يوسف العُش ورجال المجد العربي

مثقف موسوعي لم ينل حقه من الاهتمام

Aliaa Abou Khaddour
Aliaa Abou Khaddour

يوسف العُش ورجال المجد العربي

يوسف بن رشيد العش (1911– 1967) من أبرز المفكرين والمحققين في منتصف القرن العشرين، له أثر كبير في الحياة الثقافية العربية، خاصة في سوريا، فهو أول من تخصص في تنسيق الكتب والوثائق فيها، وعين محافظا لدار الكتب الظاهرية بدمشق فمكث فيها ما يقرب من عشر سنوات نسق كتبها المطبوعة والمخطوطة، ووضع فهرسا في مجلد للمخطوطات التاريخية التي تحويها، وانتدب للجامعة العربية بالقاهرة، فأُنشى في أيامه "معهد المخطوطات" وتولى إدارته، وقام برحلة من أجله صور بها كثيرا من المخطوطات، وعاد إلى سوريا فعين أمينا لجامعة دمشق سنة 1950، فمديرا للإذاعة السورية، فأستاذا بكلية الشريعة للتاريخ واللغة الفرنسية، فعميدا لها.

إخلاص للعلم

وصفه أحمد أمين في تقديمه لكتاب "الخطيب البغدادي، مؤرخ بغداد ومحدثها" فقال: "عرفت الأستاذ يوسف العش شابا ممتلئا نشاطا، مخلصا للعلم، جادا للبحث وراء الحق، لم تمنعه ثقافته الغربية أن يصرف أطول زمنه نابشا في الكتب الشرقية، مسلطا ضوء المنهج الذي اكتسبه من الغرب على التراث العظيم الذي خلفه لنا الشرق... وقد أعجبني فيه دقة البحث، وصبر المؤلف على الدرس، ورجوعه إلى مظان كثيرة بين مخطوطة ومطبوعة".

ورغم السيرة العلمية الحافلة للعش، إلا أن الترجمات عنه شحيحة نادرة، وربما نجد له ترجمة يتيمة كتبها عنه ابنه صفوان العش، في تقديمه لأحد مؤلفات والده، يقول فيها: "ولد أبي في منطقة الميناء من طرابلس الشام عام 1911 وكان الابن الاكبر لأب متوسط الحال يعمل بالتجارة، ثم غادر أهله بطرابلس وهو ما زال صغيرا، ناجين بأنفسهم من مدافع السفن التي أخذت تضرب السواحل اللبنانية خلال الحرب العالمية الأولى، فتوجهوا منها الى مدينة حمص، ثم الى حلب حيث أسس فيها والده تجارته بالمواد الغذائية، وجنى من ورائها أرباحا.

قدم العش للمكتبة العربية مؤلفات مهمة في التاريخ والحضارة الإسلامية والتحقيق العلمي للتراث العربي

وفي حلب تلقى تعليمه الثانوي وحصل على البكالوريا الأولى سنة 1929 ثم سافر إلى دمشق، فدرس في المدرسة السلطانية (مكتب عنبر) وحصل منها على البكالوريا الثانية بتفوق سنة 1931 فأوفدته فرنسا للدراسة في جامعة السوربون، وأمضى في باريس ثلاث سنوات ونيفا اكتسب خلالها ثقافة غربية، واطلع على حضارة الغرب وعلومه، ونال بعدها درجة الليسانس في الآداب عام 1934 وحصل أيضا على شهادة في تنظيم دُور الكتب في مدرسة الشروط بباريس.

الدكتور يوسف العش

ولما عاد الى دمشق عُيّن مديرا لدار الكتب الوطنية الظاهرية عام 1935 فقام بتنظيمها أحسن تنظيم. وقد حدّثني بعض من يعمل فيها الآن (أي بعد أكثر من خمسين عاما) أن نظام التصنيف والحفظ الذي وضعه لها ما زال متَّبعا فيها بخطوطه الرئيسية كلها".

Aliaa Abou Khaddour

مؤلفات مهمة

قدم العش للمكتبة العربية مؤلفات مهمة في التاريخ والحضارة الإسلامية والتحقيق العلمي للتراث العربي، من أبرزها كتاب "دور الكتب العربية العامة وشبة العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط"، وكتاب "تصنيف العلوم والمعارف" وهو أول كتاب عربي صنفت فيه العلوم بطريقة منطقية تستقي من تصنيف أوغست كانط للعلوم، وكتاب "الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدثها" الذي درس فيه شخصية الخطيب البغدادي، وعرض صفاته النفسية والخلقية، وبين قيمته وأثره، وصفة العصر الذي كان فيه، وخصائص منهجه العلمي،  وكتاب "قصة عبقري" عن شخصية الخليل بن أحمد الفراهيدي، وبحث عن الحضارة الفرنسية قدمه لليونسكو.

غلاف كتاب "الخطيب البغدادي، مؤرخ بغداد ومحدثها"

ومن أهم مؤلفاته، كتابه المهم والقيم "الدولة الأموية والأحداث التي سبقتها ومهدت لها" حيث قدم فيه تحليلا عميقا لتلك الحقبة المضطربة من تاريخ الإسلام، حاول أن يفكك الأحداث بروية وهدوء محللا ومتتبعا العوامل والمعطيات التي تساعد في استجلاء الصورة والوصول إلى الحقيقة. فقد كان العش في بحثه موضوعيا يتحرى الدقة، ويتمهل ويتروى قبل إصدار الأحكام، ويدرس الروايات المختلفة، ويبذل جهده في فهم ظروف الزمن التي وقعت فيه الأحداث بكل ما يحوي من عوامل اقتصادية وثقافية واجتماعية ونفسية، وفي هذا يقول في مقدمة الكتاب: "على التاريخ أن يسجل الحوادث تسجيلا دقيقا، وأن يفسرها تفسيرا صالحا، فيذكر العوامل التي وجهتها وأعطتها صفتها وحددت طبيعتها. والحادث التاريخي إنما يحدث في بيئة جغرافية وزمنية لها صفتها الخاصة، وفي شروط مادية واقتصادية لها طبيعتها، وفي وسط من أفكار وأنظمة وعقائد ومذاهب لها اتجاهاتها ونزعاتها، وبين جماعات من الناس لها ميولها ونفسياتها وطبائعها وأخلاقها، ويشترك في ذلك الحادث أفراد يلعبون دورهم فيه برغباتهم وطبائعهم ونفوسهم. فالحادث التاريخي يتكون إذن من مجموعة تلك العوامل التي تداخلت فيه، فإذا هو ما هو".

يرى العش أن النزعة العربية في الحكم الأموي ليست نزعة أموية خالصة، فهي نزعة الخلافة الراشدية

ابتدأ العش في كتابه بالحديث عن المجتمع والحكومة والاقتصاد في صدر الإسلام، ونظام الحكم في عهد عمر بن الخطاب، ثم أفرد مبحثا خاصا عن الفتنة حتى آخر موقعة الجمل، قام بعرض ونقد مصادر الروايات في أحداث الفتنة وتحليلها، وتحدث عن أسباب الفتنة واليد الخفية فيها. ثم انتقل للحديث عن تأسيس حكم بني أمية، ونظام حكمهم، وخصائص منهجهم، وخصال رجالهم، وتناول عصر كل خليفة من خلفاء بني أمية، ثم ختم كتابه بمبحث نفيس عنوانه "نظرة عامة في الحكم الأموي".

غلاف كتاب "الدولة الأموية"

الدولة الأموية

يقدم يوسف العش في كتابه "الدولة الأموية" مدخلا مهما لفهم طبيعة الظروف المعقدة التي واكبت تلك الفترة من تاريخ الإسلام، وكيف كانت التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية كبيرة جدا، وسريعة في الوقت نفسه، وكل هذه الأحوال كانت بحاجة قائد عبقري، محنك، خبير بالسياسة وطبائع الناس، وكان رجل المرحلة في ذلك الوقت هو معاوية بن أبي سفيان.

GettyImages
نقش تاريخي لمسجد بني أمية في دمشق

ويرى العش أن النزعة العربية في الحكم الأموي ليست نزعة أموية خالصة، فهي نزعة الخلافة الراشدية، فعمر ما كان يساوي من حيث نظرته بين العربي وغير العربي، فالعربي في نظره يجب أن يكون سند الإسلام الأول، ويجب أن يُسلم العرب كلهم مهما تأخر إسلامهم، فلا تؤخذ الجزية مثلا من نصارى بني تغلب، إنما تؤخذ منهم الصدقات مضاعفة، وعليهم ألا ينصِّروا أولادهم. وانطلق الأمويون في هذا الطريق باعتبار العربي مقدما على غير العربي لا تعصبا له، بل تعاضدا به واستنجادا بنزعته نحو الإسلام الذي أصبح دين العرب.

يؤكد العش أن هناك سببا آخر للعصبية العربية المقدمة عند الأمويين، وهي أن الأمويين في ذلك إنما يأخذون بعصبية لها قوتها فيستندون إليها، فالعرب هم المحاربون الأولون، وفي يدهم القيادات، وعليهم يرتكز بناء الدولة الحربي، أما غيرهم فرعية قائمة على الأرض أو العمل المهني، ولا يرجى من عصبيتها الشيء الكثير ويتبع التعاضد بالعرب جعل الدولة عربية بلغتها عروبة كاملة غير منقوصة، فاللغة العربية هي لغة الدواوين والنقد والعلم والدولة عامة. وقد رأينا حركة التعريب التي تمت في عهد الأمويين، بحيث أصبح كل شيء عربي اللغة.

تميزت رؤيته بالعمق المعرفي، والطرح الموضوعي، والخطاب الرصين الذي يؤمن بثراء التراث العربي وسعته وتنوعه

وفي ختام كتابه يتساءل العش: ما هي مكانة بني أمية في تاريخ الإسلام والعرب؟ وهل لهم في صرح ذلك التاريخ ركن بنوه؟ فيجيب: "إنهم هم الذين وضعوا أصول الحكم في تاريخنا الطويل، فالعباسيون لم يزيدوا في أصولهم إلا القليل، وهم الذين عرّبوا الدولة وأدوات الدولة، وهم الذين وضعوا أنظمة الاقتصاد الإسلامي بعد أن وضع عمر بن الخطاب تفاصيل تشريعه، وهم الذين وضعوا مبادئ الفن العربي والمدنية العربية، وهم الذين فتحوا طريق العلم والتأليف للعرب.  وجملة القول: إنهم واضعوا أصول الدولة الإسلامية العربية، وفنها، وعلمها، واقتصادها".

لقد كان يوسف العش نموذجا فريدا لمثقف عربي متكامل، لم ينل حقه من العناية والاهتمام، تميزت رؤيته بالعمق المعرفي، والطرح الموضوعي، والخطاب الرصين الذي يؤمن بثراء التراث العربي وسعته وتنوعه، وأن هذا التراث ما زال يستحق المزيد من البحث الدراسة والتأمل.

font change

مقالات ذات صلة