من إدغار آلان بو إلى غينسبيرغ... قصائد تحوّلت إلى أفلام سينمائية

معالجات تفتح آفاق التخييل الشعري

SAUL LOEB - AFP
SAUL LOEB - AFP
صور الكاتب الأميركي إدغار آلان بو وعائلته في منزله السابق، متحف بو في بالتيمور

من إدغار آلان بو إلى غينسبيرغ... قصائد تحوّلت إلى أفلام سينمائية

من الطبيعي أن تستند أفلام سينمائية إلى أعمال روائية وقصصية بالنظر إلى المشترك التخييلي والفني في ما بينهما، إذ يجمعهما أكثر مما يفرقهما. في المقابل اللامألوف وغير العادي أن تستند أفلام سينمائية على قلتها إلى قصائد شعرية.

هي محض مغامرة أن تيمّم تجارب سينمائية بوجهها شطر نصوص شعرية كلاسيكية ومعاصرة، إذ كيف للأدوات السينمائية المحتكمة إلى ما هو حكائي أو سردي في الغالب بحسب معالجتها الجمالية الخاصة، أن تتوافق مع الأدوات الشعرية لقصائد معظمها مجازي واستيهامي؟

ثلاث قصائد لإدغار آلان بو

في مقدمة هذه المختارات السينمائية التي اشتغلت بشكل مجازف على المادة الشعرية، القصيدة المفردة بالذات، نلفي الفيلم الكلاسيكي الصامت، "الضمير المنتقم" 1914 من إخراج ديفيد وارك غريفيث، المرتهن في قسم كبير منه إلى قصيدة "آنابيل لي" 1849 للشاعر الأميركي إدغار آلان بو، وموجز حكايته البصرية أن شابا مهووسا بأعمال بو يغرم بفتاة تؤدي دورها بلانش سويت، غير أن عمه يعترض على تعلقه بها، بل ويمنعه من الظفر بها مما يذهب بالوقائع العنيفة حد أن يقتل الشاب عمه ويسعى إلى إخفاء الجثة. تغدو وتيرة سماعه أدنى الأصوات هذيانية، إذ تتحول حياته إلى هلوسة جارفة، ويتضح في آخر المشاهد الملتبسة أن ما حدث مجرد كابوس.

قصيدة ثانية لإدغار آلان بو حوّلها المخرج جاك تورنور إلى فيلم سينمائي موسوم بالعنوان ذاته "مدينة تحت البحر" 1965، كتبها الشاعر عام 1831، لكنها صدرت بصيغتها النهائية عام 1845، مدارها هو الرعب ولهذا صُنّف الفيلم ضمن منحى الخيال العلمي ونزوع المغامرة، وموجز حكايته البصرية اكتشاف مدينة مفقودة في ساحل كورنوال، عاش بحّارتها قرنا من الزمن دون أن يشيخوا بعد، بفضل الغازات المتسربة من بركان في عمق البحر، وهو ما حاول أن يتحكم في سريته وسحريته القبطان برايس.

قصيدة "الغراب" الشهيرة لإدغار آلان بو، والمنشورة سنة 1845، تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج روجر كورمان في 1963

أما القصيدة الشهيرة لإدغار آلان بو، وأمست معادلا موضوعيا لاسمه الشعري تحت عنوان "الغراب" المنشورة سنة 1845 فقد تحولت بدورها إلى فيلم سينمائي من إخراج روجر كورمان عام 1963، وموجز وقائعه البصرية محاولة الساحر أو الدكتور إيرساموس كرافن مساعدة بيدللو كي يستعيد هيئته الإنسانية بعدما حوّله الدكتور سكراياس إلى غراب مقابل أن يساعده كرافن في العثور على شبح زوجته الراحلة لينور.

"البحار القديم" لصموئيل تايلور كولردج

قصيدة كلاسيكية أخرى من هذا المدار السوداوي، بذات المناخ السحري، كتبها صموئيل تايلور كولردج موسومة بعنوان "البحار القديم" 1798، سيكيّفها المخرج هنري أوتو، رفقة تشيستر بينيت لصالح السينما الصامتة عام 1925، وموجز حكايته المرئية أن تهجر الحسناء دوريس حبيبها جويل لصالح الرجل الثري فيكتور برانت. وفي الليلة السابقة لهروب هذا مع دوريس، يلتقي بحارا عجوزا يهبه جرعة غامضة تفتح بصيرته على قصيدة البحار القديم، وما أن يكتشف مأساة التدمير المتعمد للجمال البريء وعواقبه الوخيمة بحسب القصيدة، يلعج ضميره بالتأنيب ويرحل بدونها.

Universal History Archive - Universal Images Group via Getty Images
رسم لقصيدة "أنشودة البحار القديم"

"مصاص الدماء" لروديارد كبلينغ

ضمن ألبوم الأفلام الكلاسيكية دائما، تحولت قصيدة "مصاص الدماء" 1897 للشاعر روديارد كبلينغ إلى فيلم سينمائي صامت من إخراج روبرت جي فينولا 1913، وموجز حكايته أن ينتقل هارولد إلى المدينة من أجل وظيفة جديدة فيلتقي بالفتاة المغامرة سيبيل. ينبهر هارولد بسيبيل وينسى خطيبته هيلين، لكن سيبيل في الواقع محض مصاصة دماء ستدمر حياته، إذ سرعان ما يفقد وظيفته ويصبح مدمنا للكحول.

مشهد من فيلم "مصاص الدماء"

"دو بيجا جومي" لطاغور

لعل أشهر قصيدة هندية تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح، هي "دو بيجا جومي" لطاغور، من إخراج بيمال روي عام 1953 تحت عنوان "دو بيجا زامين" المصنف ضمن أسلوب الواقعية الجديدة، وموجز حكايته أن يبذل المزارع الفقير شامبو ماهيتو أقصى الجهد في تجميع المال من أجل استعادة أرضه، فيتجشم شقاء الهجرة إلى المدينة مع التأرجح في أكثر من عمل فاشل، وحينما يؤوب إلى قريته يصدمه ضياع أرضه الى الأبد، والسبب الخطة الطارئة للتأميم.

"دعوة الى السفر" لشارل بودلير

من القصائد ذات الأثر الغائر "دعوة الى السفر" لصاحب "أزهار الشر" شارل بودلير، وقد غامرت المخرجة الفرنسية جيرمين دولاك بتحويلها إلى تجربة سينمائية عام 1927، وموجز علاماتها البصرية أن تمضي امرأة شابة إلى ملهى ليلي، مستاءة من نمط حياتها الزوجية، فتغرم بضابط بحري يغريها بالعوالم السحرية لركوب مجاهل المغامرة، لكن يتخلى عنها بعد أن يتفاجأ بأنها متزوجة، فيخيب مسعى حلمها بأن تظفر بحياة مجازفة مع تحصيل متعة المغامرة القصوى.

Shutterstock
تمثال لبودلير من تصميم بيار فيليكس ماسو في حديقة لوكسمبورغ، باريس

"ستحملنا الريح" لفروغ فرخزاد

وفي التماهي الشعري بين القصيدة والسينما، يوقظ فيلم "ستحملنا الريح" 1999 للمخرج عباس كياروستامي الشاعرة فروغ فرخزاد من رمادها الفينيقي، إذ ليس اعتباطا أن يحمل الفيلم عنوان قصيدتها التي تنتهي بالعبارة نفسها، وكأن عين الكاميرا هي عين القصيدة حينما نكتشف قرية جبلية في الريف الإيراني، يصلها فريق يزعم البحث عن كنز، فيما هم مرسلون لإنجاز تقرير حول الطقوس الجنائزية، لكنها شعائر حداد رهينة بموت سيدة عجوز بلغت أو تخطت المئة عام، وفي انتظار موتها يرصد المخرج الحياة اليومية أو نمط وجود القرية المريبة.

يوقظ فيلم "ستحملنا الريح" 1999 للمخرج عباس كياروستامي الشاعرة فروغ فرخزاد من رمادها الفينيقي، إذ ليس اعتباطا أن يحمل الفيلم عنوان قصيدتها

لا شيء يربك الايقاع سوى تكرر اتصالات الهاتف الذي يجبر بهزاد كي يمضي إلى المقبرة في أعلى التلة ليلتقط إشارة الشبكة، وفي إثر ذلك نصادف حفار القبور والمدرس المعوق وصاحبة المقهى المستاءة وطبيب القرية الذي يسوق الدراجة النارية والصبي المرشد والفتاة التي تحلب البقرة في قبو مظلم، بينما يلقي عليها المهندس شعر فروغ فرخزاد، ثم ختامها بمشهد الجنازة أخيرا الذي يحيل على موت العجوز.

 Wikicommons
فروغ فرخزاد

"أيام الشتاء" لباشو وآخرين

لا يخرج عن منحى هذه المختارات السينمائية فيلم "أيام الشتاء" 2003 للمخرج كيهاتشيرو كاواموتو من صنف الرسوم المتحركة، أبدع في تحويل إحدى قصائد الرينكو للشاعر الياباني باشو في القرن17 بشراكة مع شعراء آخرين. هذه القصيدة الجماعية سلكت في إبداعها لعبة متواليات من خلال أخذ السطر الثاني من بيت الشاعر السابق واستخدامه كالسطر الأول في مساهمة الشاعر اللاحق وهكذا دواليك. وعلى مقاس ذلك سلك الفيلم في تركيبه الغريب تشييد مرئياته البالغة 36 مقطعا، قياسا إلى 36 بيتا شعريا تتضمنها القصيدة، باعتماد إبداع جماعي لـ 35 رساما من مختلف العالم.

Heritage Arts - Heritage Images via Getty Images
صورة للشاعر الياباني ماتسوو باشو من القرن الـ15، أشهر شعراء الهايكو

"عواء" لألن غينسبيرغ

لعل أمثل ما نختتم به هذه المختارات هو فيلم "عواء" 2010 للمخرج روب إبستاين المرتهن إلى قصيدة بالعنوان ذاته 1955 للشاعر الأميركي ألن غينسبيرغ، ولا يكتفي الفيلم بإضاءة علامات القصيدة سينمائيا بل يرصد حياة الشاعر نفسه في أربعينات وخمسينات القرن الماضي وثورة "جيل البيت" مع وقائع محاكمة الشاعر والناشر لورنس فرلنغيتي، من خلال تركيب ثلاثي مربك ومتناغم في آن، عمادهُ محاورة مع الشاعر على طول فراسخ تجربته قبل القصيدة إياها ولحظة كتابتها الصاخبة.

ملصق فيلم "عواء"

تليها وقائع المحاكمة الذائعة الصيت، إذ يُدان الناشر بتهمة نشر البذاءة، وختاما بكتابة القصيدة من جديد سينمائيا بتسويغها تخييلا بصريا يجمع بين أسلوب الرسوم المتحركة بتوظيف لوحات من إنجاز إريك دروكر تتشظى فيها أميركا إلى مستنقع من المخدرات وأنقاض العمارات الهلامية الشاهدة على جحيم شوارع يعوي فيها الانحطاط، من استيهامات الجنس الغرائبية إلى محفل الدستوبيا الشاملة.

font change

مقالات ذات صلة