حكاية أخرى عن "بلاد الشطرنج"

خلال لحظات قليلة ظهر النظام السوري عاريا من كل شيء

حكاية أخرى عن "بلاد الشطرنج"

ما اختفى فجأة في اليوم الأخير من عمر النظام السوري السابق، لم يكن رأسه الحاكم، بشار الأسد، فحسب، بل معه ومثله كامل المؤسسات والأجهزة والمواثيق والأعراف التي تمثل كيانية "الدولة السورية" نفسها، منذ أكثر من قرن وحتى الآن، ولغير صدفة كانت المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر منذ التأسيس.

خلال سيرتها الطويلة هذه، شهدت البلاد السورية وقائع جذرية لا تُعد، كان النظام السياسي في كل واحدة منها ينهار تماما، لكن الهيكلة الدولتية لسوريا تبقى صامدة وصحية وحيوية وعلى رأس عملها، متأقلمة بالتقادم مع النظام السياسي الجديد. إذ شهدت سوريا في سنواتها الأولى مثلا انتدابا فرنسيا وانقلابات عسكرية متتالية، ومن بعدها وحدة اندماجية مع دولة أخرى، وعقبها حرب إقليمية طاحنة، وطوال هذه المدة جرت تغييرات جذرية في الدساتير والخيارات السياسية والرمزية والاقتصادية للسلطات الحاكمة، لكن الدولة بعضدها الجوهري بقيت موجودة، وإن تعرضت لتغيرات تالية بعد واحدة وأخرى من تلك الأحدث.

لكن لم يجرِ أن انهار الجيش أو غادر القضاة مكاتبهم، أو تصرف الحاكمون الجُدد دون دستور، أو خلت المخافر من أفراد الشرطة، أو نُهب البنك المركزي، أو فر عشرات الآلاف من أعضاء النظام الحاكم، أو غُيّر العلم الوطني دون قانون، خلال أي من تلك التحولات.

في الواقعة الأخيرة، حدث ما باين كل ما سبق، لم يختفِ الأسد وحده، ولا حتى المنظومة الأمنية والسلطوية المحيطة به فحسب، بل تلاشى كل شيء وتفصيلٍ يتعلق بالدولة السورية، جيشها وشرطتها وجهازها القضائي وحرس حدودها ودستورها ونظامها العام وسلطتها الرمزية والمادية والتوازنات والأعراف التي كانت بين تلك السلطة والمجتمع السوري.

ليس في ذلك مجرد سؤال عادي وعابر، بل تفكيك وكشف طويل لبنية المؤسسة وهيكلية الدولة ومعانيها في ظل النظام الشمولي. ففي اللحظة التي اختفى فيها رأس الحكم، تبددت الدولة السورية، وكأنها رقائق ثلج تسقط في ماء يغلي. ظهر جليا أن "الأجهزة البوليسية" والنظام الحديدي والاستراتيجية الممانعة والحكومة المركزية والجيش العقائدي والأيديولوجيا المقاومة كلها مجرد أدوات وظيفية، لا قيمة ولا معنى لها في ذاتها، لا هوية ولا فاعلية مستقلة دون طاقة السلطة ورأسها الحاكم تحديدا، فهي حسبما ظهرت مجرد أدوات بيد "سلطة عارية"، مصيرها وجدواها وهويتها نابعة من تلك السلطة، لا تعريف ولا شكل ولا وجود لها في ذاتها، دون تلك السلطة.

يُعيد الحدث السوري للأذهان حقيقتين متراكبتين عن الأنظمة الشمولية: فهي أولا أنظمة مضادة ومناهضة للدولة، بما تعنيه من مؤسسة مستقلة وذاتية البناء، ومواثيق تأسيسية وضابطة لعلاقة السلطة بالمجتمع والعكس، وأجهزة خدمية حرفية ومتساوية المسافة من مختلف المواطنين، ونوعية من العلاقات السليمة بين كل تلك الجهات، لا تستطيع أي واحدة منها تجيير الأخريات منهم حسب مزاجها ومصالحها.

تكشف تجربة النظام السوري الأخيرة، كيف أن الشمولية تؤسس بلدانا مثل رقعة الشطرنج، ينهار فيها كل شيء لحظة سقوط رأس هرم السلطة، تتفتت المؤسسات وتتحطم المعاني والعلاقات والروابط

وبحقيقة معكوسة، فإن الدولة بذلك المعنى مناهضة للشمولية واستمرارها بشكل جذري، وهذه الأخيرة تعمل طوال عمرها على خلق أشكال خُلبية ومزيفة منها، تكون فعليا أدواتها هي، أي السلطة، وليس دولة حسب تعاريفها وحقائقها الحديثة.

أما الحقيقة الثانية، فهي هشاشة النظام الشمولي، التي يستميت في سبيل إخفائها. فخلال لحظات قليلة مثلا، ظهر النظام السوري عاريا من كل شيء، من المؤيدين والجيش الذي بناه طوال عقود والمجموعات المسلحة الرديفة والتغطية الإقليمية والزبائن الاقتصاديين والنُخب الملتفة حول مركز قراره. فالنظام السوري ظهر وكأنه دون مؤيدين حقيقيين، حتى أكثر المقربين والدائرين في فلكه، تبين أنهم كانوا إما يوالون السلطة، خشية أو منفعة، وإما يسيرون مصالحهم فحسب، لكن دوما دون أي ارتباط روحي أو ولاء أيديولوجي أو إصرار سياسي عليه.

بهذا المعنى، تكشف تجربة النظام السوري الأخيرة، والتي كانت مُشيدة على 61 عاما من الشمولية المطلقة، كيف أن الشمولية لا تؤسس إلا بلدانا على شاكلة رُقعة الشطرنج، ينهار فيها كل شيء لحظة سقوط رأس هرم السلطة، تتفتت المؤسسات وتتحطم المعاني والعلاقات والروابط، يتبرأ الجميع مما كانوا عليه، تجري قطيعة سريعة مع الماضي، لكن دون أن يكون للمستقبل أي أفق، لأن اللعبة التي تكون قد انتهت مع تصفية أعلى هرم السلطة، مثلما في لعبة الشطرنج، لا تكون قد أعادت البلاد إلى نقطة الصفر، بل إلى ما دون ذلك بكثير.

متعددة هي الأمثلة التي مرت في تاريخنا الحديث خلال السنوات الماضية، التي أثبتت كل واحدة منها كيف أن استمرار الدولة بعد تغير الأنظمة مرتبط عكسا مع المستوى الشمولي للنظام الحاكم. فالنظام الليبي كان أبلغ شمولية من نظيره التونسي، لذلك انهارت الدولة الليبية بعد سقوط القذافي واستمرت الدولة التونسية بعد "بن علي"، ولو نسبيا. ومصر كانت قائمة على نظام شبه شمولي في عهد الرئيس مبارك، وحين ترك سدة الحُكم، لم يمس الدولة المصرية إلا قليل الضرر، وهكذا فيما خص سوريا والعراق والسودان واليمن وغيرها. حيث في كل واحدة منها تظهر السلطات الشمولية وكأنها "تسوّس" مستدام في هيكل الدولة.  

font change