لعل من أبرز من عرّى النيوليبيرالية وفككها وسلط الضوء على أصولها التاريخية وظروف نشوئها منهجيا المفكر الكبير نعوم تشومسكي في كتابه الصادر في 1999 "الربح على حساب الشعوب: النيوليبيرالية والنظام العالمي". في الآونة الأخيرة صدر كتاب مهم يصب في الاتجاه نفسه للمفكر الكندي أليكس هيملفارب بعنوان "التحرر من النيوليبيرالية: التحدي الماثل أمام كندا"، وهو دراسة متعمقة في نشوء هذه الأيديولوجيا وتجليها في السياق الكندي، إلا أن ما يميز كتاب "العقيدة الخفية: التاريخ السري للنيوليبرالية" (منشورات كراون- بنغوين راندوم هاوس،2024) الذي ألفه الصحافي والكاتب البريطاني جورج منبيوت، والمخرج السينمائي الأميركي بيتر هتشيسون، هو أنه يدرس التاريخ السري للنيوليبيرالية كعقيدة منذ تطورها في أواخر ثلاثينات القرن الماضي انطلاقا من آراء فيلسوفين سياسيين غامضين في المنفى هما فريدريك هايك وفون ميزس، إلى تبني الأثرياء الكبار لها وتمويلها، ومن ثم تجليها في إدارتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بدءا من السبعينات والثمانينات، وتحولها إلى أيديولوجيا تسيطر على حياة الغربيين، وتسمح للشركات بأن تعمل بحرية بصرف النظر عن العواقب.
أصل الأزمات
يقول الكاتبان إن النيوليبيرالية ساهمت أيضا في حدوث معظم الأزمات التي يواجهها العالم حاليا، كاللامساواة الحادة والتضخم وفقر الأطفال المتفاقم والأمراض الوبائية وتدهور الرعاية الصحية والتعليم، وتراجع الخدمات العامة، وتقوّض البنى التحتية، والكوارث البيئية، وصعود الشعبويين الجدد من أمثال فيكتور أوربان وناريندرا مودي وبوريس جونسون وجايير بولسونارو ودونالد ترمب.
يعود منبيوت وهتشيسون إلى جذور العقيدة، ويدرسان انتشارها السري، ويرصدان تأثيرها العميق الذي حوّل الاقتصاد والسياسة والبيئة، والكيفية التي ينظر بها الناس إلى أنفسهم، وتأكيدها المنافسة بوصفها السمة المميزة للعلاقات الإنسانية، وقدرتها على تحويل الناس من مواطنين إلى مستهلكين، مما يزيد عزلتهم وتفرقهم أكثر من أي وقت مضى.
يروي الكتاب قصتين متداخلتين، تفضي الأولى فيهما إلى الثانية: الأولى هي نشوء الرأسمالية، التي تشكل خلفية وسياقا للقصة الثانية التي تهمنا، ألا وهي نشوء النيوليبيرالية، وتحولها إلى عقيدة غير مرئية تقود الاقتصاد، وتسخّر أرباحه لشركات محددة، وزمرة من الأثرياء الكبار.