ستة وعشرون عاما فقط عاشت الإيطالية أنطونيا بوزي (1922 ـــ 1938)، لكن ذلك لم يمنعها من ترك عمل شعري مدهش يتألف من مئات القصائد التي جُمعت بعد وفاتها تحت عنوان "يوميات من شعر". نصوص كان الشاعر الإيطالي فيتوريو سيريني سباقا في اكتشاف قيمتها، قبل أن يتغنى مواطنه الشاعر أوجينيو مونتالي بـ"نقاوة الصوت" و"عذوبة الصور" فيها، ويصعق إليوت الكبير بـ"نقاء" كاتبتها و"توهّج ذهنها".
هذه النصوص بات في إمكاننا اليوم قراءتها بلغة رامبو بفضل الشاعر تييري جيليبوف الذي اضطلع بمهمة نقلها إلى الفرنسية، وبعد صدور الجزء الأول من هذه الترجمة عن دار "أرفوين"، تحت عنوان "حياة محلومة" (2016)، صدر حديثا جزؤها الثاني والأخير عن الدار نفسها، تحت عنوان "صمت شادِه". وهي مناسبة نغتنمها للتعريف بهذه الشاعرة التي تسلّطت اللعنة على حياتها القصيرة ولم تفارقها حتى بعد رحيلها، كما يشهد على ذلك بقاؤها إلى حد اليوم في دائرة الظل، على الرغم من موهبتها الشعرية النادرة.
ثلاث رسائل
تاريخ رحيل أنطونيا عن هذه الدنيا قررته بنفسها، مثلما قررت مكانه وظروفه، حين توجهت في صباح يوم مشمس، لكن بارد، إلى محيط دير "كيارافال"، في مدينة ميلانو، وتمددت على العشب بعد ابتلاعها كمية كبيرة من الحبوب المسكنة، منتظرة موتها: "في البعيد، في مثلث من الخضار/ كانت الشمس تتمهل. بقفزة واحدة/ كنت أريد بلوغ ذلك الضوء/ التمدد تحت أشعة الشمس عارية/ كي يشرب الإله المحتضِر/ من دمي، ثم البقاء طوال الليل/ ممددة في المرج، بعروق فارغة/ بينما ترجم النجوم الغاضبة/ جسدي الجاف".
قبل إقدامها على الانتحار، كتبت أنطونيا ثلاث رسائل، واحدة الى الشاعر فيتوريو سيريني، واحدة الى صديقها الحميم دينو فورمادجيو، ورسالة أخيرة إلى والديها قالت لهما فيها: "أبي، أمي، لقد تعذبتُ كثيرا، ولا بد أن ذلك في طبيعتي، داء في الأعصاب يمتص قوتي ويمنعني من رؤية أشياء الحياة في توازنها. ستجدانني مجددا في كل القبور التي لطالما أحببتها. ولا تذرفا الدموع لأنني الآن في سلام".
شعر أنطونيا، مثل حياتها، يتراوح بين أمل وخيبة، بين نور وعتمة، بين هجران ونشوة، بين تقشف وحسية. كأنها كانت تحمل داخلها اندفاعا يرزح تحت ثقل كبير. ومع أنها عاشت خاضعة لعصف عواطفها المتضاربة، إلا أن ذلك لم يحل دون متابعتها مسيرة اختارتها بنفسها، والتصاقها بتلك الحيوية التي أحيتها بقدر ما حطمتها: "أحيا كأن سيلا يعبرني. كل شيء يحمل معنى نهاية مفاجئة، وهو حلم يدرك أنه حلم، لكنه يقتلعني من الواقع بذراعيه العنيفتين".