لبنان مأوى الموالين لنظام الأسد... برعاية "حزب الله"

90 ألفا من "النازحين الجدد" إلى بلاد بلا دولة أو بدولة مهترئة

رويترز
رويترز
سيارات تصطف لدخول لبنان بعد الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، بالقرب من الحدود اللبنانية السورية، 1 يناير

لبنان مأوى الموالين لنظام الأسد... برعاية "حزب الله"

أدى زوال كابوس "الأبد" الأسدي عن سوريا إلى أن ينبعث فيها فرح من عمق أكثر من 50 سنة من الألم والعذاب والرعب، تلك التي أنزلها بالسوريين ذاك الكابوس المهول الذي وعد زوالُهُ معظم الشعب السوري وعدا لا يزال غامضا بالحرية والعدالة، رغم أن دونه عقبات كبرى، وقد يتحقق أو لا يتحقق في الآتي من الأيام.

لكن حيوية التغيرات التي تلابس يوميا المشهد السوري تُنبئ الآن بشيء جديد، أقله ذاك الاندفاع السياسي والدبلوماسي العربي والدولي النشيط للتواصل مع الإدارة العامة السورية الجديدة التي يتصدرها في دمشق قائدها العام أحمد الشرع، بعدما استعاد اسمه هذا الذي اختاره له أهله منذ ولادته، أو هو كشف عنه أخيرا ليباشر نشاطه الرسمي من القصر الرئاسي السوري الدمشقي، بقيافة وإطلالة جديدتين. وهو بهذا نسخ عنه (في العلانية العامة على الأقل) اسمه الحركي والعسكري والإسلامي، وشرع يطلق تصريحات سياسية ودبلوماسية "هادئة" و"مطمئنة" على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية.

لبنان الشلل والتبلد

أما في لبنان الذي كان الراحل حافظ الأسد قد حكمه من دمشق وربط مصيره، أقله منذ 1990، بمصير نظامه، فيبدو في حال من الشلل والتبلد المديدين. فبعد انقضاء أكثر من شهر على النهاية غير الأكيدة بعدُ لتلك الحرب- وقد بادر إليها "حزب الله" قبل أكثر من سنة ضد إسرائيل "مشاغلة" لجيشها و"إسنادا" لغزة، فارتدت على "الحزب" المذكور وجماعته ولبنان كله عاصفة دموية مدمرة في شهريها الأخيرين- عادت البلاد والجماعات اللبنانية إلى سوابق عهودها التي لم تغادرها أصلا، ونسيت أن حربا مهولة قد وقعت. وحتى الجماعة والمناطق التي نالها الشطر الأعظم من الدمار والقتل والترويع، تعيش آلامها ونكبتها في صمت، وكأن ما حدث من أفعال القدر.

نعم، لقد تعوّد سكان لبنان- ربما منذ أوغلوا في حروبهم الأهلية سنة 1975- على أن ما يعيشونه من نكبات وفواجع، ومن خروجٍ وتعافٍ، ليس سوى قدرٍ محتوم يشبه أفعال الطبيعة، ولا يد لهم فيه ولا هم مسؤولون عنه. وهكذا استسلموا للقدر منتظرين أفعاله فيهم، لتعيش كل جماعة منهم قدرها الخاص ونكباتها وفواجعها وآلامها الخاصة. لذا يبدو أن ما يحدث في لبنان لا يحدث فيه، أو هو يحدث فيه كي يُطوى ويُنسى فورا، وهذا يعني أن لبنان بلدٌ على سبيل الاستعارة والتشبيه والكناية، ويتصرف أهله وتتصرف جماعاته على هذا الأساس.

ومن الأمثلة على ذلك أن معظم اللبنانيين يقرون أنهم مع بلدهم، استُعيروا أو استُعملوا "ساحة" لحروب أهلية مديدة. وهذا أيضا ما ارتضوه عندما استعار حافظ الأسد لبنان وجماعاته، وكذلك سوريا وشعبها كـ"ساحة" لمشاريعه الإقليمية والدولية. وهم حين مانعوا أن يرث "حزب الله" عن الأسد الأب "الساحة" اللبنانية ويستعملها في خدمة مشاريع إيران المشرقية، روعهم "الحزب" المذكور وهزمهم، وجعل مع الأسد الابن سوريا ذاتها ملعبا إيرانيا منذ عام 2012.

جاء تأثير سقوط "نظام سوريا الأسد" على لبنان وجماعاته ليعكس التمزق اللبناني وشعائره الراسخة

وقد تكون حال لبنان "الساحة" قد تأرثت عميقا ومديدا في غرائز جماعاته، فصارت مبدأ عاما للشلل والتبلد. وعلى هذا النحو جاء تأثير سقوط "نظام سوريا الأسد" على لبنان وجماعاته. وهو ما اقتصر على احتفالات كيدية صغيرة متفرقة، تعكس التمزق اللبناني وشعائره الراسخة. أما فرار عشرات الألوف من السوريين إليه- وهم من الجماعات الموالية لنظام الأسد المخلوع، ومن ضباط جيشه وأجهزته الأمنية- فلم يحظَ بغير الصمت والتعتيم، بعدما ضلع "حزب الله" في تدبير فرارهم واستقبالهم وحمايتهم. 

الضباط وبطانة الأسد

بعد أكثر من 3 أسابيع على خلع نظام الأسد في سوريا، وفرار أو "لجوء" عشرات الألوف من مواليه وضباطه إلى لبنان، فإن "لبنان الحكومي" الذي لم يبق منه أصلا سوى ظلٍ خاوٍ، يخيم عليه السكوت والتنصل، وفي أحسن الحالات الكلام الفارغ الذي لا يعني شيئا. أما لبنان الجماعات المتحاجزة والمتربصة كلٌ منها بالأخرى، وكذلك زعماؤها، فكل منها ومنهم يغني على ليلاه. فالزعيم الدرزي وليد جنبلاط مثلا، زار دمشق والتقى قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، فأعلن من هناك عن ضرورة محاكمة مجرمي نظام الأسد المخلوع الذي كان قد اغتال والده كمال جنبلاط في عام 1977، وجلس نجله الوريث على ضفة النهر، منتظرا جثث أعدائه تعبر فيه، كما قال مرة وليد جنبلاط.

رويترز
عنصر من الفصائل السورية يحمل سلاحا في الشارع، بينما تصطف السيارات لدخول لبنان، بعد الإطاحة بالأسد، بالقرب من الحدود اللبنانية السورية،1 يناير

لكن من هم السوريون الفارون إلى لبنان؟
هناك أولا رهط من كبار ضباط النظام المخلوع، أولئك الذين كانوا في أجهزته الأمنية وقطاعاته العسكرية، وسواهم من بطانة المقربين النافذين في دائرة عائلة الأسد. وهؤلاء غالبا ما تمكنوا من اجتياز الحدود البرية اللبنانية بتسهيلات من أجهزة أمنية لبنانية رسمية أو حكومية، لـ"حزب الله" نفوذ واسع فيها. وقد غادر شطر من هؤلاء لبنان إلى الخارج من مطار رفيق الحريري في بيروت، كبثينة شعبان مستشارة الرئيس الفار الإعلامية. 
الشطر الآخر من هذا الرهط، لا يزال في لبنان موزعا على أماكن وفنادق في البلاد، من أمثال اللواء جميل الحسن مدير جهاز الاستخبارات الجوية الأسدية، وصاحب فكرة قصف المدنيين السوريين بالبراميل المتفجرة، أثناء ثورتهم على النظام. وأصدر جهاز الإنتربول الدولي مذكرة لملاحقة الحسن وإلقاء القبض عليه، بصفته من مرتكبي جرائم "إبادة جماعية".

مجموعات من ضباط النظام السابق اجتازوا الحدود اللبنانية، وبحوزتهم أسلحة حربية وأموال بالدولار الأميركي. وألقي القبض على عشرات الضباط، بعضهم من "الفرقة الرابعة" التي كان يقودها ماهر الأسد

ويلف الغموض هذه الفئة التي لديها حظوة قديمة وراسخة لدى نافذين وسياسيين في لبنان. حظوة تمكن الفارين من الحصول على خدمات كثيرة، أقلها تأمين إخفائهم المؤقت، وتسهيل سفرهم إلى خارج لبنان. وهؤلاء خائفون من ملاحقتهم جراء الجرائم التي ارتكبوها بالشعب السوري، خصوصا منذ عام 2011. 
وأفادت مصادر قضائية لبنانية أن مجموعات من ضباط النظام السابق اجتازوا الحدود اللبنانية، وبحوزتهم أسلحة حربية وأموال بالدولار الأميركي. وألقت أجهزة أمنية لبنانية القبض على عشرات الضباط، بعضهم من "الفرقة الرابعة" التي كان يقودها ماهر الأسد. لكنهم باعوا أسلحتهم بأثمان بخسة في لبنان. وأعلن بسام مولوي وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال في بيروت، أن بثينة شعبان وابن ماهر الأسد وزوجته دخلوا لبنان بطريقة غير قانونية، سهلها لهم ولسواهم من الضباط الفارين- حسب مصادر خاصة في جهاز الأمن العام اللبناني- المقدم في الجهاز أحمد نكد الذي كان مسؤولا عن معبر المصنع الحدودي بين سوريا ولبنان. وتفيد معلومات خاصة أن الضابط نكد أُقصي من مركز عمله في المصنع. وذكر مولوي أيضا أن 21 ضابطا في الجيش السوري جرى توقيفهم في لبنان، وأن هناك 8400 شخص اجتازوا الحدود اللبنانية بطرق غير شرعية.

رويترز
يتصاعد الدخان من الجانب السوري، بينما يتجمع الناس حاملين أمتعتهم في الموقع المتضرر على معبر العريضة الحدودي بين لبنان وسوريا، 8 ديسمبر

مأوى "حزب الله"

الفئة الأكبر من الفارين السوريين خليط من جماعات النظام الخائفة في الساحل السوري وجباله، ومن شيعة موالين لــ"حزب الله" أو منخرطين في مجموعاته المسلحة في سوريا. ومعظم هؤلاء من الفقراء، وبينهم جنود سوريون فروا ومعهم عائلاتهم وعبروا إلى لبنان طرقا حدودية غير شرعية، وغض الجيش اللبناني نظره عن دخولهم. ونظم "حزب الله" استقبالهم وإيواءهم في قرى وبلدات بعلبك والهرمل. وفي الأيام التي تلت سقوط نظام الأسد، احتشد ألوف من هؤلاء على معبر المصنع الحدودي، فلم يُسمح لهم بالدخول. لكن حسب عاملين في منظمات المجتمع المدني البقاعية، عبر هؤلاء لاحقا الحدود من طرق غير شرعية.
عدد الفارين الذين استقبلهم "حزب الله" في مراكز إيواء بقرى وبلدات بعلبك والهرمل بلغ 39300 شخص، ومعظمهم أسر وعائلات بائسة. وجرى إيواؤهم وتقديم الغذاء لهم في حسينيات ومدارس وقاعات وشاليهات ومطاعم متوقفة عن العمل. وبعض تعاونيات "البتول" التابعة لـ"الحزب" المذكور، آوت أعدادا من هؤلاء. وأما أعداد الذين من لم يجر إيواؤهم فبلغت 52 ألف شخص. وتشير مصادر جهات حكومية لبنانية إلى أن مجموع هؤلاء الفارين إلى لبنان يتجاوز 90 ألف نسمة. وتضطلع منظمات المجتمع المحلي الموالية لــ"حزب الله" بإدارة شؤونهم.
أما "المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة" (UNFCR) فلا تزال حائرة في تصنيف هؤلاء الفارين كلاجئين، ولم تتخذ بعد قرارا بتسجيلهم في لوائحها. وهي تضع في أولوياتها، في حال قررت التعامل معهم كلاجئين، استبعاد تسجيل المقاتلين والجنود، ومن هم على صلة بأجهزة أمنية، ويقتصر تعاملها مع العائلات فقط في حال قررت مساعدتهم بعد درس أوضاعهم. هذا فيما المنظمات الدولية الأخرى لا تزال تستطلع أحوال هؤلاء الفارين في مقار إيوائهم في البقاع.
وتصف عاملة في أحد مقار الإيواء أن أوضاع الفارين مزرية، ويعيشون حالا من الهلع، ويقولون إنهم طُردوا من بيوتهم التي صودرت. وقالت صاحبة هذه الشهادة إن هؤلاء الفارين الجدد الموالين للنظام المخلوع، يشبه مشهدهم اليوم أولئك الذين فروا إلى لبنان بعد عام 2011، وكانوا من الثائرين على النظام نفسه. وأفادت مصادر أمنية خاصة لــ"المجلة" بأن من مكثوا أياما خلف معبر المصنع الحدودي على الجهة السورية، قبل دخولهم الأراضي اللبنانية من معابر بقاعية غير شرعية بينهم مقاتلون سوريون شيعة وإيرانيون وعراقيون وأفغان منخرطون في "حزب الله".

مفارقات إيواء السوريين

وتنطوي تصرفات الجماعات اللبنانية، وقرارات الحكومة اللبنانية، فيما يتعلق بقدامى اللاجئين السوريين منذ عام 2011 والفارين الجدد بعد سقوط نظام الأسد، على فوضى وتضارب صارخين يعكسان حال التمزق والضياع السياسي في لبنان. ويمكن تلخيص ذلك على الوجه التالي:
- فور سقوط نظام الأسد أعلنت الحكومة اللبنانية عدم فتح المدارس الرسمية التي تعلم التلاميذ السوريين من أبناء قدامى اللاجئين. وهذا بحجة أن النظام الذي طردهم من بلادهم قد سقط، وصار يمكنهم العودة إليها. لكن المنظمات الدولية التي تمول تعليم هؤلاء التلاميذ شرعت في مفاوضة الجهات الرسمية اللبنانية لثنيها عن قرار عدم فتح مدارسهم. وذكّرت هذه المنظمات من تفاوضهم بأن 86 في المئة من تمويل تعليم اللبنانيين في القطاع الرسمي قد يتوقف في حال عزوفهم عن تعليم قدامى أبناء اللاجئين السوريين. هذا فيما احتج معلمو المدارس اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم من المساعدات الدولية لقطاع التعليم.
- قرر "حزب الله" منع قدامى اللاجئين السوريين من العودة إلى جنوب لبنان، حيث كان يعمل ويقيم شطر منهم قبل الحرب الأخيرة. وسرت أقاويل كثيرة تفيد بأن قرار "الحزب" المذكور هدفه استبدال هؤلاء بالفارين السوريين الجدد الذين يؤويهم، لإسكانهم في الجنوب، واستخدامهم يدا عاملة في عملية إعادة البناء والإعمار.
- قدامى اللاجئين السوريين منذ عام 2011، لا تزال بلدات بقاعية سنية هي مراكز إيوائهم ومخيماتهم. أما الفارون السوريون الجدد بعد سقوط نظام الأسد، فالحسينيات في قرى بقاعية شيعية هي مقار إيوائهم. ومن غرائب مشاهد الإيواء في القرى الشيعية التي تعرضت للتدمير في الحرب الأخيرة، ونزح عنها أهلها وعادوا إلى بيوتهم المدمرة والمتصدع بعضها، ذاك الخليط من الهاربين السوريين من بلادهم خائفين بعد سقوط نظام الأسد، ومن العائدين اللبنانيين إلى تلك القرى التي تعرضت أجزاء منها للتدمير. فبعض القرى الشيعية البقاعية التي قصفتها إسرائيل في الحرب الأخيرة، ما إن عاد أهلها إليها ليقيموا فيها كالمهجرين بسبب دمار بيوتهم، تستضيف حسينياتها ومدارسها فارين سوريين موالين للنظام السوري المخلوع، ويرعاهم "حزب الله".
- بعض القرى الحدودية الجنوبية اللبنانية الشيعية لا يزال أهلها غير قادرين على العودة إليها، لأن إسرائيل تحتل أجزاء منها، وهي مدمرة تدميرا كاملا تقريبا. وأهالي هذه القرى لا يزالون ينزلون في مدارس النزوح في بيروت وجبل لبنان والشمال. وعدد هؤلاء النازحين 5600 شخص موزعين على 64 مدرسة تؤويهم.

سوريا التي دمرها نظام الأسد المخلوع، مجتمعا ودولة وجماعات وعمرانا وطبيعة، ينتظرها مسار جديد لا يزال غامضا ومحفوفا بمخاطر كبرى

هل التاريخ لعنة؟

هذا هو المشهد اللبناني بعد سقوط نظام الأسد: ضياع وخواء في بلاد بلا دولة أو بدولة مهترئة، وجماعات منكفئة على عوالمها ومصائرها الداخلية المتكلسة والمتبلدة، وهي تنتظر أقدارها الغامضة التي تسقط عليها من الخارج خبط عشواء. 
وسوريا التي دمرها نظام الأسد المخلوع، مجتمعا ودولة وجماعات وعمرانا وطبيعة، ينتظرها مسار جديد لا يزال غامضا ومحفوفا بمخاطر كبرى، بدأت تطل برأسها وتتفاعل في البلاد السورية.
لقد أُرغم السوريون بالحديد والنار والسجون والقتل على كتمان مآسيهم وكوارثهم المديدة، ونسيانها أو تناسيها والسكوت عنها في أزمنة الظلم والطغيان الدموي الذي محقهم. فهل يظل التاريخ، تاريخهم، يلاحقهم بما سكتوا عنه وكتموه، حتى بعدما قاموا من المحق وانتفضوا على الطغاة الدمويين؟ 
وهل هناك لعنة ما تتربص بهذه البلاد المشرقية، أم إن تاريخها ذاته كناية عن لعنة؟

font change

مقالات ذات صلة