زينة فولك لـ "المجلة": أستعيدُ بلادي بالترجمة وابعث من خلالها وجوه الغائبين

التغيير الذي تجلبه الترجمة خاص لكنه قابل للانتشار على المدى الطويل

Lina Jaradat
Lina Jaradat
الكاتبة والمترجمة العراقية زينة فولك

زينة فولك لـ "المجلة": أستعيدُ بلادي بالترجمة وابعث من خلالها وجوه الغائبين

تعدُ المترجمة والكاتبة العراقية زينة فولك، نموذجا للجيل الأدبي العراقي الذي يبحث عن نفسه في القسم الآخر من العالم. فهي من جانب، ترسخ تجربتها وتشق طريقها في المشهد الثقافي الأميركي ومن جهة ثانية تمد أواصر الصلة مع بلدها الأم التي غادرتها مع تصاعد العنف في العراق بعد احتلال 2003.

ولدت فولك في جنوب العراق، حيث أكملت دراستها الأولية والجامعية. في بدايات 2007 حصلت على زمالة "فولبرايت" لدراسة الصحافة في الولايات المتحدة الأميركية وارتحلت إلى هناك حيث تقيم حاليا. "المجلة" كان لها هذا الحوار مع زينة فولك.

  • ترجمتِ خلال السنوات الأخيرة نصوصا عربية إلى مجلات أدبية متخصصة ودور نشر في أميركا وبريطانيا، في الأخص، سرديا، كيف تصفين تجربتك مع الأدب العربي الراهن؟

تجربتي مع الأدب العربي الراهن كمترجمة وكقارئة تكاد تنحصر بالأدب العراقي، إلا أني أشعر بالتقصير في الالمام بالأدب العربي الراهن. فالأدب العراقي، لاسيما السرد، هو اهتمامي الرئيس، وأنا قارئة جيدة ومطلعة على جديده، خاصة ما ينصح به بعض الأصدقاء والكُتاب العراقيين الذين أحرص على التواصل معهم والاستماع إلى نصائحهم.

رغم ذلك، فإن ما أختاره من الأدب العراقي للترجمة هو جزء بسيط جدا من السرد العراقي الذي أقرأه، فما أترجمه هو حصيلة تفاعلي أثناء عملية القراءة فحسب، مما أشعر أن القارئ الغربي سيجده ممتعا ومشوقا. من المستحيل أن أُترجم عملا لا أتفاعل معه، وهو أمر ليس سهلا على أي حال، فلابد أن يمتلك النص الأدبي ميزات معينة أقفُ عليها أثناء القراءة حتى أشعر أنه يستحق الترجمة.

الأدب العراقي له ثُقل يُرهب المترجمين غير العراقيين، إذ يتمتع بالرصانةُ من جانب، وبالبنية المعقدة الميالة إلى الأدب القديم والكلاسيكي من جانب آخر


ترجمة الأدب العراقي

  • هل كان من السهل أن تلتفت دوائر النشر الأدبي الحديث إلى الأدب العراقي الذي عانى سنوات من العزلة فترة الحصار وحربي الخليج؟

ترجمتُ قصصا عراقية لعدد من المجلات الأدبية الغربية. وبشكل عام كانت تجربتي إيجابية. لم يكن من السهل أن تلتفت المجلات الغربية إلى الأعمال الأدبية العراقية المترجمة. ولعلّ أحد الأسباب يكمن في قلة المترجمين المهتمين بترجمة الأدب العراقي، ربما لصعوبته، فالأدب العراقي له ثُقل يُرهب المترجمين غير العراقيين إذ يتمتع بالرصانةُ من جانب، وبالبنية المعقدة الميالة إلى الأدب القديم والكلاسيكي من جانب آخر، تجعله بعيد عن خيارات المترجمين، باستثناء الأعمال التي بدأت بالظهور بعد 2003، والتي وإن كانت غير كلاسيكية في بنيتها ولغتها، إلا أنها تنتمي إلى العمق المعقد الذي لا يمكن فهمه بشكل منفصل عن تجربة الإنسان العراقي بعد 2003.

  • كيف تستقبل المؤسسات الغربية ما يُكتب اليوم في المنطقة العربية؟ هل تلمسين سعيا جادا منها الى معرفة الانسان العربي ومشكلاته من خلال ما يكتب؟ أم ثمة نظرة مسبقة وجاهزة يُراد لها أن تُترجم عبر ما يُترجم من أعمال أدبية؟

ما تستقبله أغلب مؤسسات النشر الغربية من الأدب العربي المترجم يعتمد على الوضع السياسي في المنطقة العربية والتي تُسيطر على بعض مناطقها قوى من خارج المنطقة كما تعلم. التوجه السياسي لدار النشر بشكل خاص يُحدد ما تقبله للنشر من الأعمال العربية المترجمة. إضافة إلى ما تقدم، يلعب العامل المادي دورا كبيرا في القرار الذي تتخذه دور النشر بقبول نشر أو رفض عملٍ ما. أغلب مؤسسات النشر تسعى إلى الربح المادي بشكل أساس طالما أن ما تنشره لا يتعارض مع صياغتها للعالم العربي ونظرتها الخاصة له، كما من الضروري ألا يتعارض مع مبادئ المتبرعين الذين يدعمون تلك الدور ماديا. دور النشر الغربية تواقة لنشر التراجم التي تسلط الضوء على ما تعاني منه المرأة العربية تحت سطوة الرجل العربي، والأعمال التي تبرز نضال المرأة العربية لنيل حريتها وتحررها.

أما بالنسبة إلى الأعمال الثقافية غير السياسية، فموقعها في العالم العربي هو ما يحدد قرار ترجمتها من عدمه. مثلا، إذا حاز العمل الثقافي غير السياسي جائزة قيمة على مستوى محلي أو إقليمي، وكانت ردود أفعال القراء إيجابية، ففرص نشر ترجمة العمل تكون أكبر. وهناك العديد من الأعمال يدفع تكاليف ترجمتها ونشرها المؤلفون أنفسهم، أو الداعمون لهم، وهم متبرعون يدعمون المؤلف الأصلي ويُريدون له الشهرة، وهؤلاء، في العادة، أقارب أو أصدقاء أثرياء للمؤلف يعيشون في الغرب.

أصول عربية

  • هل المترجم من -أصول عربية- حر، وقادر على اختيار الأعمال التي يعرضها على دور النشر الأميركية؟

بالتأكيد. المترجم العربي من أصول عربية حر باختيار ما يريد ترجمته لعرضه على دور النشر. ولكي أكون دقيقة بإجابتي، هنالك مترجمون من أصول عربية لكنهم ولدوا وترعرعوا وتثقافوا في الغرب، وربما لم يزوروا أبدا البلد العربي الذي ينتمي إليه أهلهم، أي أنهم يملكون نفس المعرفة اللغوية والثقافية التي يتحلى بها المترجم الغربي الذي لا أصول عربية له. بالنسبة إلى هذا الصنف من المترجمين، تكون العربية لديهم ضعيفة فهي تتحدّد بمهارات كلامية لفظية تنحصر بلهجة عربية عامية مُعينة. أنا لا اعتبر هؤلاء ذوي أصول عربية من حيث اللغة، ولا تقل ترجمتهم في تقصيها لمنظومة المعاني في النص عن تلك التي لدى المترجم الغربي ذي الأصول غير العربية. تتعامل دور النشر مع هؤلاء المترجمين كتعاملها مع المترجمين الغربيين اللذين لا اصول عربية لهم.

وهناك مترجمون مغتربون، أي أنهم عرب هاجروا إلى بلد غربي منذ عقود، فبات تواصلهم مع اللغة العربية والثقافة العربية مقتصرا على التزاور المتقطع مع أفراد عوائلهم والمغتربين العرب. هكذا ينمو تواصلهم باللغة الإنكليزية أو لغة البلد الغربي المُتبنى ويقل اتصالهم باللغة العربية والثقافة العربية مع الوقت. تحل اللغة المتبناة محل اللغة الأم في وسيلة التواصل (الكتابة، أو الترجمة، أو التواصل اللفظي) وتصبح اللغة العربية عرضية في وسيلة التواصل (التزاور أو الاتصال الهاتفي).

في النهاية، للمترجم حرية الاختيار فيما يترجمه لكن القرار النهائي هو لدار النشر، والأخيرة تقرر بناء على الخلفية الثقافية للمترجم، وغالبا ما تُفضل دور النشر المترجمين الغربين الذين لا أصول عربية لهم.

دور النشر الغربية تواقة لنشر التراجم التي تسلط الضوء على ما تعاني منه المرأة العربية تحت سطوة الرجل العربي


الاحتلال الأميركي

  • أنهيتِ الدكتوراه برسالة لافتة في موضوعها وهو العراق بعد الاحتلال الأميركي، هل لك أن تشاركينا خصوصية ما أفرزته تجربتك هذه؟

أردتُ الكتابةَ عن الاحتلال الأميركي للعراق، وما حل بالبلاد وبالعراقيين في السنوات الأولى بعد ذلك. لم تكفني ترجمة كتابات عراقية وتدبيج تقرير تحليلي عن كيفية ترجمتها مع طرح الأسباب، وهو أمر شافٍ ووافٍ للدكتوراه، لكنه لا يحقق طموحي. لذا خرجت عن مجال الترجمة الأدبية وقررت أن ينحى المشروع منحى تعدد التخصصات (interdisciplinary) تكون فيه الترجمة المدخل لفهم ظاهرة ذات أهمية لعلم اللغة التطبيقي والدراسات الأدبية، فضلا عن هدف الدراسة الرئيس في تسليط الضوء على الاستدلالات النظرية للترجمة كمنهج بحثي نظري وعملي.

ترجمت عددا من المدونات العراقية وحللتها بالتفصيل، لإعطاء صورة عن صراع الهويات الذي برز في 6 مدونات عراقية بعد 2003، ومن ثم أعطيت بعض المنشورات التي ترجمتها إلى 13 جنديا أميركيا خدم في العراق بين 2003 و2011، وكنت قد راسلتهم وطلبت منهم المساهمة في هذه الدراسة. وبعد قراءة الترجمة عملتُ مقابلات مع هؤلاء الجنود، وفي المقابلة تحدثوا عن قصص وحكايات وتجارب تصف رؤيتهم للعراق والعراقيين وتجاربهم مع الناس، ومع مسؤوليهم العسكريين، وقد أغنوا الدراسة من نواح عدة. بعض ما توصلت إليه الدراسة هو أن الترجمة الأدبية لاسيما ترجمة المدونات التي تظهر لمقاومة الحرب والاحتلال والصراع وعدم الاستقرار الأمني والاقتصادي ونزاع المليشيات قد تخلق مجالا أو فسحة نظرية يمكن لجندي الاحتلال الجلوس في أإطارها من أجل التحاور وتبادل التجارب والتصالح.

لم يكن ممكنا لجندي أميركي أن يجلس معي كباحثة عراقية ويتحدث عن تجربته في العراق، هو يخشى اللقاء الذي يظهر فيه عنصرا في جيش تورط باحتلال بلد وارتكب جرائم عدة. لكن استخدام النص المترجَم جعل الجندي يشعر أنه يتحاور مع النص المترجم، وبالتالي مؤلف النص هو المترجم، بأفكاره، وهواجسه وقصصه وحواره الداخلي. لقد أزاح الباحثة العراقية خارج إطار تفاعله مع النص، في الأقل ضمن حدود المقابلة، مما سمح له بمجال كافٍ ومريح يصف فيه تجربته في العراق، ويقص قصصا تفضي بشعوره بالذنب لما حدث، وكيف أنه جاء ليخدم في العراق، وتأثير أفكاره عن العراقيين والتعليمات العسكرية التي تلقاها. وكان اللقاء مهما لي أيضا لأنه ساعدني على رؤية الجندي الأميركي كانسان يصف ما حدث له، وهو عكس ما توقعه وما صورته له حكومته.

Lina Jaradat
الكاتبة والمترجمة العراقية زينة فولك

كانت اطروحتي رحلة علاج نفسية لي ولبعض الجنود الأميركيين الذين قابلتهم، فقد أحسست براحة لا مثيل لها، خاصة بعد أن أرسل لي بعض الجنود رسائل يشيدون فيها بتحسن حالتهم النفسية وصحتهم العقلية بعد التحدث عن تجاربهم في العراق أثناء المقابلات. أما بالنسبة إليّ، فكان للموضوع تأثير نفسي وعلاجي مماثل، وأنا الآن بصدد تطوير موضوع الاطروحة.

  • هل يمكن للشهادات الميدانية، الآتيةمن تجارب حية، أن تُقرب وجهات نظر الأمم المتصارعة؟ في الأخص بعد تكون المأساة قد وقعت. ألا تبدو المحاولة، وحدها، عبثا في ظل عواصف التأزم الأيديولوجي؟

تأمَل الترجمة الأدبية إلى تعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة، فالترجمة ترمي إلى تحقيق الفهم أولا، الذي ربما يقود لاحقا إلى طريق السلام بين الأُمم والثقافات. هنالك تأزم أيديولوجي كبير، وهذا التأزم يلعب دورا في قرارات دور النشر بشأن قبول أو رفض نشر الأعمال المترجمة. لكن، لا ينبغي لنا الاستسلام للتوترات وتغيير منظورنا لدور الترجمة في صنع الفهم والسلام، أو دعني أقول المصالحة عن طريق الترجمة الأدبية.

كانت اطروحتي رحلة علاج نفسية لي ولبعض الجنود الأميركيين الذين قابلتهم، فقد أحسست براحة لا مثيل لها، خاصة بعد أن أرسل لي بعض الجنود رسائل يشيدون فيها بتحسن حالتهم النفسية


 لا أستطيع القول إن التجارب الميدانية المبنية على الترجمة كمشروع اطروحتي، ستقرب الأُمم المتصارعة، لكنها تصنع التقارب بين المجموعات الصغيرة المتصارعة. مشروع الدكتوراه الذي أكملته لن يغير وجه نظر كل الناس في الولايات المتحدة أو جميع مكونات حكومتها، أو ضباطها العسكريين، لكنه غير بعض الجنود الذين قابلتهم وغير وجهة نظري عن الجنود الأميركيين، وسأقوم أنا وهؤلاء الجنود الذين غيرهم مشروعي، بنشر بذور التصالح بين المجاميع العراقية والأميركية. التغيير الذي تجلبه الترجمة خاص وليس عاما، لكنه قابل للانتشار والانتقال على المدى الطويل. أي مستجدات رقمية تأتي بها الترجمة -عدد الناس الذين تؤثر فيهم الترجمة- هي نتاجات بعيدة زمنيا لكنها حاصلة دون شك.   

  • تعيشين بعيدا عن موطنك الأصلي، ولغتك الأم منذ سنوات، كيف تُبقين على الصلة بين لغتك العربية، وحساسيتها؟

أقرأُ العربية يوميا بحثا عن أعمال ناجحة في الترجمة، وأتواصل مع الأهل في العراق، أو المغتربين خارجه، كلما أُتيحت لي الفرصة. هكذا أُحافظ على مهارات العربية الفصيحة ولهجتي العامية. أشعرُ بثقة كبيرة عندما أكتب بالإنكليزية، فتفكيري ومهاراتي في الكتابة مُحددان باللغة الانكليزية افتراضيا. وأُحس أنني أبذل جهدا وأتكلف عندما أكتب بالعربية، وهو أمرٌ مؤسف وسببه البعد عن بيئة اللغة العربية تواصلا وممارسة ثقافية.

لكن هذه الواقع لم يوقفني، فأنا أواجهه بالقراءة، كما أنني أشارك نصوصي العربية مع زملائي العراقيين ليغنوني بآرائهم. سجلت أولادي بدروس تعلم اللغة العربية، وأقوم بتدريسهم أحيانا.

font change

مقالات ذات صلة