من الورقية إلى الإلكترونية فالرقمية... "الهوية" أداة لمراقبة الفلسطينيين ومعاقبتهم

منذ 1967 إلى ما بعد 7 أكتوبر

shutterstock
shutterstock
السيطرة الكاملة

من الورقية إلى الإلكترونية فالرقمية... "الهوية" أداة لمراقبة الفلسطينيين ومعاقبتهم

شهدت الفترة الأخيرة تحولات في سلوكيات الجنود الإسرائيليين على حواجز التفتيش العسكرية في أنحاء الأراضي الفلسطينية، حيث برزت الهواتف الذكية كمؤشر جديد إلى أسلوب معاملة الفلسطينيين على هذه الحواجز وأحيانا لتحديد مصيرهم. هذه الظاهرة، التي تتبع اهتمامات الفلسطينيين الإخبارية ومتابعاتهم للأحداث وتفاعلهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، تطرح تساؤلات حول التحولات التي طرأت على الهوية الرقمية للفلسطينيين، وكيف تحولت من كونها هوية ورقية تشبه جواز السفر، إلى هوية إلكترونية (بصمة الإصبع والعين)، لتلتقي هاتان الهويتان مع الهوية الرقمية التي تحدّد اهتمامات الفلسطينيين السياسية، لا سيما بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

الهوية الورقية

تشير هذه الهوية إلى الوثيقة الورقية التي كان يحملها الفلسطينيون أثناء تنقلهم، وقد حصل الفلسطينيون على هذه الهوية في أعقاب الإحصاء الذي أجراه الحكم العسكري الإسرائيلي في سبتمبر/ أيلول 1967، أي بعد النكسة بشهرين، بحيث اعتبرت تلك الهوية الوثيقة التي يجب أن يظهرها الفلسطيني ويحتفظ بها أثناء تنقله، فيمنع عليه مغادرة بيته دون أن يحملها، وبينما نجد أن الفلسطينيين حملوا هوية برتقالية اللون، وهو اللون الأساس للهوية، نجد أن هناك أشخاصا حملوا هوية خضراء اللون، والسبب في ذلك يعود إلى كونهم كانوا في معسكرات الاعتقال يوما ما، وفي الحالتين أُخضع حملة الهوية البرتقالية للتأخير والتفتيش، في حين أخضع حملة الهوية الخضراء للاعتقال أو اقتيدوا إلى مراكز الشرطة أو تعرضوا للتنكيل بهم على الحواجز.

هذا يعني أن الهوية الورقية باتت جزءا من حياة الفلسطيني اليومية أثناء تنقله بين الحواجز، فلا يجوز أن يغادر بيته دون أن يحملها، وأثناء حملها يجري التعرف اليه وإعادته إلى بيته أو حجزه أو تعذيبه. أما في الحالة التي يخرج فيها الفلسطيني من بيته بلا هوية فإن ذلك يعتبر بحسب رجا شحادة في كتابه "قانون المحتل: إسرائيل والضفة الغربية" إخلالا بالقانون، الذي يستوجب عليه الحضور الى مقر قيادة الحكم العسكري.

أُخضع حملة الهوية البرتقالية للتأخير والتفتيش، في حين أخضع حملة الهوية الخضراء للاعتقال أو اقتيدوا إلى مراكز الشرطة أو تعرضوا للتنكيل بهم على الحواجز

يشرح لنا العامل الفلسطيني محمد القاق، في مقابلة أجريناها معه عام 2022، يوم نسي بطاقة هويته البرتقالية، ووصل إلى أحد الحواجز: "في أحد الأيام كنت ذاهبا إلى خربثا البلدة المجاورة لبلدتنا لشراء بذور كوسا، نسيت أن أحمل هويتي معي، فاحتجزوني وبدأوا تحقيقا معي، أخبرتهم بأنني نسيت هويتي في البيت، طلبوا مني أن يقوم أي شخص بالذهاب الى بيتي وإحضار الهوية، ذهب صديق لي وأحضرها، لأنه لو لم يحضرها كنت سأذهب بعدها إلى مقر القيادة العسكرية ". وهذا ما ينقلنا إلى كيفية بناء الهوية الورقية بوصفها جزءا من الحياة اليومية للفلسطينيين، أثناء تنقلهم، وتتولى مسؤوليتها الحواجز العسكرية، أما في الحالة التي امتلك فيها الفلسطيني الهوية الورقية الخضراء، أي أنه مصنّف خطيرا على الأمن، فإنه يعاقب بطريقة أشد من باقي الأشخاص الذين يحملون بطاقات هوية برتقالية. يقول الناشط علي حمدان: "من يدخل السجن، يجب أن تتحول هويته من اللون البرتقالي إلى اللون الأخضر، الهوية الخضراء يعني أنك كنت في داخل السجن، وبالتالي كل حاجز كنت أتعرض عنده للضرب، وعدم السماح بالمرور، وأتلقى الشتائم مثل "سفلة، يا كلاب، يا جزم"، ستعودون إلى السجن مرة أخرى". في هذا المعنى، كانت الهوية الورقية الوثيقة الأساس التي يجري بها التنقل بين الحواجز لتقرير شكل التنكيل، ولكن هذه الهوية لم تكن تتيح للقوات الإسرائيلية التأكد السريع والتثبت من مطابقة حامل الهوية للهوية التي بين يديه، ومع التطور التكنولوجي خصوصا بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، بدأت تظهر الهوية الإلكترونية التي تعتمد على بصمة اليد والعين واستدارة الكف وغيرها من التقنيات، والتي استثمرت بها إسرائيل خلال العقدين الأخيرين للتثبت من هوية الفلسطيني.

AFP
فحص بطاقات الفلسطينيين قرب البلدة القديمة بالقدس

الهوية الإلكترونية

يشير تقرير صادر صادر عن "منظمة العفو الدولية (أمنستي)، بعنوان "استخدام إسرائيل تكنولوجيا التعرف الى الوجوه مصدر قلق" إلى خطورة هذه التقنية على الفلسطينيين، إذ تساهم في تجريدهم من إنسانيتهم بشكل كامل. وبحسب التقرير، الذي استند إلى شهادات ثلاثة مسؤولين إسرائيليين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، تستخدم إسرائيل هذه التكنولوجيا بشكل مكثف في القدس الشرقية والضفة الغربية، وتستخدم نظاما للتعرف الى الوجوه يُعرف باسم "الذئب الأزرق".

مع التطور التكنولوجي خصوصا بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، بدأت تظهر الهوية الإلكترونية التي تعتمد على بصمة اليد والعين

عند نقاط التفتيش مثل تلك الموجودة في مدينة الخليل، تُمسح وجوه الفلسطينيين باستخدام كاميرات عالية الدقة قبل السماح لهم بالمرور. ويذكر الباحث إبراهيم درويش نقلا عن صحيفة "نيويورك تايمز" في مارس/ آذار 2024 أنه يُطلب من الجنود استخدام تطبيقات على هواتفهم الذكية لتسجيل وجوه الفلسطينيين وإضافتها إلى قاعدة بيانات مركزية. وهذا النظام الجديد يعتمد بشكل كبير على تقنيات التعرف الآلي الى الهوية، وهو ما يقودنا إلى التفكير  بأن الهوية الورقية تراجعت أهميتها إلى المستوى الثاني لتحلّ مكانها الهوية الإلكترونية، إذ يكفي أن ينظر الشخص إلى الكاميرا ليتعرف النظام الى هويته ومعلوماته بشكل مؤكد.

Getty
شرطي إسرائيلي يحقق مع فتى فلسطيني عن بطاقة هويته عند حاجز

والتالي، لا يستطيع الفلسطيني سوى الالتزام والانضباط أثناء تنقله، لأن هويته اليوم، هي بصمة عينه وبصمته، وليست هويته الورقية التي كان من الممكن أن يستخدم هوية غيره للمرور، وهذا ما اعتاد الكثير على فعله في فلسطين قبل ظهور الهوية الإلكترونية للسفر من فلسطين ثم العودة، كما حدث مع السيدة أم عودة التي بقيت في الضفة لفترة طويلة (سنوات التسعينات)، لا تستطيع زيارة أبنائها في الأردن لأنها لا تملك الهوية، فاستعارت هوية صديقة لها تشبهها في الملامح لزيارة أبنائها ثم العودة، وهذه الظاهرة تلاشت مع ظهور الهوية الإلكترونية التي أصبحت تعتمد على بصمة العين واستدارة الكف وبصمة اليد للتأكد والتثبت من هوية الشخص. ولكن في السياق ذاته، ومع الأحداث التي تشهدها فلسطين، ظهرت هوية أخرى بالمستوى الأول، هي الهوية الرقمية، وانتقلت الهوية الإلكترونية الى المستوى الثاني لتحل الورقية في المستوى الثالث.

AFP
شرطة الحدود الإسرائيلية تفحص بطاقات الهوية الفلسطينية

الهوية الرقمية

تغير المشهد تماما مع بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ أصبح الهاتف المحمول عنصرا جديدا يُستخدم للتحقق من هوية الفرد، ليس فقط بالمعنى التقليدي (الورقي- اسمه وكنيته)، ولا عبر بصمة اليد والعين، وإنما أيضا بالمعنى الرقابي (اهتماماته الإعلامية ومواقفه السياسية)، وهو ما يعطي بعدا آخر لمعنى الهوية الفلسطينية التي انتقلت من كونها الهوية الورقية على الحاجز، لمعرفة اسم الشخص وكنيته، إلى ظهور الهوية الإلكترونية (بصمة الاصبع والعين)، للتثبت الأكيد والسريع من الهوية، لتضحي إلى جانب هاتين الهويتين، هوية بالمستوى الأول ارتبطت بالتطورات السياسية في فلسطين وهي ذات علاقة بالاهتمامات الإخبارية التي يتابعها الفلسطيني. هذه الهوية الأخيرة التي تحدّد اهتمامات الفلسطيني، تقرر طبيعة السلوك الذي يمارسه الجنود على الحواجز. فعلى أحد الحواجز الإسرائيلية، وهو الحاجز المحاذي لمدينة البيرة، تصف السيدة ريم (س)، مشاهداتها لما يحدث على الحاجز في الآونة الأخيرة، بطلب الجنود الإسرائيليين من الفلسطينيين تسليم أجهزة جوالاتهم للجنود، وبعدها يتم تفتيش هذه الجوالات بحثا عن صور أو محادثات، حتى أنهم في إحدى المرات اقتادوا زوجها وضربوه وصادروا جواله، وبعد تفتيش الجوال والتأكد من عدم وجود تطبيق "تلغرام" عليه، أعادوا اليه الجوال وأطلقوا سراحه. ومن واقع التجارب الشخصية اليومية في الضفة الغربية، فإن النصيحة التي يوجهها الأهل والأصدقاء هي ضرورة حذف تطبيق "تلغرام" عن الهواتف.

يُطلب من الجنود استخدام تطبيقات على هواتفهم الذكية لتسجيل وجوه الفلسطينيين وإضافتها إلى قاعدة بيانات مركزية

يشير تزايد تفتيش الهواتف المحمولة للفلسطينيين على الحواجز إلى أن الهوية الفلسطينية لم تعد تقتصر على الوثائق الورقية والإلكترونية، بل انتقلت إلى بُعد جديد نسميه"الهوية الرقمية"، وهي ممارسات تشير إلى رغبة الاحتلال في مراقبة وعي الفلسطينيين وأدوات تشكيله. فالسؤال لم يعد مقتصرا على "من أنت؟" بل توسع ليشمل "ما الذي تتابعه؟" و"ما روايتك للأحداث؟"، وفي صلب ذلك، ظهر تطبيق "تلغرام" بوصفه التطبيق "الأخطر" الذي يجري البحث عنه في جوالات الفلسطينيين.

shutterstock
نظام بصمة الإصبع للتعرف البيومتري

يتحدث كريم قرط في مقال بعنوان "تلغرام: التطبيق الأكثر انتشارا ذريعة لتبرير التنكيل بالفلسطيني" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024)، أن هذا التطبيق شهد في الأشهر الأخيرة تزايدا ملحوظا في استخدامه بين الشباب الفلسطيني، ليصبح منصة بديلة في ظل القيود المشددة على المحتوى الفلسطيني في تطبيقات مثل "فيسبوك" و"إنستغرام" التابعين لشركة "ميتا"، فمنذ تصاعد المواجهات في الضفة الغربية، أصبح "تلغرام" الخيار المفضل بسبب عدم خضوعه للرقابة المفروضة على التطبيقات الأخرى، وكذلك القدرة التي يوفرها لتناقل الفيديوهات والصور والمحتويات التي تُصنَّف "تحريضية" على المنصات الأخرى، إلى جانب سهولة الاستخدام وإمكان انضمام عدد غير محدود من المستخدمين إلى القنوات، وهو ما لا يحدث على التطبيقات الأخرى التي تمارس انتهاكا رقميا تجاه ما ينشره ويتداوله الفلسطينيون كما يفعل تطبيقا "فيسبوك" و"إنستغرام".

بعد 7 أكتوبر، لم يعد السؤال مقتصرا على "من أنت؟" بل توسّع ليشمل "ما الذي تتابعه؟" و"ما روايتك للأحداث؟"

حماية المعلومات والمساحة المتاحة أكثر من غيرها للنشر، جعلتا تطبيق "تلغرام" في صلب الهوية الرقمية للفلسطينيين أثناء مرورهم على الحواجز، إذ يجري تفتيش الأجهزة والبحث عن هذا التطبيق وتعريض من يقوم بتحميل التطبيق إلى الضرب وربما الاعتقال، حتى أنه في إحدى المرات تعرض شاب للضرب بحجة عدم وجود تطبيق "تلغرام" على هاتفه، إذ ادعى الجنود أنه حذف التطبيق قبل الوصول الى الحاجز، مثلما يشير كريم قرط في مقاله. يفيدنا ذلك لفهم كيف أن الهوية الفلسطينية انتقلت أهميتها من سياق معرفة الشخص ثم التأكد منه، إلى متابعة اهتماماته الإخبارية ومتابعاته اليومية، وفي الأخص على تطبيق "تلغرام"، فيما يجسد الحاجز المصيدة التي تجري عليها مصادرة الهواتف وتفتيشها ومعاقبة الفلسطينيين عبر مراقبة اهتماماتهم الإخبارية.

font change

مقالات ذات صلة