"سادن المحرقة" لباسم خندقجي: ذاكرة حروب وخيالات وأوهام

الجزء الثاني من "قناع بلون السماء" الرواية الفائزة بـ"بوكر"

غلاف رواية "سادن المحرقة" لباسم خندقجي

"سادن المحرقة" لباسم خندقجي: ذاكرة حروب وخيالات وأوهام

ما أن نبدأ بقراءة رواية "سادن المحرقة" للفلسطيني باسم خندقجي، حتى يتبادر إلى الذهن السؤال كيف كتب هذا القابع بين جدران سجن إسرائيلي هذه الرواية المفعمة بالحياة، التي هي الجزء الثاني من روايته "قناع بلون السماء"، الحائزة الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية) في دورتها الأخيرة؟

يواصل خندقجي، في هذا الجزء من الرواية، الصادرة عن "دار الآداب" في بيروت، لعبته السردية القائمة على تقمص شخصية مغايرة، ففي الجزء الأول، يعثر نور، وهو عالم آثار يقيم في مخيم برام الله، على هوية إسرائيلية باسم أور، في جيب معطف قديم، فيتقمص هذه الشخصية وينضم إلى بعثة تعمل في التنقيب على الآثار. في الجزء الثاني يظهر أور نفسه ليسرد لنا حياته من خلال صوتين، صوت السارد الرئيس بضمير الأنا، وصوت ثان للشخص نفسه، يسرد بضمير الغائب، وذلك بعدما طلبت منه هداس، طبيبته النفسية، أن يستعيد بالكتابة جوانب حياته الماضية لكي يساعدها في العثور على "نقطة تعيين وانطلاق واضحة" تستطيع من خلالها تفكيك مشكلته واكتشاف أصل ما يعاني منه، وهو ما يعمله بضمير الغائب، لأن هذا الضمير يعفيه "من قيود الخصوصية وحدودها".

جثث وصرخات

أور نيتسان شابيرا، وهذا هو اسمه الكامل، يعاني من آثار ما بعد الصدمة النفسية الحادة، التي بدأت تتضح أعراضها بعد عودته من آخر حرب شارك فيها، في غزة، حيث أعفي من الخدمة العسكرية وسُرّح من الجيش. وتبعا لبحثه مع طبيبته النفسية عن سبب آثار الصدمة، واستخلاصا لما كتبه، سيستذكر بعض مشاكله المؤثرة، ومنها حرب لبنان الثانية في يوليو/ تموز 2006 حيث نجا من الموت بأعجوبة في بلدة بنت جبيل، بعدما قُتل تسعة جنود من أفراد كتيبته، من بينهم صديقه المقرب نفتالي، وبقي بين الجثث لأكثر من خمسة أيام. وحرب غزة في شتاء 2008 و2009 حين رأى أشلاء من جثث ثلاث فتيات "يسعى أبوهن للملمتهن في حضنه وهو يصرخ بأسمائهن"، وكانوا قد اقتحموا ذلك البيت بعذر وجود مخربين فيه. هناك أيضا هجران صديقته شير له، بعد رجوعه من الحرب وتفضيلها إقامة علاقة حميمة مع صديقتها بدلا منه. إلى جانب مقتل أخيه جدعون واعتقاده أن أمه تخون أباه مع طبيب شاب. وانفصال صديقته دوريت عنه بعد إعلانها التدين والاعتزال في مدرسة توراتية في صفد.

يظهر أور نفسه ليسرد لنا حياته من خلال صوتين، صوت السارد الرئيسي بضمير الأنا، وصوت ثان للشخص نفسه، يسرد بضمير الغائب

لقد انتقل من تل أبيب الى العيش قي جفعات شاؤول التي ظن أنها "ستقصيه عن مسرح الذكريات ومنابع الصدمات"، إلا أنه سرعان ما يجد أن أزمة الصدمة تتضاعف لديه، فقد صار يحلم باللغة العربية، التي سمع أصواتها أثناء مواجهاته العسكرية. ثم إنه، بعدما قرر تعلم هذه اللغة بدعم من طبيبته، تخبره معلمته مريم، أن اسم جفعات شاؤول هو اسم عبري محرف لقرية دير ياسين التي وقعت فيها المجزرة الشهيرة، إبان حرب 1948.

AFP
مسيرة في موقع قرية دير ياسين قرب القدس

لعبة المصادفة

"أنا لا أعاني من آثار الصدمة فحسب، بل أنا الصدمة بحد ذاتها. أنا الصدمة والمصدوم. صدمني قطار سريع لم يبلغ محطته الأخيرة بعد، قطار محمل بكل أعباء التاريخ والجغرافيا"، هكذا يهذي أور، وهو في تنقلاته يشعر أنه ينتقل فوق جثامين أحبّته "فما هي حياتي بالنهاية سوى جثث ومشاريع جثث؟". فأخوه الأكبر جدعون قُتل أثناء تأديته خدمته العسكرية على أيدي من يصفهم بـ"المخربين" في رام الله. ومات أجداده وأمه متأثرين بإصابتهم بفيروس كوفيد19 الذي اتهمته أمه قبيل لفظها أنفاسها الأخيرة بأنه معاد للسامية. أما أبوه فهو في حال غيبوبة، عادة ما يذهب ليكلمه دون أن ينتظر منه ردا.

غلاف رواية "قناع بلون السماء" لباسم خندقجي

حين يقابل أيالا شرعابي (يعود لقبها، كما يبدو، إلى منطقة شرعب اليمنية، التي عُرفت بكثرة سكناها من اليهود قديما)، وهي تعمل ضمن فرقة أثرية تبحث عن "تابوت العهد"، تكتشف أن اسمه الثنائي يشبه اسم شخص تعرفه (أور شابيرا)، كان يعمل دليلا في شركة سياحية، وحين تذهب لزيارته في البيت تلاحظ أن صورة أخيه في الجدار تشبه صورة أور الذي تعرفه. وبحسها البحثي الأثري تبحث عنه لتجد بطاقة هوية يكتشف أور أنها بطاقته هو، تحمل اسمه واسمي أبيه وأمه، مع اختلاف في الصورة. لكنه ينكر أن أسمي الأب والأم مطابقان لاسمي والديه.

وهو كان أضاع هويته منذ أعوام، حيث نسيها في معطفه، الذي كان لأخيه جدعون، فقامت صديقته دوريت ببيعه مع مقتنيات أخرى في سوق الملابس المستعملة دون أن يعلم. ومن خلال هذا المعطف والهوية المخبأة فيه سنكتشف شخصيات كثيرة تتشابه وتتنافر، مثل أور/ نور، وتتيح لأصوات أخرى أن تسرد قصصها.

Reuters
جنود إسرائيليون في مركبة عسكرية

تبدو لعبة المصادفة في السرد قديمة، أو أنها صارت خارج منطق السرد، إلا أن سارد خندقجي يبدأ منذ البداية مبررا، ربما، طريقته في السرد، فيبدو أنه يسرد حلما، حسب العبارة الافتتاحية التي يوردها من رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد "أترونه أنتم؟ أترون القصة؟ أترون أي شيء؟ يُخيَّل إليَّ أني أحاول أن أقص عليكم حلما... أحاول محاولة فاشلة... إذ لا يمكن لسرد الحلم أن يخلق الإحساس الذي نحسه في أثناء الحلم".

ذاكرة حروب

الكاتب يرسم الشخصيات بعناية سردية من كل جوانبها، فيتنقل السارد بين حياة جدته وتذكرها "المحرقة" وجده وتذكره ماضيه العسكري، وكذلك ماضي أمه وأبيه وعلاقته بأخيه القتيل، فهو "الجندي ابن الجندي ابن الجندية شقيق الجندي حفيد الجندي والجندية الناجين من المحرقة".

أما السؤال عن دور الرواية في حال صراع كهذا، فلا تمكن الإجابة عنه دون سؤال آخر: لماذا يُسجن كل هذا البوح، كل هذه الكتابة؟

واللافت في السرد، هو ما يمكن أن نقرأه من أوصاف سجين لفضاءات خارج السجن والبوح بما يشبه الرغبة في الحياة. هناك ذكر لفرق موسيقية وأغان وأفلام ومسلسلات ولوحات وصحف وكتب. نجد السارد يقارن بين النص العربي لرواية "باب الشمس" لألياس خوري والنص المترجم الى العبرية.

قبل هذا وبعده، هناك فظائع تظهر كفقاعات من الذاكرة: حروب وقتلى وجثث، وخيالات وأوهام لا حد لها، يرسمها الفلسطيني السجين بجدارة، فيبدو أحيانا أنه يصرخ عبر عبارات وجمل شتى، تأخذنا بنبراتها الصوتية الواضحة إلى كشف التاريخ السياسي/ الأيديولوجي بكل جراحاته وآلامه. لكنه سرعان ما يهبط بنا لنقرأ لغة سلسة وقلقة وأكثر حميمية وشعرية. وبين اللغتين والصوتين تبدو الرواية وعاء فنيا لفلسطيني جريح، يصب فيه الألم فيثور كفقاعات من كلمات وحروف. وعاء يريد من خلاله أن يقول، من بين جدران زنزانته، كل شيء. زنزانته التي عاش فيها حتى الآن عشرين سنة، أكثر مما عاش خارجها (19 سنة).

AFP
أطفال فلسطينيون يتفقدون أضرار غارة إسرائيلية

لذا، فالكاتب، عبر صوت السارد، يقدم سردية فلسطينية خالصة، وإن تقمص هوية غير هويته، واسما غير اسمه. فهو لا يعاين المحنة أو يتساءل عن الصراع، بل يقدم اجاباته عنهما.

سيكون السؤال مع هذا، إلى أي مدى نجح الكاتب في تقديم هذه السردية المواجهة (روائيا) للسردية الأخرى؟ أما السؤال عن دور الرواية في حال صراع كهذا، فلا تمكن الإجابة عنه دون سؤال آخر: لماذا يُسجن كل هذا البوح، كل هذه الكتابة؟

font change

مقالات ذات صلة