تُعد أزمة النزوح الداخلي في ليبيا من أخطر التحديات التي تواجه البلاد منذ اندلاع الثورة عام 2011، ولا تقتصر أبعادها على خسارة الأفراد لمنازلهم، بل تمتد إلى تعقيدات اجتماعية ونفسية واقتصادية تمزق النسيج الوطني. فالنزوح الداخلي ليس مجرد انتقال جغرافي، بل هو تحول قسري يعيد تشكيل مفهوم الهوية والانتماء، ومع تصاعد الصراعات المسلحة والانقسامات السياسية، وتفاقم التوترات العرقية والمناطقية، أصبحت مشكلة النزوح محورا رئيسيا لأي محاولة لتحقيق الاستقرار في البلاد.
وفق المنظمة الدولية للهجرة، بلغ عدد النازحين داخليا 199,949 شخصا في سبتمبر/ أيلول 2021، ثم انخفض العدد إلى 179,046 نازحا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، واستمر في الانخفاض ليصل إلى 168,011 نازحا في يناير/ كانون الثاني 2022، وعلى الرغم من هذا التحسن النسبي يبقى النزوح الداخلي جرحا مفتوحا في المجتمع الليبي، يغذي أزمات الثقة بين المجتمعات ويعمق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، فهو لا يعبر فقط عن معاناة النازحين، بل يعكس أيضا أزمة هوية وطنية لم يتمكن الليبيون حتى الآن من تجاوزها.
تحول النزوح إلى هجرة
في المجتمعات القبلية مثل ليبيا، تتجاوز العلاقة بين الأفراد وأماكنهم الأصلية الارتباط المكاني العادي. هذا الارتباط ليس مجرد مسألة عاطفية، بل هو جزء لا يتجزأ من هوية الأفراد وانتمائهم الاجتماعي. النزوح في هذه الحالة لا يعني فقط مغادرة المنزل، بل يمثل اقتلاعا قسريا للروابط الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل أساس الحياة اليومية.
مدينة تاورغاء تقدم مثلا صارخا لهذا الواقع، بعد عام 2011، إذ أُجبر سكان المدينة الذين يزيد عددهم على 40 ألف نسمة، على مغادرة منازلهم بسبب الصراع السياسي والمسلح، واضطر كثير منهم للفرار سيرا، حاملين معهم فقط ما استطاعوا حمله. وبالنسبة إلى هؤلاء كان النزوح بمثابة اقتلاع من جذورهم، إذ فقدوا مع منازلهم شبكات الدعم الاجتماعي التي كانوا يعتمدون عليها.