لن يخالفنا أحد إن اعتبرنا الشاعر الروماني الفرنسي بول تسيلان (1920 ـــ 1970) أحد أهم مبدعي القرن العشرين، وصاحب عمل شعري ثوّر، بشكله ومضمونه، كتابة الشعر ووسع فضاءاته. لكن الإجماع على عبقرية هذا الشاعر لا يعني أننا بتنا نملك معرفة دقيقة لإنتاجه الشعري، على الرغم من الترجمات والدراسات الغزيرة التي حظي بها. والسبب؟ هرمسية نصوصه التي تحول دون محاصرة كل دلالاتها، والهالة المحيطة باسمه، منذ رحيله، التي بقدر ما تخطف الأنظار، تستبقي الممغنطين بها على مسافة منه.
هذا تحديدا ما دفع صديق تسيلان، وأحد أبرز المتخصصين في شعريته، السويسري جون جاكسون، إلى إرفاق المختارات الواسعة التي نقلها حديثا إلى الفرنسية من شعره، بمقدمة مرجعية تقع في 73 صفحة، وتقدم الى قارئ هذا الكتاب، الذي صدر في باريس عن دار "كورتي"، عناصر تاريخية ونقدية تسهل، بوفرتها وقيمتها، فهم ظروف انبثاق هذا المشروع الشعري الفريد، وطبيعته.
عشق الألمانية
من تشيرنويتز (بوكوفينا) حيث ولد تسيلان ونشأ، إلى باريس حيث أمضى العقدين الأخيرين من حياته، مرورا ببوخارست وفيينا اللتين عاش فترة فيهما، ومن مسألة عشقه اللغة الألمانية منذ نعومة أظفاره، إلى إعادة تملكه هذه اللغة، بعدما أصبحت لغة جلاديه، تنير هذه المقدمة مسيرة الشاعر وتمنحنا ما يلزم لولوج نصوصه، إضافة إلى توفيرها معطيات مثيرة يجهلها معظمنا حول النظرة النقدية، كي لا نقول السلبية، التي ألقاها شاعر المحرقة اليهودية بامتياز على اليهودية كمعتقد وهوية وبيئة اجتماعية.
في بداية هذه المقدمة، نعرف أن ترسخ تسيلان في اللغة الألمانية وعشقه لها يدين بهما لأمه التي حثته منذ صغره على إتقانها والتكلم بها بشكل صحيح. لماذا؟ لأن هذه الأم كانت تمقت اليديشية وتعتبرها "لغة هجينة"، ولأنها كانت تشعر بامتنان تجاه المملكة النمساوية التي منحت أبناء طائفتها، يهود مقاطعة بوكوفينا، حقوقا مدنية كاملة منذ عام 1867. وبما أن زوجها كان متزمتا دينيا، وعلاقته بابنه اتسمت بقسوة أفضت بسرعة إلى عداء، "بقيت العبرية، بالنسبة إلى الطفل تسيلان، لغة الأب، أي لغة عدائية"، فلم يتحمس إطلاقا لتعلمها.