الفنان السوري سبهان آدم لـ"المجلة": لو لم أكن رساما لكنت عامل نظافة

الجمهور لا يعنيني وصالات الفن دكاكين سمسرة

Facebook
Facebook
الفنان السوري سبهان آدم

الفنان السوري سبهان آدم لـ"المجلة": لو لم أكن رساما لكنت عامل نظافة

بعيون جاحظة ورؤوس مائلة وأجساد ضخمة تتخذ وضعيات غريبة، تبدو كائنات الفنان التشكيلي السوري سبهان آدم بهيئة مسوخ خرجت للتو من باطن الجحيم. يصور آدم العالم الذي نعيش فيه بكل ما أوتي من وحشية وقبح، معاينا عمق التمزقات الداخلية، كاشفا عن عورة العالم القاسي المتواري خلف قناع الحداثة والصراع الداخلي للإنسان الذي يكابد من أجل البقاء في وجه الفوضى المحيطة به، إذ لا طوق نجاة في لوحاته الغارقة بطابع سوداوي فاحم، في رؤية تسعى إلى استشراف المستقبل والتنبؤ بتحولات العالم.

لكن رغم قتامة الأسلوب وفرط الذعر في شخوصه المسخية، يدهمنا أحيانا برسومات بريئة ذات ألوان زاهية، من زاوية طفل يكتشف العالم للتو. "المجلة" حاورت سبهان آدم الذي يروي لنا رؤيته حول العالم، ولماذا كل هذا القبح في أعماله.

التمرد على الطبيعة

يستلهم سبهان آدم (الحسكةـ 1973) شخوصه المرتبكة والحائرة من اللحظة العاطفية الذاتية التي يتورط بها لجهة الألوان والمزاج والحالة النفسية والمواد الخام والموضوع، ناسفا قواعد العمل الفني. فالاتزان عنده كثيرا ما يكون مختلا، أما الوحدة لديه فتصبح غير متماسكة حسب منظورها التقليدي السائد، مما يصنف لوحاته بأنها متمردة على السياق الجمالي، ودائما ما تظهر في فرادة وغرابة لم يسبق للمشهد التشكيلي السوري أن اختبرها، ليجمع الآخرون على فكرة أنه فنان بفطرة غريبة لا يفتعل الغرابة على الإطلاق، منتميا الى تيار التشويه وتكريس القبح الذي هو طاغ في عالمنا. فهو يرسم مدفوعا بجنون العالم لتخرج لوحاته متطرفة نحو الفجيعة.

يقول: "أرسم بسبب الوحشية المفرطة وكل ما يحصل من حروب ودماء مهدورة وسط هذا الهذيان الخارجي والعدم الفكري. يساعدني مناخ الدمار الذي نعيشه في سوريا والعالم والأمزجة الغريبة والمريضة للبشر، على الاستغراق في الرسم وتفكيك الكائن البشري والجماعات البشرية، كما أن شخصيتي المركبة تساهم كثيرا في خلق هذه المخلوقات من العدم".

يساعدني مناخ الدمار الذي نعيشه في سوريا والعالم والأمزجة الغريبة والمريضة للبشر، على الاستغراق في الرسم وتفكيك الكائن البشري

يطأ آدم عتبة عالمه الخاص من باب مرسمه الواقع في شارع العابد بدمشق، حيث يعتكف لأيام لا يخرج منه حتى ينتهي من خلق كائناته الغريبة، في فوضى عارمة من الطلاء وبقايا الطعام وأعقاب السجائر. في مكان محاصر بأمتار من الأقمشة تحتاج إلى جهد عضلي، يمارس آدم طقوس الرسم حدّ الشراهة مع تقشف في الطعام، يقول: "أرسم بنهم شديد وسط هذه الفوضى التي أحبها ولا أطيق أن يرتبها أحد، أرسم لساعات وأيام متواصلة مكتفيا بحبات زيتون وبعض اللبنة والخبز والقهوة والنارجيلة والسجائر".

لوحة للفنان السوري سبهان آدم

طلاء لا ينتهي

تومئ الغزارة في كميات الطلاء والفراشي التي يحيط آدم نفسه بها، إلى شعور بالخوف المفرط  من نفاد الأدوات، يرافقه إحساس بالقلق الإنتاجي والرغبة الملحة بالإنجاز المتواصل. يخبرنا آدم أنه ولد فقيرا يتقاسم الحذاء مع أخوته، فيضطر إلى اللعب حافيا في وحل شوارع الحسكة عندما يذهب أشقاؤه إلى المدرسة، ولم يفارقه هذا الشعور بقلة ذات اليد، بل استمر حتى فترة الشباب حين كان يحارب عوزه ببيع علب الدخان عند إشارات المرور في العاصمة دمشق. ولعل رهاب الفقد جعل منه كائنا قلقا ينغمس في الرسم بإنتاجية عالية واختزان كميات هائلة تبدد قلقه، يقول: "أشعر بالرغبة المستمرة في العمل وأنه عليّ إنجاز المزيد والمزيد، أنجز يوميا ما يتراوح بين 8 و10 لوحات، يشعرني هذا بالارتياح، بينما يتملكني القلق والتوتر عندما لا أشاهد أمامي كميات ضخمة من الألوان، لذلك اتجنب هذا الشعور واختزن كميات هائلة تكفيني لعشر سنوات مقبلة، لا أعتقد أن فنانا سوريا أو عالميا لديه كمية الألوان والأدوات التي لديّ".

لوحة للفنان السوري سبهان آدم

الصورة المضادة للفن

يصور آدم تشوهات العالم ويصبها على وجوه البشر وأجسادهم، معبرا عن مآسي الكون وفواجعه، فتبدو لوحاته عديمة المنظور ذات هوية بصرية مشوهة قاسية تعبر عن حالة الاغتراب النفسي والصراع الداخلي والتشوهات الروحية. فمن يشاهد لوحات آدم يعلم تماما أنه ينفي الصفة البشرية عن لوحاته ويظهرها على نحو مجزأ ومبتور ليعكس التوترات النفسية والوجودية. فالتشويه بالنسبة إليه أداة لاستكشاف صراع الإنسان مع ذاته ومع المحيط الاجتماعي والسياسي.

مشكلتي ليست مع المقلدين بل مع تجار الصالات الفنية الذين يتقوقعون ضمن تكتلات محسوبة

في هدم مباشر للموروث الجمالي، تمكن آدم من لفت الأنظار إلى الصورة المضادة للفن المعتادة على التصاوير الجمالية والمثالية التي لا تخدش العين، إذ استطاع أن يمسك برؤوسنا ويديرها في اتجاه نمط فني غير سائد، فكأنه يشيح بأنظارنا عن المتعارف الفني، طارحا سؤال مهما حول قباحة العالم وجوهره، وكيف يمكن أن يكون التشويه في الفن جمالا من زاوية أخرى رغم بشاعة الموضوع، فكانت النتيجة أن الكثيرين ركبوا موجته وباتوا يقلدونه. لكن هل يشكل ذلك إزعاجا له، يعلق: "لا مشكلة لدي بأن يقلدني بعضهم ويتأثر بي، فهذا دليل على أن تجربتي ملهمة لهم، لكن مشكلتي هي مع تجار الصالات الفنية الذين يتقوقعون ضمن تكتلات محسوبة، وفق حسابات شخصية".

لوحة للفنان السوري سبهان آدم

ثيمة الطفولة

يشتغل آدم حاليا على سلسلة أعمال تستعير عوالم الطفولة، في انحراف واضح عن مسار التشويه، لكنها في الوقت ذاته لا تخلو تماما منه، فجاءت الأعمال التي بدأها منذ عامين وتقارب 500 لوحة بجرعات مخففة من القبح وتركيز قليل من الصدمة التي اعتدنا عليها في أعماله، في لمسة شخصية تعبر عن قضايا فلسفية وجودية. إذ يشكل العمل الحالي مغامرة فنية له من خلال الانتقال إلى أسلوب مختلف، كما أنه وسيلة دفاعية ضد همجية العالم ووحشيته وإزالة طبقات الألم المتراكمة والصراعات الداخلية التي يعيشها، يعلق: "ليس من السهل على أي فنان الانتقال بين أسلوبين متعارضين، إذ يشكل العمل الجديد تحديا مهنيا لي أولا من ناحية طغيان عناصر القوة والصدمة والغرابة في الأشكال والموضوع الثقافي، وثانيا كوسيلة حمائية ذاتية من قسوة عالم الكبار من مجرمين وسياسيين وأصحاب قرار. سلسلة أعمالي الأخيرة خطوة نحو الوراء لرؤية العالم بعين طفولية ترى الأشياء بسذاجة ذات قيم نبيلة".

سلسلة أعمالي الأخيرة خطوة نحو الوراء لرؤية العالم بعين طفولية ترى الأشياء بسذاجة ذات قيم نبيلة

نجد في لوحات آدم نوعا من الاحتجاج على الأدمغة التي تتحكم بمصائر البشر، فيشعر المتلقي عند مشاهدة لوحاته وكائناته المشوهة خلقيا بالانزعاج والقلق، لكنها في الوقت ذاته تثير لديه التأمل والتعاطف مع المعاني الرمزية الكامنة وراء التشويه، وكذلك تستفز فيه القدرة على إيجاد الجمال في شيء مشوه أو غير جذاب، مثيرا أسئلة حول الحدود الفاصلة بين مفهومي الجمال والقبح، ومغيرا إدراك المتلقي وفهمه للثابت الجمالي.

دكاكين سمسرة

واجه الكثير من صالات العرض في سوريا مصائر الإغلاق والدمار والهجرة إلى دول الجوار كواحد من مآلات الحرب، إذ أفسحت الحالة الفوضوية في ظهور سوق يقودها سماسرة غير ذواقين للفن، يقول: "الحماقة تتحكم بالمشهد التشكيلي، هناك اعتقاد سائد بأن صالات العرض ووسائل الإعلام ومنافذ البيع التقليدية والحديثة ونقاد الفن التشكيلي وكل هذه الأمبراطورية قادرة على صنع نجم، طالما يعرضون عمله أمام الجمهور، لكن هذا الكلام يجافي الواقع والتاريخ، عمل الفنان وحده يصنع منه نجما، فالإبداع هو عمل فردي لا صلة للغاليريهات به".

لوحة للفنان السوري سبهان آدم

المراهنة على المنجز الشخصي وقوة اللوحة التي تنبع من ذاتها وتتحدث عن نفسها دون الاتكاء على الإعلام وسماسرة الفن، هي ما يشتغل عليه آدم خلال مسيرته المهنية الحافلة بعداوات الآخرين له، موجها عبر "المجلة" رسالته الى رسامي المستقبل، يقول: "أنا سبهان آدم عشت في حاضنة رديئة شريرة محاطا بالحمقى من كل حدب وصوب، لم يدعمني أحد في مسيرتي الفنية، يكرهونني ويتهمونني بالكراهية الدائمة للآخر، أعيش في العمى وأصارع للبقاء، دفعت ثمن هذه العداوات شعوري بالقلق المتواصل والعزلة وحياكة المؤامرات، وعلى الآخرين إعادة النظر في تجربتي الثرية التي تتسم بالغزارة الإنتاجية التي ستمتد لعقود من الزمن".

الذكاء الصناعي يهدد الصغار فقط

يعتقد آدم أن وسائل التواصل الاجتماعي فاقمت فوضى المشهد التشكيلي السوري ومنحت من يصفهم بـ"الفارغين"، "قيمة كبيرة لا يستحقونها"، يقول: "أصبح للحمقى  ومدّعي النجاح منابر للتعبير والتنظير والتفاخر". لكن ماذا عن ثورة الذكاء الصناعي التي باتت تهدد وجود الكثير من المهن، هل في مقدروه أن يزيح التشكيليين، يجيب آدم: "نعم، في إمكان الذكاء الصناعي أن يحل محل التشكيليين الصغار عديمي الموهبة والحضور ومهن التصميم والخط العربي، أما الفن الذاتي فهو عصيّ على ذلك، من الصعب إلغائي والسطو على تجربتي لأنني استمد الحالة من العفوية ولحظة الإلهام التي أجهل إلى أين ستأخذني حتى نهاية المنجز، تجربتي غير خاضعة لمعادلات التكرار".

في إمكان الذكاء الصناعي أن يحل محل التشكيليين الصغار عديمي الموهبة والحضور، أما الفن الذاتي فهو عصيّ على ذلك

يدير سبهان آدم ظهره للجمهور والمجتمع ومعايير المحترف التشكيلي السوري، فهو يرسم من أجل غبطته  الذاتية وصراعه مع المجتمع متخذا من الرسم وسيلة للتعبير عن أفكاره إزاء الحياة وقسوة العالم ووحشته، فالرسم عنده موضوع شخصي لا يحتمل وجود الآخرين ومشاركتهم، مستعينا بالتندر للسخرية من الأحداث السياسية والاقتصادية وأحوال العالم، يقول: "لا أرسم من أجل إرضاء الجمهور ولا المجتمع، لدي صراعاتي الداخلية وثراء عالمي الداخلي، أرسم شخوصي بنبرة ساخرة شبيهة بطباعي الخاصة وشخصيتي التهكمية، أسخر من الوفرة الوفيرة للمهزلة والترهات التي تحصل في العالم".

الفنان السوري سبهان آدم

حملت أعمال آدم استشرافا واضحا للمستقبل العربي عبر تصوير الرؤوس المقطوعة، في إشارة إلى المجموعات المتشددة وما حدث في سوريا والعراق، إلى جانب جائحة كوفيد19 التي عبّر عنها في لوحة "الكمامة"، وفيها يظهر كائنه مرتديا القناع. سألناه كيف تمكن من استشراف كل هذه الأحداث الدامية التي شهدتها وتشهدها المنطقة، يجيب: "عين المبدع تختلف كليا عن عين السياسي، المبدع طالما كان قادرا على التماس التفاصيل والتنبؤ بالأحداث قبل وقوعها بأشواط من الزمن، أتلصص على أحداث العالم وأقرأ التاريخ من زاوية فاحصة بعيدا من المواقف السياسية الجاهزة".

بقائي في دمشق قرار شخصي محض تحملت مسؤوليته ودفعت ثمنه الإهمال وعدم الاهتمام بأعمالي

يُعرَف عن سبهان آدم عزوفه عن حضور معارضه وعدم لقائه الجمهورـ لاعترافه الشخصي بأن لديه مشاكل في التواصل مع الآخر، يقول: "الحوار مع البشر عقيم منذ لحظة الخلق الأولى، حاولت استلطافهم لكن لديهم شروطهم القاسية وأنا شخصيتي ارتكاسية نحو الذات لا تخضع لأي اعتبارات دينية أو سياسية أو أيديولوجية".

خيار البقاء في سوريا

لم يتأثر آدم بالأصول البدوية التي ينحدر منها من مدينة الحسكة الواقعة شمال شرق سوريا، متجاوزا الهوية السورية وكل هوية آخرى تؤطره وتقيده في مكان جغرافي واحد. لكن رغم العلاقة المعقدة التي تربطه بسوريا والبؤس المحيط بها، آثر البقاء فيها خلال سنوات الحرب ولم يغادر البلاد: "شاءت الأقدار أننا خلقنا في الشرق البركاني، نعيش في الحضيض الذي تتوالد منه موضوعاتي، هنا في شوارع دمشق توجد واقعية كبيرة تفتح شهيتي للرسم، عندما سافرت الي باريس شعرت بالغربة والضياع وعدم القدرة على الاستمرار، لو لم أكن رساما لكنت عامل نظافة".

يتابع: "بقائي في دمشق قرار شخصي محض تحملت مسؤوليته ودفعت ثمنه الإهمال وعدم الاهتمام بأعمالي لأن ثمة لوبي يتحكم بمصائرنا، أردت أن أكون قريبا من الحدث، فالرسم من خلف نوافذ باريس أو سواها مجرد خربشات، لأن الرسم يحتاج إلى الحضور الفيزيائي في المكان".

يعتبر سبهان آدم من الفنانين القلائل في سوريا والعالم ممن يعتاشون من الفن دون موارد مالية أخرى أو استثمارات، فكانت لوحاته قبل اندلاع الحرب تباع قبل البدء بها بوتيرة بيع مستمرة ولا تزال حتى الآن وإن على نحو أقل، فالرسم حسب تعبيره "عمل شاق لا تعرف إلى أين يأخذك، أعتاش من بيع لوحاتي فقط وليس لدي أي موارد أخرى".

font change

مقالات ذات صلة