الطريق من قندهار إلى دمشق

الفرصة متاحة أمام الشرع لتكرار تجربة أحمد شاه مسعود

أ ف ب
أ ف ب
صورة جوية لحطام تمثال الرئيس السوري الاسبق حافظ الاسد في مدينة دير عطية في 28 ديسمبر

الطريق من قندهار إلى دمشق

فيما تركز عناوين الصحف العالمية اليوم على النسخة الجديدة المحسنة من زعيم "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع، المعروف عالميا باسم "أبو محمد الجولاني"، لا يمكن للمرء أن يمنع نفسه من الشعور بأنه سبق وعاش هذه الأحداث نفسها. عندها يتبادر إلى الذهن في الحال المشهد السياسي في أفغانستان، عندما كان القادة أنفسهم ومفكرو العالم يدافعون عن "حركة طالبان المعاد تأهيلها" قبل سقوط كابول في أغسطس/آب 2021.

ورفض الشرع نفسه المقارنات مع "طالبان" في مقابلة حديثة له مع "هيئة الإذاعة البريطانية" (BBC)، ومع ذلك لا يغيب عن بالنا أن "هيئة تحرير الشام" عقدت في إدلب مؤتمرات عدة على مر السنين حول كيفية التعلم من دروس انتصار "طالبان" في عام 2021، وعمت الاحتفالات إدلب عندما تقدمت "طالبان" إلى كابول في عام 2021. وبينما تحتفل "طالبان" الآن بسقوط دمشق، يُقال إن أول الاتصالات بين الحركتين قد بدأت بالفعل.

وعلى الرغم من أن الجولاني نفسه يقول إن الوضع في سوريا مختلف كل الاختلاف عن أفغانستان، فإن ما بدأته "طالبان" في أفغانستان في تحقيق عودة الإسلام السياسي ما زال يدوي عاليا في العالم العربي. ولسوف يتردد صدى التوأمة الرمزية للانتصارين اللذين تحققا خلال ثلاث سنوات في سائر أرجاء الشرق الأوسط.

التأثير المستمر للجهاد الأفغاني

عند تتبع جذور معظم حركات الإسلام السياسي العربي بعد الثمانينات والصراعات اللاحقة داخل الدول الأمنية مثل الجزائر ومصر والسلطة الفلسطينية وسوريا، نجد أن هذه الجذور موجودة في قتال "المجاهدين الأفغان" المدعومين من الغرب ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان. فمن الرئيس رونالد ريغان الذي وصف "المجاهدين الأفغان" بـ "المحاربين من أجل الحرية" مرورا باغتيال الرئيس المصري أنور السادات ووصولا إلى الحرب الأهلية الشرسة في الجزائر، ثمة روابط واضحة وإلهام مستقى من الجماعات الإسلامية التي انتصرت على السوفيات. وكما رحب البعض العالم العربي بالانتصار الأفغاني على السوفيات، فقد كان الانتصار الأخير لـ"طالبان" ضد الأميركيين في عام 2021 موضع ترحيب.

على الرغم من كون أفغانستان قبلية فإن "طالبان" لم تكن تهيمن عليها. وفي هذا الصدد، يتعين على الجولاني الآن توجيه الفصائل المختلفة داخل ائتلافه

ومثلما حذر عضو الكونغرس الأميركي السابق تشارلي ويلسون في نهاية الحرب الباردة من أن تجاهل أفغانستان قد يخلف تداعيات عالمية، يسلط مايكل والتز، مستشار الأمن القومي الجديد للرئيس دونالد ترمب، الضوء اليوم على تحذيرات سابقة للزعيم الأفغاني السابق أحمد شاه مسعود بشأن أفغانستان. وما زالت أصداء الصراعات في أفغانستان تتردد في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، من الجماعات في سوريا التي تتطلع إلى "طالبان" كي تستمد منها الإلهام، إلى دول عربية تتنافس على النفوذ في كابول. كما عملت إيران على تعزيز نفوذها بشكل مضطرد في الوقت الذي تنزلق فيه أفغانستان مرة أخرى نحو المجهول حيث يمكن للقوى في الشرق الأوسط أن تتنافس في ما بينها من خلال أذرع تلك القوى العنيفة.
وحتى في غزة، بعد سقوط كابول، هنأت حركة "حماس" الفلسطينية "طالبان" على إنهاء الاحتلال الأميركي. كما رأت الجماعات المتمردة السورية في إدلب أن هذه اللحظة هي لحظة تاريخية لقضيتها، ورغم أنه من السابق لأوانه الحكم على "هيئة تحرير الشام" الآن في دمشق، فإن الإلهام من أفغانستان يظل حاضرا بقوة في المشهد.

سوريا ليست أفغانستان.. ولكن


مما لا شك فيه أن الشرع محق في قوله إن سوريا لا تشبه في شيء المجتمع والثقافة الأفغانيين. وهذا من المسلمات التي لا يحتاج إلى توضيحها أكثر. ولكن ربما لم يكن مطلعا على التاريخ الأفغاني قبل عام 1979، عندما كانت النساء الأفغانيات يرتدين التنانير وكان التعليم العلماني مهيمنا في كابول وفي المدن الكبرى، وكانت أفغانستان ميدانا للسياح الغربيين على درب الهبيين (وهو الاسم الذي أطلق على الرحلة البرية التي قام بها أفراد من جماعة الهبيين وآخرين في منتصف الخمسينات حتى أواخر السبعينات بين أوروبا وجنوب آسيا عبورا بتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان والهند ونيبال). 

أ ف ب
زعيم "هيئة تحرير الشام" احمد الشرع مستقبل رئيس جهاز الاستخبارات العراقي حميد الشطري في دمشق في 26 ديسمبر

وعلى الرغم من كون أفغانستان قبلية فإن "طالبان" لم تكن تهيمن عليها. وفي هذا الصدد، يتعين على الشرع الآن توجيه الفصائل المختلفة داخل ائتلافه وكذلك الجماعات الأخرى المدعومة من تركيا وآلاف المقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى والإيغور في الصين. وبالفعل يشكل المقاتلون الأجانب من سوريا تهديدا للصين، وقد سئمت دول آسيا الوسطى من وجود قاعدة للتهديد في سوريا، تماما مثلما كانت أفغانستان تلك القاعدة في التسعينات وعادت اليوم لتلعب هذا الدور مرة أخرى وفقا للأمم المتحدة. ومثلما سمحت "طالبان" للمقاتلين العرب والمقاتلين من آسيا الوسطى بالحصول على جوازات سفر أفغانية بعد التسعينات وفي عام 2021، تقول الحكومة التي تقودها "هيئة تحرير الشام" الآن إن المقاتلين الأجانب الذين ساعدوا في تحرير سوريا من الإيرانيين سيحصلون على الجنسية السورية.

الفرصة اليوم متاحة أمام الجولاني لتكرار تجربة أحمد شاه مسعود الذي كان ينتمي لحزب "جمعية الإسلام"، وكان قريبا من علماء الأزهر في القاهرة، وفي الوقت نفسه كان منفتحا على آراء الآخرين وتعليم المرأة 

وعلينا أن نتذكر أنه في عام 2021، كانت حركة "طالبان" مثل الشرع تجري مقابلات مع شبكة "سي ان ان" وتكتب مقالات رأي في صحيفة "نيويورك تايمز" وتقول إن الحكومة الشاملة في كابول لن تقتصر على البشتون وستحظى النساء بحق التعليم وسيُسمح لهن بالعمل، واليوم لا نجد أثرا للنساء في ميادين العمل والحكومة خالية من أي من مكونات المجتمع الأفغاني من الأوزبك والطاجيك والهزارة. 
واليوم يردد الشرع كل الأمور الصحيحة حول الحكومة الشاملة وحقوق المرأة والفسيفساء المتنوعة في سوريا التي تشكل أقدم المجتمعات المسيحية في العالم جنبا إلى جنب مع اليهود السوريين والدروز والإسماعيليين والعلويين وطيف واسع من الطوائف والأديان الأخرى.

أحمد شاه مسعود أم أمير من "طالبان"؟

كتب المؤلف البريطاني تام حسين مذكرات رائعة عن صهر عبدالله عزام، الجزائري عبدالله أنس، والتي بددت بعض الأساطير التي ظلت قائمة حتى يومنا هذا عن المقاتلين العرب في أفغانستان. 
إن الفرصة اليوم متاحة أمام الشرع لتكرار تجربة أحمد شاه مسعود الذي كان ينتمي للحزب السياسي "جمعية الإسلام"، وكان قريبا من علماء الأزهر في القاهرة، بيد أنه وفي الوقت نفسه كان منفتحا على آراء الآخرين وتعليم المرأة والتنوع القديم في أفغانستان. وسوريا ليست أكثر تنوعا من أفغانستان فحسب، بل هي ربما المجتمع الأكثر تعددية في العالم من حيث المجتمعات الدينية والعرقية. لا يمكننا أن نتجاهل أن الجولاني سوف يسترشد في العمق بالمبادئ الإسلامية. وكما لا يجوز الخلط بين سويسرا والسويد، كذلك لا يجوز الافتراض المسبق أن سوريا هي وجه آخر لأفغانستان، فالجولاني لديه اليوم فرصة للتعلم من أخطاء "طالبان"، والابتعاد عن عقولهم المغلقة. والواقع أنه بدأ بداية مبشرة، ويمكنه رصف الطريق من قندهار إلى دمشق بالطريقة التي يراها مناسبة الآن.

font change

مقالات ذات صلة