العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة لكي تبرد روح الثأر والانتقام

لا ينتظر السوريون أسلوب "تبويس اللحى" و"عفا الله عما مضى"

رويترز
رويترز
رجل يسير على صورة لبشار الأسد بعد إزالتها من الشارع في وسط دمشق، في 10 ديسمبر

العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة لكي تبرد روح الثأر والانتقام

أصبح من المتفق عليه أن العدالة الانتقالية هي الأنسب للتعامل مع المعضلات الناتجة عن الحروب والصراعات الداخلية العنيفة، والتي تتخللها جرائم جسيمة. فإغلاق المرحلة السابقة، واستعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع، والمصالحة الداخلية، يتطلب تهدئة النفوس برد المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها، والتعويض على المتضررين، والكشف عن مصير المفقودين، وإظهار حقائق ما جرى، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم الجسيمة، عبر المؤسسات القانونية والقضائية (وهذا شرط لازم وواجب وضروري).

فلا يمكن أن تبرد روح الثأر والانتقام، أو تتم محاصرة الفوضى المحتملة، ما لم يشعر المتضررون/ات بأن حقوقهم/ن لن تضيع، وأن الجاني لن يفلت من العقاب. ولا يمكن للإنسان أن يغذي انتماءه إلى المجتمع أو يساهم في بنائه إذا لم يطمئن إلى أنه سيحصل على العدالة.

وتختلف العدالة الانتقالية عن العدالة التقليدية في الأهداف والقواعد والمعايير والهيئات والآليات، فالظروف الاستثنائية التي وُجدت لمعالجتها، والتي لا تستطيع العدالة المعتادة التعامل معها، تُميزها بخصوصيتها، ومن ذلك حزمة أهدافها المترابطة.

والحال أن العدالة الانتقالية لا تكتفي بإدانة المجرمين وتطبيق القانون، بل تفعل ذلك وهي تركز اهتمامها على استعادة السلم الأهلي، وتحقيق المصالحة الوطنية، ومحو آثار الصراع العنيف، الذي يهدد، إذا بقيت آثاره، بإعادة إشعاله. فعلى سبيل المثال، إن إسقاط الحق الشخصي أو عدم الادعاء من قبل المتضررين/ات بالنسبة لعدد كبير من الجرائم الواقعة بحقهم/ن قد يؤدي إلى إسقاط الدعوى كلها، خلافا للقانون العادي، مع حفظ حقوق هؤلاء المتضررين/ات بالتعويض، الذي يقع على عاتق الدولة عبر مؤسسة العدالة الانتقالية نفسها. وهنا لا دور لمؤسسة النيابة العامة كجهة مدافعة عن المجتمع، إلا في القضايا التي تمس المجتمع كله.

ولا ينحصر هدف العدالة الانتقالية في محاسبة مرتكبي الجرائم وبعث الطمأنينة في نفوس الضحايا بأن حقوقهم لن تهدر، بل يتعداه إلى إعطاء الطمأنينة لغير المرتكبين بأنهم لن يُحاسبوا أو يُقتص منهم عن جرائم لم يرتكبوها. مثلما تعطي ضمانة مهمة للمرتكبين أنفسهم بأنهم لن يكونوا تحت وطأة رد الفعل الثأري، وأن مؤسسات العدالة والقضاء هي التي ستحاسبهم بالدلائل والقرائن المثبتة على ما ارتكبوه.

ولعل أهم ما يميز القواعد والمعايير الحاكمة للعدالة الانتقالية أنها تستند إلى القواعد والقوانين العالمية، مع الأخذ في الاعتبار أن كثيرا من الجرائم المرتكبة في ظروف الصراع الأهلي الاستثنائي قد لا تغطيها القوانين المحلية أو تتناولها بالنص، لأنها جرائم ذات طبيعة استثنائية، وتتطلب مرجعية دولية أنتجتها ظروف وأحداث مماثلة.

إسقاط الحق الشخصي أو عدم الادعاء من قبل المتضررين/ات بالنسبة لعدد كبير من الجرائم الواقعة بحقهم/ن قد يؤدي إلى إسقاط الدعوى كلها

والتميز، أو الاختلاف، الآخر هو أن مؤسسة العدالة العادية تستند إلى الهيئات القضائية الطبيعية وتقتصر على القضاة فقط الذين يديرونها، بينما تتفرع عن مؤسسة العدالة الانتقالية هيئاتٌ عدة لها طراز مختلف عن التركيبة القضائية، وتضم بعض ممثلي المجتمع وهيئاته المتنوعة لتشارك القضاة والمحاكم في تحقيق العدالة.

في الواقع السوري، كان أكثر ما عانى منه السوريون والسوريات خلال أكثر من خمسة عقود هو انعدام العدالة. فقد منح الرئيس نفسه حصانة دستورية تامة من المحاكمة والعقاب من خلال المادة 117 من الدستور، ومنح الحصانة القانونية من المحاكمة والعقاب لرجال الأمن والجيش والشرطة، ما لم يأذن وزير الدفاع أو مدير إدارة أمن الدولة بذلك.

وهذا ما أعطى هؤلاء الصلاحية ليرتكبوا ما شاءوا من الانتهاكات قبل عام 2011، ومن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بعد ذلك التاريخ، دون رادع.

سيطرة الرئيس على السلطة القضائية

في عهد الأسد البائد، سيطر الرئيس على السلطة القضائية باعتباره رئيس مجلس القضاء الأعلى، ففرغ القضاء من رجالاته، وأصبح التعيين يعتمد على الولاء فقط، فأصبح القضاء أداة قمع وطمس لحقوق السوريات والسوريين. وأعتقد جازما أن فقدان العدالة كان من أول وأهم الأسباب التي دفعت السوريين والسوريات للثورة على النظام عام 2011.

أسوشيتد برس
اعتقل عناصر من قوات الادارة الجديدة رجلاً يشتبه في أنه جزء من ميليشيات الرئيس المخلوع بشار الأسد في عدرا، على مشارف دمشق، سوريا، 30 ديسمبر 2024

وما جرى في سوريا منذ عام 2011 من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، التي قلما شهد التاريخ لها مثيلا في البشاعة والإجرام، وما تكشف حتى الآن هو رأس جبل جليد من تلك الفظائع، تجاه كل مكونات الشعب السوري. وقد تأثر بها كل سوري وسورية حتما، مما يجعل موضوع العدالة حجر الزاوية والأساس الذي تُبنى عليه سوريا الجديدة.

لقد خلقت كل تلك الجرائم وانعدام فرص العدالة التي استمرت أكثر من عقد حالة من الاحتقان الشعبي المجتمعي، وأحدثت شروخا طولية وعرضية في المجتمع السوري، طائفيا ومناطقيا وحتى عائليا. ولا يمكن أن يشعر أي سوري أو سورية بالأمان مجددا ما دام يرى من قتل عائلته أو دمر بيته وهجره طليقا ويعيش مع عائلته بجواره وكأن لا شيء حدث.

ولا يمكن لأي سلطة أن تحكم دون، وقبل، أن تهدأ النفوس. وهو ما تحمله العدالة الانتقالية على عاتقها، لتخفيف الاحتقان، ومنع حالات الانتقام الفردية والجماعية. ولا يمكن للمجتمع السوري الاستقرار والمضي نحو المستقبل قبل شعوره بأن العدالة ستأخذ مجراها، وأن هناك إجراءات ملموسة لتحقيقها للتأكد من أن المجرمين الذين ارتكبوا كل تلك الفظائع بحقه سيواجهون العدالة والعقاب.

لقد خلقت كل تلك الجرائم وانعدام فرص العدالة التي استمرت أكثر من عقد حالة من الاحتقان الشعبي المجتمعي، وأحدثت شروخا طولية وعرضية في المجتمع السوري، طائفيا ومناطقيا وحتى عائليا

ولكن هناك عقبات قانونية أمام السلطة الجديدة في سوريا لتحقيق ذلك:

أولا: فساد وعدم كفاءة السلطة القضائية والجهاز القضائي بأكمله، وعدم قدرته على القيام بدوره في العدالة الانتقالية ضمن تركيبته الحالية.

ثانيا: عدم وجود نصوص قانونية في قانون العقوبات السوري تنص على عقاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهذا ما يمنع من اتهام المجرمين بمثل هذه الجرائم، وتنخفض التهم إلى مستوى تهم قتل فردية لا تعبر أبدا عن فظاعة الجريمة ولا تروي القصة الحقيقية لها.

ثالثا: وحيث إن معظم مجرمي الحرب، ولا سيما الكبار منهم، قد فروا إلى دول أخرى، فمن المستبعد أن تقوم بعض تلك الدول بتسليم المجرمين إذا كانوا سيواجهون عقوبة الإعدام المنصوص عليها في قانون العقوبات السوري والممنوعة لديهم حسب القانون الدولي.

أهمية العدالة التأسيسية

لذلك، فالمطلوب والضروري من أجل البدء ببناء المستقبل عبر عدالة تأسيسية، أن يتم إنشاء هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية تكون مهامها:

أولا: استحداث محكمة، أو عدة محاكم، خاصة مختلطة بين قضاة سوريين/ات ودوليين/ات لضمان الحيادية ومحاكمات عادلة وشفافة، فكل أعين العالم ستكون مركزة عليها. وستعتمد هذه المحكمة بقرار تشكيلها آليات محكمة الجنايات الدولية، والقوانين التجريمية التي جاءت في اتفاقية روما، للنظر في الجرائم المرتكبة منذ عام 2011، وملاحقة المجرمين والقبض عليهم ومصادرة الأموال والأشياء المنهوبة والمسروقة، وإعادة الحال لما كان عليه في الحالات التي تستوجب ذلك. ويجب أن يكون قضاة هذه المحاكم من القضاة المشهود لهم بالنزاهة والحيادية والاستقلال.

ثانيا: إنشاء صندوق خاص يمول من الدولة والمنح الدولية والمحلية، ومن مصادرات أموال المجرمين المنقولة وغير المنقولة، لتعويض الأذى الجسدي والمادي للمواطنين/ات المتضررين/ات شخصيا أو بفقدان أحد أو أكثر من أفراد أسرتهم/ن وأحبائهم/ن، وأيضا التعويض للجرحى والمعاقين/ات ولمن تدمرت منازلهم/ن أو أماكن عملهم/ن أو ممتلكاتهم كليا أو جزئيا. ويتم ذلك عبر لجان فنية مختصة تقوم بالمسح الميداني لكل المناطق، فتضع قائمة بأسماء الضحايا والمفقودين/ات، وتقدير قيمة الأضرار المادية وتحديد عدد المصابين/ات والجرحى وتأمين استمرار علاجهم/ن. ويمكن أن يمتد لاحقا اختصاص هذا الصندوق للانتهاكات التي حصلت قبل عام 2011.

ثالثا: تشكيل لجان للسلم الأهلي والمصالحة الوطنية لمعالجة الانقسامات الحادة في القرى والبلدات التي شهدت حالات من الانتهاكات داخلها، ومن ذلك صراعات دموية، سواء داخلها أو ما بينها. بحيث تضم هذه اللجان شخصيات ثقافية وعلمية وقانونية وفنية ودينية واجتماعية ذات احترام عام، تتجه إلى المناطق التي شهدت نزاعات أو إشكالات دينية أو طائفية أو قومية لتهدئة النفوس وإرساء الصلح وتبديد الشكوك وإعادة الثقة بين مكونات المجتمع. وتكون من مهمات هذه اللجان أيضا المساهمة في الكشف عن المفقودين/ات والمختطفين/ات والمعتقلين/ات وإعادتهم لأهلهم، كما تعمل على إقامة لجان وجمعيات للدعم والعلاج النفسي لضحايا الانتهاكات بمسار موازٍ لمحاسبة المجرمين وجبر الضرر.

رابعا: تشكيل مكتب إعلامي مهمته القيام بحملة شاملة لشرح مفهوم العدالة الانتقالية، ووسائلها، وهيئاتها، ودورها. واستخدام كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من أجل القيام بوظيفته. ويديرها مختصون/ات قانونيون/ات واجتماعيون/ات. وتساعدهم في ذلك لجان من الشباب المتطوعين تُشكل بالتعاون مع جمعيات أهلية، ويُجرى تدريبهم/ن لإيصال فكرة العدالة الانتقالية إلى كل المواطنين/ات ومساعدتهم/ن على التفاعل مع هيئاتها والثقة بها وتقديم طلباتهم إليها ومتابعتها.

خامسا، إنشاء مكتب لتخليد الذكرى، ومهمته توثيق الأحداث التي مرت، وتوضيحها وتأريخها، بما في ذلك تخليد أسماء الضحايا الذين قضوا عبر النصب التذكارية أو إطلاق أسمائهم/ن على المدارس والأماكن والساحات في المواقع الجغرافية التي سقطوا فيها، وإدخال هذه المعلومات في كتب التاريخ للمدارس حتى يكون ما مر على البلاد درسا يستفيد الجميع منه ويشكل عبرة ومأثرة للأجيال المقبلة، ولا تضيع التضحيات الكبرى التي قُدمت، بل تكون صورتها ماثلة دائما في ذاكرة المجتمع وخالدة في ذاكرة الوطن.

يمكن الحديث عن مسألة العفو ودوره في إرساء المصالحة وليس تغييب العدالة. فاستخدام هذا الطريق ضروري، ولكن لا يمكن أن يكون عاما بحيث تضمد الجروح وهي ما زالت تنزف

 

رويترز
مقاتل يعرض رأس تمثال للرئيس الراحل حافظ الأسد، بجانب ملصق ممزق للرئيس المخلوع بشار الأسد، في إحدى قواعد جبل قاسيون العسكرية، سوريا، 29 ديسمبر 2024

ويمكن الحديث هنا عن مسألة العفو ودوره في إرساء المصالحة وليس تغييب العدالة. فاستخدام هذا الطريق ضروري، ولكن لا يمكن أن يكون عاما بحيث تضمد الجروح وهي ما زالت تنزف، أو من دون تعقيمها، فتشكل نارا تحت الرماد يمكن تأجيجها في أي وقت. بل يجب أن يكون محدودا وخاصا، ويُستعمل بشكل دقيق لإغلاق ملفات تم إنهاؤها أهليا وتمت المصالحات بشأنها، وليس كأسلوب "تبويس اللحى" و"عفا الله عما مضى".

إن ما دفعه الشعب السوري من ثمن غالٍ جدا من الضحايا والتضحيات للوصول إلى الخلاص من أبشع نظام ديكتاتوري يجعل من العدالة الانتقالية وتهيئة مؤسساتها وهيئاتها أولى المهمات في هذه المرحلة. وعلينا البدء الفوري بتأسيسها والقيام بحملة شعبية لنشر مفهومها وتعريف المواطنين بها، لنضع اللبنة الأولى وحجر الزاوية لإعادة بناء سوريا الجديدة.

font change

مقالات ذات صلة