصة سماء" مسرحية يستدعي نصها تمثيل مسرحية أو فيلم آخر كما يقتضي التقليد القديم، بل هي أولا ومنذ البداية مسرحية عن تصوير فيلم سينمائي (القصة الإطار 1) يتحدث عن قصة هالة وعائلتها (القصة الإطار 2) التي تتحدث بدورها عن قصة لقاء شمس الدين التبريزي بجلال الدين الرومي (القصة 3).

Bayrem Ben Mrad - Journées Théâtrales de Carthage
مسرحية "رقصة سماء" إخراج الطاهر عيسى بن العربي، تونس

هذه التقنية الحاضرة منذ القدم في المسرح الإغريقي أو الروماني، تسمح بتذكير المُشاهد بأن ما يراه لا يعدو أن يكون سوى مسرحِِ، وبألا يتماهى تماما مع الشخصيات، وهي تقنية تطيح بما يسمى الجدار الرابع المتخيل وغير المرئي بين الممثلين والمشاهدين.

تداخل الحقيقة والتمثيل

نسمع في مسرحية "رقصة سماء" تعليقات فريق كتابة سيناريو الفيلم وفريق التصوير تتخلل المسرحية، بطرافة وذكاء، ومن أجمل تجلياتها أن شيماء الزعزاع التي تؤدي دور مخرجة الفيلم بحيوية جميلة، تعلن بعد المشاهد الأولى أنها غير راضية عن التصوير، وتطلب إعادة الشريط إلى البداية، فنرى الممثلين يتحركون إلى الخلف وكأننا نشاهد إعادة لف فيديو، لينطلق تصوير جديد ومختلف.

أراد مؤلف المسرحية وهو أيضا من أعد السينوغرافيا، من خلال وضع قصة داخل قصة، أن يتموقع داخل منهج الميتامسرح

هذه التعليقات السينماتوغرافية هي الفرصة التي يأخذ فيها بن العربي بيد الجمهور إلى كواليس عالم الممثل، فيعرفه بنبرة مرحة على بعض تقنيات التمثيل والكتابة، كما يصارحه بالضيق المادي الذي يواجهه عالم السينما والمسرح التونسيين.

Bayrem Ben Mrad - Journées Théâtrales de Carthage
مسرحية "رقصة سماء" إخراج الطاهر عيسى بن العربي، تونس

هذه التعليقات هي أيضا فرصة ليتبادل التقنيون من فريق التصوير أطراف حديث عام يجري في مثل تلك الأوساط، وقع استخدامه على الطريقة الهزلية لـ "الكوميديا دال آرتي"، وهي تذكرنا بأوبرا "بالياتشي" التي ألفها وأخرجها الإيطالي "رودجيرو ليونكافالو" في أواخر القرن التاسع عشر، والتي هي في الوقت نفسه أوبرا "كوميديا دال آرتي" ومسرحية اشتهرت باعتمادها الميتامسرح، حيث تبدأ قصتها بعرضِِ لمسرحية من "الكوميديا دال آرتي" يقتل خلالها أحد الممثلين زوجته وعشيقها تحت هتافات وتصفيق المتفرجين الذين لن يدركوا إلا بعد فوات الأوان تداخل الحقيقة والتمثيل.

Bayrem Ben Mrad - Journées Théâtrales de Carthage
مسرحية "رقصة سماء" إخراج الطاهر عيسى بن العربي، تونس

توظيف السينوغرافيا

راق ذلك الهزل على طريقة "الكوميديا دال آرتي" جمهور "رقصة سماء" عامة، لكن توظيفه في الجزء الثاني من المسرحية المتعلق بقصة شمس والرومي،  بدا لنا بعيدا في نبرته عن شاعرية العشق الإلهي وربما مخلا بها أحيانا وبشاعرية السينوغرافيا الرفيعة في هذا القسم من المسرحية. جدير بالذكر أن السينوغرافيا متميزة في كامل مسرحية "رقصة سماء" حيث وظف الفيديو والشاشات بكثافة، وتحولت المصطبة الدائرية المتحركة التي وُضعت عليها ستارة استخدمت في البداية كشاشة عملاقة، إلى فضاءات مختلفة لشتى المشاهد، لكن شاعرية قصة شمس والرومي استثنائية وربما ذلك ما جعلها باقية عبر العصور.

سبق أن أظهر الطاهر عيسى بن العربي ميوله للتجريب الفني وللمزج بين العمق الفكري والبحث الجمالي والاهتمام الكبير بالسينوغرافيا

وظف بن العربي لفائدتها بعض مشاهد مستلهمة من مسرح خيال الظل، كما ابتدع مشهدا رائع الجمالية يُمثل مقتل شمس بإيقاعٍ بطيء كأنه مشهد سينمائي على طريقة التصوير البطيء، حيث نراه يقضي على يد رئيس الشرطة بيبرس وحليفه بينما تحد ثلاثتهم دائرة من سيلِِ أحمر مثل الدم، تسكبه شيماء الزعزاع من قنينة على الإيقاع البطيء نفسه، ولا شك أن جمال هذا المشهد يعززه الأداء المتميز للممثليْن خالد الزيدي (شمس) وعبد الكريم البناني (بيبرس).

Bayrem Ben Mrad - Journées Théâtrales de Carthage
مسرحية "رقصة سماء" إخراج الطاهر عيسى بن العربي، تونس

سبق أن أظهر الطاهر عيسى بن العربي ميوله للتجريب الفني وللمزج بين العمق الفكري والبحث الجمالي والاهتمام الكبير بالسينوغرافيا حيث سعى إلى خلق فضاءات مسرحية مبتكرة تتناسب مع مضمون كل عمل، كما في مسرحيته "ضو" التي اقتبسها من نص "روبرتو سوكو" للفرنسي برنارد ماري كولتيس، والتي عرضت سنة 2022 بسينوغرافيا مدروسة وظفت السلالم للإحالة على العالم السماوي الذي يأتي منه بطل المسرحية "ضو(ء)".

تشمل مسرحية "رقصة سماء" مراجع أدبية وفنية كثيرة (ديوان غزل الشاعر وضاح اليمن، الملحمة الشعرية "الفردوس المفقود" للشاعر الإنكليزي جون ميلتون، تحديد الإطار الزماني والمكاني من خلال أغنية راب يلقيها أحد الممثلين)، هذا إلى جانب التبئير الذي تعتمده في القصص، فجاءت عملا يتميز بكثافته وجماله في الآن نفسه. في المقابل، فهي مسرحية طويلةٌ تدوم قرابة الساعتين إلا الربع، وأغلب الظن أنه يمكن الاستغناء عن المشهد الأخير بالرغم من احتوائه على التقنية المغرية للهولوغرام، لأن القصة تكتمل في المشهد السابق، إذ مثلما يقول الممثل في آخر مشهد من أوبرا "بالياتشي" "انتهت الكوميديا" لينبه الجمهور إلى انتهاء خدعة المسرح، تقول الممثلة التي تلعب دور مخرجة الفلم في "رقصة سماء" حرفيا: "اكتملت القصة" قبل أن تعلن "game over"، مثيرة على وقع تلك الكلمة صيحات إعجاب الحضور.

font change

مقالات ذات صلة