مكادي نحاس لـ"المجلة": التراث الأردني شكّل شخصيتي الغنائية وفلسطين قضيتي

تستعد لإصدار ألبومها السادس

مكادي نحاس في مهرجانات الفحيص في الأردن

مكادي نحاس لـ"المجلة": التراث الأردني شكّل شخصيتي الغنائية وفلسطين قضيتي

"يطوف في ذاكرتي هذا المشهد من مدينتي مأدبا. كانت الأعراس تقام في ساحات بيوتنا، وأنا طفلة صغيرة، أقف وراء أمي متمسكة بثوبها، أراقب المحتفلين. ضحكاتهم تملأ المكان وتختلط مع التهاليل الصاخبة، ينشدون الأغنيات ويتناولون الأطباق التقليدية، والفرح يختلط بنشوة المشروب. وعندما يحين وداع العروس، ويكون المزاج في أوجه، يختمون بأغنية ’يا خيي قول لأمّي’. كنت أشعر أن هذه الأغنية لغتهم في الحزن والفقد، كأنها تسأل، كيف ستتركنا ابنتنا وتعيش مع الغريب؟ وحين قررت تجديد أغنية من تراث الأردن، فكرت بها".

تتحدث مكادي نحاس لـ"المجلة" عن خلفية تجديدها أغنيتها الأوسع انتشارا "هيا على هيا/ يا خيي قول لامي". ولا تتبنى المعتقدات الشائعة حولها، مفسرة ميزتها بإحساس عميق بالشجن، وأنها قصة نموذجية قد تحدث في المجتمعات التقليدية، حين يفضل الأهل تزويج بناتهم لأبناء الأعمام. وتوضح أن أحدا لم يقتل الصبية، كما لم تجسّد الأغنية على الفسيفساء في مأدبا. فالفسيفساء تعود إلى آلاف السنين، بينما الأغنية من التراث.

شكلت هذه الأغنية شخصية نحاس الفنية في الأردن والمنطقة العربية، كما أحدثت انتقالا في المشهد الفني الأردني، الذي كان يفتقر إلى محاولات جادة لإحياء التراث الغنائي، ولا يزال يحتاج الى جهود كبيرة لتقديمه الى الجمهور العربي، ويكاد يغيب عن معرفة الجيل الأردني الجديد.

الفن الملتزم وعقباته

تستمر مكادي بتجديد اللون التراثي الذي يندرج ضمن خطها الملتزم على مدى 25 عاما، فهي اليوم تضع اللمسات الأخيرة على ألبومها السادس، الذي يصدر مطلع العام 2025. يضم الألبوم 10 إلى 12 أغنية تراثية أردنية، بروح عصرية، ويتولى الملحن والموسيقار اللبناني أسامة الرحباني التوزيع والانتاج الموسيقي، والانتاج ذاتي عبر "مقام"، التي أسستها بالشراكة مع زوجها سعود علان.

بدأت مسيرتها بالغناء الشرقي الكلاسيكي لفيروز والشيخ إمام ونجاة الصغيرة، ثم انتقلت إلى الاهتمام بالأداء العصري للألوان الأردنية والشامية التراثية

تتمتع مكادي نحاس بصوت نسائي ندي وعميق. تعتمد على أسلوب موسيقي يدمج بين الشرقي الكلاسيكي والجاز. تتنقل بين الطبقات الصوتية بمرونة واستمرارية لحنية. كما تسيطر على الشفافية والتشبع اللفظي معا، فميّزتها الأغنيات التي تحمل عمقا عاطفيا، والقدرة على أداء طيف واسع من الألوان الصوتية، في تعبير يعكس تفاعلا حيا ومتوازنا مع النص الموسيقي.

مكادي نحاس

بدأت مسيرتها بالغناء الشرقي الكلاسيكي لفيروز والشيخ إمام ونجاة الصغيرة، ثم انتقلت إلى الاهتمام بالأداء العصري للألوان الأردنية والشامية التراثية، الذي يلقى تفاعلا متزايدا بين الجمهور الشبابي المهتم بالموسيقى البديلة. كما طورت تجربتها في أغانيها الخاصة التي دخل فيها الجاز.

في رصيدها خمسة ألبومات: "كان يا ما كان" (عام 2001) الذي يتضمن مجموعة من أغاني الفولكلور العراقي أمثال "هذا الحلو كاتلني يا عمي"، و"خاله شكو"، و"صغيرة كنت وانت صغيرون".  ألبومها الثاني "خلخال" (عام 2006) يجمع أغاني من بلاد الشام، من بينها "يا خيي قول لأمي"، و"مويل الهوى". أما ألبومها الثالث "جوا الأحلام" (عام 2009)، فيجسد التزامها تثقيف الأطفال موسيقيا. تخبرنا أنها لاحظت خلال تطوعها في حي من الأقل حظا في عمان، أن الأطفال يرددون أغاني هابطة، فقررت تقديم الألبوم لإثراء مخيلتهم وتعزيز لغتهم العربية، ووزعته في المكتبات العامة والحضانات. ينسجم هذا الاهتمام مع مشاركتها في أعمال مسرحية للأطفال في لبنان مع "مسرح الدمى" و"السنابل".

وفي 2012، أهدت مكادي نحاس ألبومها الرابع "إلى سالم"، لروح والدها، السياسي والمناضل الأردني سالم نحاس، الذي لعب دورا مؤثرا في إلهام هويتها الفنية، خصوصا في التزامها القضية الفلسطينية. تقول لـ"المجلة": "وقع والدي ذات يوم على ملف يحوي كتاباتي، وعندما قرأ بعض النصوص، قال: لا يعقل أن فتاة في الثالثة عشرة تمتلك هذا التعبير. سأصنع منك كاتبة عظيمة. وبالفعل، درستُ الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، ولكن كتبت الأغاني".

مكادي نحاس في مهرجانات الفحيص في الأردن

في الألبوم الخامس "نور" (عام 2014) تتجسد قدرتها الكتابية، حيث مزجت الأسلوب الكلاسيكي الشرقي، والجاز، والمقامات العربية، والموسيقى اللاتينية، كما يعكس نضج مشروعها الفني كمغنية وملحنة وكاتبة. نشير في المجموعة إلى أغنية "إنتَ الحلا"، حيث تصف حبيبها باستعارات تعبر عن حسية وتجربة عاطفية عميقة. تقول فيها: "إنتَ الهوا والورد المعربش عحيطاني، وإنتَ الولد اللي عم يلعب بفستاني، وإنتَ الحلم يلي جاية وما رح ينساني". تضحك: "نعم، الأغنية من كلماتي وألحاني، وكانت هديتي لحبيبي بعد زواجنا.".

إيقاع خاص

عندما اختارت مكادي نحاس خطها الفني، كانت على دراية بالعقبات التي ستواجهها، ومن أبرزها العوائد المالية المحدودة التي تعكس رغبة السوق والتسويق، فللجمهور النخبوي مساحة محدودة في عداد المستمعين: "الأهم أنني أحتفظ بنمطي وأسير بإيقاعي الخاص. أغلّب النوعية على الكمية، بينما الغناء السائد لا يهمه بنيان النص ولا القيمة الفنية".

أحتفظ بنمطي وأسير بإيقاعي الخاص. أغلّب النوعية على الكمية، بينما الغناء السائد لا يهمه بنيان النص ولا القيمة الفنية

تعمل على ألبومها الأخير منذ أكثر من سنتين، واصلت خلالهما البحث عن الأغاني التراثية الأردنية وجمع التمويل اللازم، في ظل قلة الفرص. تضيف "إن الاهتمام بالغناء في الأردن لا يزال مبكرا مقارنة بالمحيط العربي، ويحتاج التراكم والمشروع الوطني الذي يشجع الغناء لأجل الغناء، وينشره أكثر في ثقافتنا اليومية".

تعتبر أنه رغم نجاح بعض الأصوات الأردنية في برامج المواهب، غالبا ما تواجه صعوبة في الاستمرار، مما يدفع العديد إلى الغناء في المطاعم والأعراس. ورغم أنها تفهم هذا الخيار، إلا أنها ترى أنه لا يليق بالموهبة الحقيقية.

مكادي نحاس

تنتمي مكادي نحّاس إلى "الفن الحقيقي الذي لا يعنيه الإعلان عن نفسه، بل يكتمل في الصمت". لكنها تعلم أنها ليست وحدها، إذ يشترك معها فنانون في المنطقة العربية، تستحق تجاربهم التقدير والأضواء "يخطر ببالي حمزة نمرة، ومحمد محسن من مصر، أسماء لمنور من المغرب، وسهى المصري من اليمن، واللبناني مايك ماسي، وبلقيس الإماراتية شابة ذكية تتمتع بالصوت والفكر والشكل. وهناك رشا رزق من سوريا، التي إلى جانب مقوماتها الصوتية العالية، دفعت ثمنا كبيرا في موقفها ضد الأسد".

تنتقد الاعلام التقليدي لأنه أسطر وجوها فنية لا تقدم مضمونا قيما، وفي رأيها، أنه مهد الطريق للمؤثرين والمؤثرات الذين صنعتهم مواقع التواصل الاجتماعي، والتي ساهمت في تسليع المرأة والهبوط بمعاييرها الجمالية صوتا وصورة. لا تجد الظاهرة جديدة، لكن المشكلة أنها أصبحت تتمدد بلا خجل "أسأل نفسي كل يوم، من أين يستمد هؤلاء الثقة بالنفس؟ في حين يداومن في عيادات التجميل، أفضل تخصيص هذه الساعات لتمرين صوتي".

قبل التوجه إلى تمارين غنائية، اختارت مكادي اللقاء في مقهى شبابي بمنطقة "اللويبدة" في جبل عمان، وهي منطقة تمثل حالة ثقافية صاعدة في العاصمة الأردنية، حيث ينشئ الشباب الأردنيون مبادرات ثقافية وفنية، ويقومون بإدارة مقاهٍ وورش إبداعية ومكتبات عامة. والملاحظ حرص مكادي على تشجيعهم عبر حسابها الشخصي على "إنستاغرام"، "فهم يمتلكون شيئا مهما ليقولوه".

مكادي نحاس في أوبرا تونس دعماً لغزة، أكتوبر 2023

فلسطين

المتابع لخيارات مكادي نحّاس، يجد فيها مرآة لـ"مَن يتدخل في ما لا يعنيه"، التي عرّف فيها سارتر من يهتم بالقضايا العامة. محورها الثابت هو فلسطين.

ففي موسم 2024 لمهرجانات جرش الموسيقية، انخرطت في نقاش حول مقاطعة المهرجانات، على خلفية رأي في الأردن يعتقد أن تنظيمها لا يعبأ بآلام الفلسطينيين، وبإبادتهم المستمرة في غزة. لكنها تمسكت بإحياء حفلها الغنائي، مرددة "سأغني لفلسطين، فالغناء أيضا فعل مقاومة".

فلسطينيون يشككون في مدى حبي لهم لأنني أردنية، وأردنيون يعتبرونني بعيدة، لأن قلبي في فلسطين

وكان من المفترض أن تشارك مكادي في حفل موسيقي في تونس يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدعوة من وزارة الثقافة، قبل أن يتحول الحفل إلى فعالية لدعم الغزيين، حيث ساهمت في جمع 50 ألف دولار أُرسلت إلى غزة عبر الهلال الأحمر التونسي. كما أحيت حفلا في الجامعة الأميركية في الشارقة، خصص ريعه لتسديد تكاليف دراسة الطلاب الغزيين في الشارقة، فضلا عن استضافة آخرين لاستكمال دراستهم. وتزامن الحفل مع مزاد علني فني جمع 2.5 مليون دولار.

لم يعزز هذا الموقف وضع مكادي الفني في الأردن، بل وضعها في موقف معقد داخل البلد المختلط، وحساسياته الكامنة لدى الجمهور من الجنسيتين. تصف مكادي الأمر قائلة: "فلسطينيون يشككون في مدى حبي لهم لأنني أردنية، وأردنيون يعتبرونني بعيدة، لأن قلبي في فلسطين".

وقدمت مكادي العام الماضي أغنية "غنوا فلسطين"، التي كانت من ألحانها وكلمات هاني نديم، وكانا تعاونا سابقا في أغنيتها الشهيرة "يا خيام"، التي غنتها لأجل اللاجئين السوريين والفلسطينيين وكل اللاجئين في العالم، في وقت كانت تتوالى فيه مشاهد المهاجرين الغرقى على الشواطئ الأوروبية. واندفعت إلى تلحين الأغنية بعدما لم تقنعها محاولات أربعة ملحنين. وفي موقفها الثابت ضد النظام السوري، تؤكد: "تلقيت دعوات عدة للغناء في دار الأوبرا في دمشق، ورفضت. فهل كان من الوارد أن أقف هناك وأغني 'يا ظلام السجن خيّم؟'".

بيروت وزياد الرحباني

تدين مكادي نحاس لبيروت بمشوارها الفني، فقد احترفت الغناء بفضل بيئتها الحاضنة للفن.

تنقلنا إلى عام 1998، حين تقدمت لمسابقة "أجمل صوت على أم. بي. سي." التي كان ينظمها راديو "أم. بي. سي FM" من لندن "رد عليّ المجيب الآلي. غنيت مقطعا من "بعدك على بالي لفيروز"، وتركت اسمي ورقم الهاتف ولم أتوقع شيئا.".

صحيفة "العرب اليوم"، 9 آب 1998

بعد مرور ثلاثة أشهر، تستفيق مكادي على خبر نشرته صحيفة "العرب اليوم" بعنوان: "مكادي نحاس... أنت مطلوبة!". فقد تأهلت ضمن المتبارين العشرة الأوائل، ولكن الإذاعة لم تستطع الوصول إليها: "كنت وأخوتي نسرف في استخدام الهاتف، فقطع والدي الخط عقابا لنا. انتهى الأمر بأنني اتصلت بهم من بيت الجيران.".

وكان من المقرر أولا تصوير الحلقة في لندن، ولكن طرأ تغيير وانتقل التصوير إلى بيروت.

تلقّيت دعوات عدة للغناء في دار الأوبرا في دمشق، ورفضت. فهل كان من الوارد أن أقف هناك وأغني 'يا ظلام السجن خيّم؟'

كانت بيروت المدينة الكوزموبوليتية محورا في البنيان الثقافي والفني العربي منذ الستينات، ووجهة لمن يريد أن يتعلم وينخرط في فلك النخبة الفنية اللبنانية والعربية، التي تجسّدت مجموعة مهمة منهم في مثقفي شارع الحمراء.

تعرفت الى الموسيقيين خالد الهبر وأسامة الخطيب، وسجلت أغنيتين من ألحانهما بصوتها، هما "أمّي"، و"مهضوم كتير".

ليلة عودة مكادي إلى عمان، وكانت لا تزال طالبة جامعية، أخبرها أسامة الخطيب أنهما سيقصدان شخصا سيعطي رأيه بالأغنيتين "في شارع الوردية بناية حمراء، صعدنا سلالمها معا، وفتح الباب. كان زياد الرحباني يقف وراءه بثياب النوم. حدّقت به بذهول، وهو أيضا لم يتوقع زيارة أحد. كنت لا أزال تحت وقع المفاجأة حين حاول أسامة الخطيب تشغيل الـCD ولم يعمل. كدت أنفجر باكية، إلى أن دار الـCD، وانتظرت بقلق. بعدما سمع زياد الأغنية سأل: مَن يغنّي؟".

مكادي نحاس خلال حفل فني في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان

لا تنسى الفتاة العشرينية، التي بدأت هاوية في ممارسة الغناء، تعليق زياد: "صوتك حلو. كتير مأثرة بفيروز". تضيف: "قال إن مستمعا عاديا سيتساءل إن كانت فيروز التي تغنّي أم شخصا آخر. ثم سأل إن كنت درست الموسيقى، فحزمت أمري: في اليوم التالي تسجلت بالمعهد العالي للموسيقى في بيروت، ولم يعد الغناء مجرد هواية، ولم أعد إلى الأردن لغاية 2007".

يطرح هذا الاطراء سؤالا حول التعاون مع زياد الرحباني. تعلق مكادي نحاس: "مشكلتي، وربما ميزتي، أنني لا أحب الصيغ السهلة. أرفض فرض نفسي على أحد، أو أن أطلب التعاون، خصوصا مع زياد، الذي نعلم أن الهالة التي تحيط به تشعره بثقل كبير، ولو أنه لا يعبأ بها. ولكن في كل مرة نلتقي، يبدي اهتماما حقيقيا بأعمالي. التعاون ليس احتمالا بعيدا".

font change

مقالات ذات صلة