برزت أنغيلا ميركل، أول امرأة تشغل منصب مستشار ألمانيا، خلال تبوئها المنصب لستة عشر عاما (2005-2021)، كأكثر القادة الأوروبيين تأثيرا في جيلها، فهي لم تكتفِ بكسر الحواجز كأول امرأة تتولى أعلى منصب سياسي في ألمانيا، بل احتلت أيضا المركز الثاني في عدد سنوات بقائها في الحكم في تاريخ البلاد بحلول وقت تقاعدها.
وفوق ذلك، وباعتبارها زعيمة الدولة الأقوى اقتصاديا في القارة، والزعيمة السياسية الأكثر بروزاداخل الاتحاد الأوروبي، كانت صاحبة الصوت المهيمن في قضايا تتراوح من استجابة أوروبا للأزمة المالية في عام 2008 إلى قيادة استجابة الاتحاد الأوروبي لأزمة المهاجرين الناجمة عن الحرب الأهلية الوحشية في سوريا في عام 2015.
وخلال هذه الأوقات، لعبت ميركل أيضا دورا كبيرا في تشكيل أسلوب تعامل أوروبا مع أقوى قادة العالم، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
ولكن قدرة ميركل على الحفاظ على علاقات ودية مع بوتين تسببت في جدل كبير، لأسباب ليس أقلها أنها أدت إلى زيادة اعتماد ألمانيا على الموارد الطبيعية الروسية لتغذية اقتصادها. وكان إصرارها، مثلا، على المضي قدما في بناء خط أنابيب "نورد ستريم-2" المثير للجدل تحت بحر البلطيق، تحديا للمعارضة القوية التي أبداها الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، الذي حذر من أن اعتماد أوروبا المتزايد على روسيا لتلبية احتياجاتها من الطاقة قد يترك القارة بأكملها عرضة للابتزاز من قبل بوتين.
قدرة ميركل على الحفاظ على علاقات ودية مع بوتين تسببت في جدل كبير، لأسباب ليس أقلها أنها أدت إلى زيادة اعتماد ألمانيا على الموارد الطبيعية الروسية لتغذية اقتصادها
وقد تحققت توقعات أوباما في النهاية بعد أن بدأ بوتين بالغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وجاء رده على دعم حلف "الناتو" لأوكرانيا بمحاولته حرمان أوروبا من النفط والغاز. واتضح أن اعتقاد ميركل الساذج بأن بناء "نورد ستريم-2" سيعزز العلاقات بين روسيا وأوروبا بدلا من ترك القارة عرضة لمخططات بوتين لم يكن سوى فكرة حمقاء عندما تعرض خط الأنابيب للتفجير بعد وقت قصير من بدء الأعمال العدائية بين روسيا وأوكرانيا، مع وجود مزاعم بتورط القوات الخاصة الأوكرانية في عملية تدمير خط الأنابيب عندما أخرجته سلسلة من الانفجارات تحت الماء عن العمل في سبتمبر/أيلول 2022.
وعلاوة على ذلك، كان اعتقاد ميركل بأن روسيا بقيادة بوتين لا تشكل تهديدا جديا للأمن الأوروبي، كان سببا في توتر علاقتها مع ترمب خلال فترة ولايته الأولى كرئيس للولايات المتحدة، عندما كانت إدارته تنتقد الحكومة الألمانية باستمرار لعدم إنفاقها القدر الكافي في الحلف الدفاعي.
ورفضت ميركل تلبية التزامات ألمانيا بإنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع ــ وهو شرط أساسي لعضوية "الناتو"ــ ما جعل ترمب يلوح باحتمال انسحاب الولايات المتحدة من الحلف ما لم ينفق القادة الأوروبيون المزيد على الدفاع. ومن المرجح أن تطفو هذه القضية على السطح مرة أخرى حالما يتولى ترمب منصب الرئيس العام المقبل في ولايته الثانية.
سياسة الباب المفتوح
ومن بين السياسات الأخرى التي انتهجتها ميركل والتي أثارت جدلا واسعا كانت سياسة الباب المفتوح التي تبنتها المستشارة الألمانية السابقة تجاه أزمة المهاجرين في أوروبا عام 2015، عندما منحت حق اللجوء لنحو مليون شخص فروا من الصراع الوحشي في سوريا. وقد تسبب وصول هذا العدد الكبير من طالبي اللجوء إلى ألمانيا في إثارة توتر اجتماعي عميق، ويرى البعض أن ذلك النهج شجّع بروز أحزاب متطرفة، مثل حركة "البديل من أجل ألمانيا" المتشددة (AfD)، الذي بات اليوم منافسا جديا في الانتخابات العامة المقبلة في ألمانيا.
اليوم، مع هذا السجل المثير للجدل، تسعى أنغيلا ميركل، البالغة من العمر 70 عاما، والتي تنحت عن منصب المستشارة في عام 2021 واعتزلت السياسة الألمانية في الصفوف الأمامية، إلى تشكيل إرثها من خلال إصدار سيرتها الذاتية، "الحرية: مذكرات بين عامي 1954-2021". ويقع الكتاب في 720 صفحة، وشاركت في تأليفه مستشارتها الموثوقة بيات باومان، ويغطي ما تسميه ميركل "حياتين، الأولى حتى عام 1990 في ظل نظام دكتاتوري والثانية منذ عام 1990 في ظل نظام ديمقراطي".
إشارة ميركل إلى الحياة تحت الديكتاتورية تعود إلى سنواتها الأولى في ألمانيا الشرقية الخاضعة للسيطرة السوفياتية. فعلى الرغم من كونها وُلدت في هامبورغ عام 1954 لوالديها هورست وهيرليند كاسنر، فإن العائلة انتقلت إلى ألمانيا الشرقية بعد وقت قصير من ولادتها، حيث عمل والدها كقس لوثري.
وبعد أن أنهت دراستها الثانوية، انتقلت ميركل في عام 1973 إلى لايبزيغ لدراسة الفيزياء في جامعة كارل ماركس (جامعة لايبزيغ حاليا). خلال هذه الفترة التقت بزوجها الأول، زميلها طالب الفيزياء أولريش ميركل، وتزوجا في عام 1977، لينتهي هذا الزواج بالطلاق بعد خمس سنوات. واصلت ميركل دراستها، وحصلت في النهاية على درجة الدكتوراه عن أطروحتها في الكيمياء الكمومية في عام 1986.
كطالبة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، شاركت ميركل في عدد من المنظمات الشبابية في الولاية، على الرغم من أنها أصرت لاحقا أن مشاركتها اقتصرت على تنظيم الأنشطة الثقافية ولم تنخرط كثيرا في السياسة الاشتراكية
وكطالبة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، شاركت ميركل في عدد من المنظمات الشبابية في الولاية، على الرغم من أنها أصرت لاحقا أن مشاركتها اقتصرت على تنظيم الأنشطة الثقافية ولم تنخرط كثيرا في السياسة الاشتراكية. وتصر على أنه عندما تقرّب منها جهاز الاستخبارات سيئ السمعة في ألمانيا الشرقية (شتازي) في مرحلة ما أثناء دراستها لتجنيدها كي تصبح مخبرة، رفضت هذا الأمر رفضا قاطعا.
ولم تنخرط ميركل بشكل نشط في السياسة الألمانية إلا بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وإعادة توحيد ألمانيا، لينتهي بها المطاف كمستشارة ألمانيا في عام 2005.
ولكن ما يبرز في مذكراتها، مع ذلك، هو محاولتها الدفاع عن المرحلة الأخيرة من مسيرتها السياسية، التي أكسبتها لقب "أم أوروبا" وشهدت فوزها بأربعة انتخابات ألمانية. وتمثّل محاولات ميركل لتبرير قراراتها السياسية خلال هذه الفترة أحد أكثر أجزاء الكتاب إثارة للاهتمام، خصوصا مع بروز نظرة متأخرة تسلط الشكوك على حكمة الكثير من تلك الخيارات.
لنتأمل هنا علاقتها المثيرة للجدل مع بوتين، وهي المصدر الرئيس للكثير من الانتقادات التي وجّهت إلى سجلها؛ حيث زعمت ميركل أن علاقتها الشخصية القوية مع الزعيم الروسي كانت سببا في الحفاظ على السلام والأمن في أوروبا، ولكن هذه المزاعم لا تثبت للنقد أمام الغزو الروسي لأوكرانيا، ومحاولات موسكو اللاحقة لابتزاز أوروبا لحملها على التخلي عن دعمها لكييف من خلال تعطيل إمدادات الطاقة في القارة.
وفي مقابلة أجرتها معها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لمناقشة كتابها الجديد، سعت ميركل إلى تبرير صفقات الغاز المثيرة للجدل التي أبرمتها مع موسكو أثناء توليها لمنصبها كمستشارة على أساس أنها ساعدت الشركات الألمانية وساعدت في الحفاظ على السلام مع موسكو. ولكن بينما تحتل ألمانيا اليوم المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث المساعدات التي تقدمها لأوكرانيا، ومع مواجهة الاقتصاد الألماني صعوبات جمة في الآونة الأخيرة، يغدو هذان الادعاءان محل نقاش. ويصف البعض ألمانيا اليوم بأنها "رجل أوروبا المريض" بسبب أدائها الاقتصادي الضعيف. فبعد أن كانت قوة تصديرية ذات شأن على الساحة العالمية يوما ما، يتأرجح اقتصادها الآن على حافة الركود.
ومع ذلك، لا تبدي ميركل أي ندم، وتصر على أن تدخلها لمنع محاولات أوكرانيا للانضمام إلى حلف "الناتو" في عام 2008 هو الذي لعب دورا في منع اندلاع الحرب بين موسكو وكييف في وقت أقرب. وتوضح: "كنا سنشهد صراعا عسكريا في وقت أبكر. كان واضحا بالنسبة لي بشكل لا يقبل الشك أن الرئيس بوتين لن يقف مكتوف اليدين وهو يشاهد أوكرانيا تنضم إلى (الناتو). وفي ذلك الوقت، لم تكن أوكرانيا كدولة مستعدة بالتأكيد كما كانت في فبراير/شباط 2022".
وبالمثل اتخذت ميركل موقفا قويا في الدفاع عن سياستها في التعامل مع ملف الهجرة، والتي يعتبرها كثيرون اللحظة الحاسمة في فترة توليها منصبها. وبينما نالت استحسان قادة العالم مثل أوباما لإنسانيتها، يُعزى إلى كرمها السبب في إحياء "حزب البديل من أجل ألمانيا"، الذي كان مجرد مجموعة هامشية في عام 2015.
إن الموقف الحازم لحزب "البديل من أجل ألمانيا"(AfD) ضد الهجرة قد سمح له باحتلال المركز الثاني في استطلاعات الرأي العام الألمانية، وذلك قبيل انتخابات عامة مبكرة متوقعة مطلع العام المقبل. وتعتمد الرسالة السياسية الرئيسة للحزب على موقف صارم ضد المهاجرين.
ومع ذلك، ترى ميركل أن السبيل الأفضل للحد من صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، سواء في ألمانيا أم في بقية أوروبا، هو معالجة قضية الهجرة غير القانونية. وتدعو إلى أن يستثمر القادة الأوروبيون المزيد في الدول الأفريقية لتحسين مستويات المعيشة فيها، مما يقلل من دوافع الناس لمغادرة بلدانهم.
ربما تركت ميركل إرثا مثيرا للجدل بعد ستة عشر عاما من توليها منصب مستشارة ألمانيا، ولكن الأكيد وكما يوضح كتابها الجديد، أنها لا تزال مصممة على الدفاع بإصرار عن سياساتها في وجه الكثير من منتقديها.