أدب الذات

المذكرات والدفاتر اليومية توثق الصلة بالذات

أدب الذات

من النتائج الفردية الجمالية الواضحة في الأدب الحديث، هو أدب الذات. يأتي بطابع جديد في العقود الأخيرة، وحضور طاغٍ للذات في الرواية، الذات كعنصر أساسي في عالم الخيال، وكفكرة مأخوذة من السيرة الذاتية كمادة، أو القصة الذاتية كمصدر للعمل، وبالأخص عند أولئك المؤلفين الذين أمضوا طفولتهم وشبابهم في كتابة اليوميات والمذكرات... وهي أوراق خاصة تم التقليل من شأنها التاريخي في الأدب العربي، في بعض العقود من القرن الماضي، بينما الحقيقة أن اليوميات تتمتع بالكثير من المكانة، بل تعد في الألفية الجديدة كمرجع للمؤلفين المعاصرين، من دون اعتباره مرجعاً ثانوياً أو هامشياً، هذا لا يعني جميع الإصدارات. لكن استناداً إلى ما سبق يتضح أنه بات مؤثراً في تشكيل المسيرة الأدبية القادمة للبعض وخاصة الرواية.

مما لا شك فيه أن المذكرات والدفاتر اليومية توثق الصلة بالذات، فهي تسجل الخبرات والمنجزات في المقام الأول، من خلال الأحداث التي يصفها صاحبها ويعللها طالما عايشها وشهدها، ولعلها لحظات عاطفية حاسمة، أو غالباً قصة مهنة، لتبقى هذه المذكرات الورقية وحتى الرقمية، سجلا مكتوبا وموثقا، أو أرشيفا صغيرا لتجارب شخصية وأفكار ومشاعر يسهل تذكرها، باتت تصلح لعمل أدبي، على الرغم من أنها كُتبت ليس بقصد نشرها، إنما بقصد الدفاع عن الذات إن صح لي القول، وأحيانا هي سطور مدونة لتُقرأ بعد الوفاة في نطاق الأسرة، كوصية، أو معاملة منسية، أو سر انتهى زمن كتمانه...

مؤلفون آخرون اعتمدوا في كتابة الرواية على مذكرات المعاملات أيضاً، أو ملاحظات من النوع الذي يتم الاحتفاظ به يومياً، وهي أشبه بسجل يومي للأنشطة الشخصية، تتخللها تارةً تأملات ومشاعر..

هذا وفي بدايات الألفية ترك البعض سجلا صوتيا مسموعا، ومنه ما هو مرئي يسهّل التذكر بجانب التعليقات على الأحداث الجارية على مدار اليوم، دون أن أنسى بأن ثمة سجلات يومية عسكرية لبعض الجنود، استفاد منها الرواة لاحقا وكتبوا رواية إبداعية من وحي الذات للجندي، كما حصل مع الأديب يوسف إدريس، واليوناني كازانتزاكس..

المتتبع لتاريخ دفاتر الملاحظات، أو الكتابة في أوراق، يرى أنها كتابات لا تزيد على بضع دقائق فقط كل يوم، ومن دون قيود، حيث يسمح للأفكار بأن تتدفق بحرية، وللعقل الباطن بالتعبير عن نفسه

المتتبع لتاريخ دفاتر الملاحظات، أو الكتابة في أوراق، يرى أنها كتابات لا تزيد على بضع دقائق فقط كل يوم، ومن دون قيود، حيث يسمح للأفكار بأن تتدفق بحرية، وللعقل الباطن بالتعبير عن نفسه.

إذن تبقى كتابات حرة تكشف جانبا من العواطف الخفية التي تذهب وتأتي، ولعلها تذهب دون أن تأتي، يضع بعضهم رموزا أو حروفا لتمييزها، أو لتصنيفها وجدانيا... وكل ذلك باعتقادي خارج تجربة الكاتب فيما بعد، وأفكاره المحلقة في العمل الذي قرر كتابته ويرغب في نشره، ولم يعد يفكر باستخدام هذه المذكرات بكل أشكالها وأنواعها لأغراض مؤسسية بحثية أو حكومية، بقدر استخدامه الجانب العاطفي والداخلي، وكأنها مهمة روحية عليه كتابتها في قصة أو رواية.

تبقى الرواية الذاتية نابعة من روائي مخدوع، تغلب عليه مشاعر شخصية مفرطة، مشاعر مكتوبة لحاجته الملحة للاعتراف، وعرض الذات في لهجة السرد للبطل وكأنه هو وليس هو، يصارع خياله وعالمه لتنفيذ ما يتجلى له، مستبدلاً الخوف، ليدور في حلقة بهدف تحرير الإنسان وإنقاذه من الخوف الداخلي، حتى يتبين أنه يحاول تحرير نفسه، وهو يصنع رواية إنسانية بوعي، مستنداً على الخيال، رواية ذاتية قادمة من ملاحظات صغيرة ومذكرات واقعية ومحبوسة. 

font change