أدى زوال كابوس "الأبد" الأسدي عن سوريا إلى أن ينبعث فيها فرح من عمق أكثر من 50 سنة من الألم والعذاب والرعب، تلك التي أنزلها بالسوريين ذاك الكابوس المهول الذي وعد زوالُهُ معظم الشعب السوري وعدا لا يزال غامضا بالحرية والعدالة، رغم أن دونه عقبات كبرى، وقد يتحقق أو لا يتحقق في الآتي من الأيام.
لكن حيوية التغيرات التي تلابس يوميا المشهد السوري تُنبئ الآن بشيء جديد، أقله ذاك الاندفاع السياسي والدبلوماسي العربي والدولي النشيط للتواصل مع الإدارة العامة السورية الجديدة التي يتصدرها في دمشق قائدها العام أحمد الشرع، بعدما استعاد اسمه هذا الذي اختاره له أهله منذ ولادته، أو هو كشف عنه أخيرا ليباشر نشاطه الرسمي من القصر الرئاسي السوري الدمشقي، بقيافة وإطلالة جديدتين. وهو بهذا نسخ عنه (في العلانية العامة على الأقل) اسمه الحركي والعسكري والإسلامي، وشرع يطلق تصريحات سياسية ودبلوماسية "هادئة" و"مطمئنة" على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية.
لبنان الشلل والتبلد
أما في لبنان الذي كان الراحل حافظ الأسد قد حكمه من دمشق وربط مصيره، أقله منذ 1990، بمصير نظامه، فيبدو في حال من الشلل والتبلد المديدين. فبعد انقضاء أكثر من شهر على النهاية غير الأكيدة بعدُ لتلك الحرب- وقد بادر إليها "حزب الله" قبل أكثر من سنة ضد إسرائيل "مشاغلة" لجيشها و"إسنادا" لغزة، فارتدت على "الحزب" المذكور وجماعته ولبنان كله عاصفة دموية مدمرة في شهريها الأخيرين- عادت البلاد والجماعات اللبنانية إلى سوابق عهودها التي لم تغادرها أصلا، ونسيت أن حربا مهولة قد وقعت. وحتى الجماعة والمناطق التي نالها الشطر الأعظم من الدمار والقتل والترويع، تعيش آلامها ونكبتها في صمت، وكأن ما حدث من أفعال القدر.
نعم، لقد تعوّد سكان لبنان- ربما منذ أوغلوا في حروبهم الأهلية سنة 1975- على أن ما يعيشونه من نكبات وفواجع، ومن خروجٍ وتعافٍ، ليس سوى قدرٍ محتوم يشبه أفعال الطبيعة، ولا يد لهم فيه ولا هم مسؤولون عنه. وهكذا استسلموا للقدر منتظرين أفعاله فيهم، لتعيش كل جماعة منهم قدرها الخاص ونكباتها وفواجعها وآلامها الخاصة. لذا يبدو أن ما يحدث في لبنان لا يحدث فيه، أو هو يحدث فيه كي يُطوى ويُنسى فورا، وهذا يعني أن لبنان بلدٌ على سبيل الاستعارة والتشبيه والكناية، ويتصرف أهله وتتصرف جماعاته على هذا الأساس.
ومن الأمثلة على ذلك أن معظم اللبنانيين يقرون أنهم مع بلدهم، استُعيروا أو استُعملوا "ساحة" لحروب أهلية مديدة. وهذا أيضا ما ارتضوه عندما استعار حافظ الأسد لبنان وجماعاته، وكذلك سوريا وشعبها كـ"ساحة" لمشاريعه الإقليمية والدولية. وهم حين مانعوا أن يرث "حزب الله" عن الأسد الأب "الساحة" اللبنانية ويستعملها في خدمة مشاريع إيران المشرقية، روعهم "الحزب" المذكور وهزمهم، وجعل مع الأسد الابن سوريا ذاتها ملعبا إيرانيا منذ عام 2012.