في الأول من يناير/كانون الثاني 2025، أكمل السودان عامه التاسع والستين كبلد مستقل عن الاستعمار الثنائي الإنكليزي-المصري في 1956 والذي استمر منذ عام 1899. منذ ذلك الحين، لم يشهد السودان استقرارا سياسيا، بل دخل في دوامة أو حلقة شريرة من الانقلابات العسكرية في نوفمبر/تشرين الثاني 1958، ومايو/أيار 1969، ويونيو/حزيران 1989، وأكتوبر/تشرين الأول 2021، والتي كانت تنتهي بانتفاضات شعبية لاستعادة الحياة الديمقراطية، كما حدث في أكتوبر 1964 وأبريل/نيسان 1985 وأبريل 2019.. لكن لا يطول أمد الديمقراطيات حتى تنتهي بانقلاب آخر.
ولعل هذه الحلقة الشريرة من عدم الاستقرار السياسي تُعد من أبرز تجليات الموروث الاستعماري في السودان، كما هو الحال في الكثير من دول الجنوب العالمي. لكنها ليست بلا مسببات أولية؛ إذ تأتي في مقدمتها الممارسة السياسية غير الراشدة عبر التاريخ الوطني الحديث.
كان أحد أكبر أسباب غياب الممارسة السياسية الراشدة أن المطالب السياسية التي تأسست عليها الأحزاب الوطنية الكبرى تاريخيا ارتبطت بمطالب سياسية فوقية، متعلقة بالنضال من أجل نيل الاستقلال الوطني، وليس بالصراع حول قضايا خدمة الناس والتنافس بين الساسة حول البرامج الأفضل لتحقيق ذلك. وأيضا فإن هذا الحال لم يكن مقصورا على السودان وحده، بل امتد إلى غالبية دول الجنوب العالمي في فترة ما بعد الاستعمار.
تم تأسيس "حزب الأمة القومي" في فبراير/شباط 1945 تحت رعاية الإمام عبد الرحمن المهدي، إمام طائفة الأنصار، وهو الابن الوحيد الذي تبقى على قيد الحياة للإمام محمد أحمد المهدي (1843-1885)، قائد الثورة المهدية التي اندلعت ضد الاحتلال التركي للسودان وأسست دولة مستقلة ذات سيادة بين عامي 1885 و1898. تحالف عبد الرحمن المهدي مع مجموعة من المثقفين والمتعلمين السودانيين، مثل الأميرآلاي عبدالله خليل والسيد محمد أحمد المحجوب، لتأسيس "حزب الأمة" الذي رفع شعارات الاستقلال التام والتأسيس لدولة وطنية مستقلة في السودان.
في عام 1953، شهدت القاهرة مولد "الحزب الوطني الاتحادي" ("الحزب الاتحادي الديمقراطي" حاليا، والذي تبنى هذا الاسم بعد اندماجه مع "حزب الشعب الديمقراطي" في عام1967 ) عبر توحيد الفصائل السياسية التي كانت تتبنى فكرة الوحدة مع مصر. كان أبرز تلك الفصائل حزب الأشقاء بقيادة الزعيم إسماعيل الأزهري (1900-1969)، الذي أصبح لاحقا أول رئيس وزراء للسودان (1954-1956). وحظيت الفصائل الاتحادية عموما برعاية السيد علي الميرغني، زعيم الطائفة الختمية في السودان.
وحتى الحركة اليسارية، التي تبنت توطين الحداثة والاشتراكية في السياسة السودانية بقيادة عبدالوهاب زين العابدين وعوض عبدالرازق وعبد الخالق محجوب، فقد انتظمت في أول الأمر تحت اسم "الجبهة المعادية للاستعمار"، التي تأسست في أغسطس/آب عام1946 . لاحقا، عُرفت باسم "الحركة السودانية للتحرر الوطني"، قبل أن تتطور وتعلن رسميا عن اسمها الجديد "الحزب الشيوعي السوداني" بعد مؤتمرها الثالث في فبراير 1956، حيث طرحت برنامجها الأول بعنوان "سبيل السودان نحو تعزيز الاستقلال والديمقراطية والسلم".
ولكن قبلهم جميعا، كانت جذور الحركة السياسية السودانية قد زرعتها "جمعية اللواء الأبيض" منذ منتصف عشرينات القرن العشرين. وقد عكست هذه الجمعية تزايد الوعي السياسي لدى النخبة الحضرية في السودان، وهو ما برز بشكل واضح في مقال علي عبد اللطيف، زعيم اللواء الأبيض، الذي كتبه بعنوان "مطالب الأمة". جاء هذا المقال احتجاجا على الاجتماع الذي عقده المندوب السامي لمصر والسودان، اللورد إدموند ألنبي، في 16 أبريل 1922 مع زعماء العشائر والأعيان الذين وقّعوا عرائض الولاء للحكم البريطاني للتباحث حول مستقبل حكم السودان.
اتهم عبد اللطيف هؤلاء الأعيان بأنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، وركز في مقاله على قضايا اقتصادية ملحة، مثل الضرائب التي يفرضها الحكم البريطاني، وأوضاع المزارعين في منطقة الجزيرة الذين صودرت أراضيهم لتأسيس المشروع الزراعي، واحتكار الحكومة لتجارة السكر. كما تناول قضية عدم تعيين السودانيين في الوظائف العليا، وانتقد نظام التعليم ومعايير القبول في كلية غوردون الجامعية حينها.