بقدر ما كان انهيار محور إيران سريعا بعد إنهاك إسرائيل لـ"حزب الله" و"حماس" وترهيب الفصائل العراقية وسقوط نظام بشار الأسد، كان صعود أو بروز تركيا كقوة إقليمية عبر البوابة السورية، إثر دخول الفصائل السورية دمشق وهروب الأسد سريعا أيضا، حتى صرنا ننتبه أكثر إلى كل خطوة تقدم عليها تركيا ليس في المنطقة وحسب بل كذلك في أفريقيا، سواء في ليبيا أو بين الصومال وإثيوبيا، وكأن كل خطوة تقوم بها أصبحت لها بعد الحدث السوري معاني مضاعفة بوصفها دليلا إضافيا على تمدد نفوذ أنقرة وتكاثر أدوارها.
ولا ريب أن سرعة تحول المشهد الإقليمي لا تخلو من المفاجأة ومن الأسئلة حول نتائج هذا التحول على العلاقات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين في المنطقة، وحول الأشكال التي سيأخذها صعود نفوذ تركيا في الإقليم على حساب نفوذ إيران والذي ساد الاعتقاد خلال العقدين الماضيين بأنه راسخ فإذا به ينهار خلال أشهر قليلة بل خلال أسابيع قليلة، في استعادة لمقولة لينين الشهيرة والتي كثر استعمالها في سياق الحدث السوري: "هناك عقود من الزمن لا يحدث فيها شيء، وأسابيع تحدث فيها عقود".
لا شك أن المشهد الجديد في المنطقة كان قد بدأ يرتسم على وقع تداعيات عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدءا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ثم على لبنان وما بينهما من تبادل للضربات بين إسرائيل وإيران في سياق إجمالي أظهر اختلال ميزان القوى بين الطرفين لصالح إسرائيل، ولاسيما مع تدخل واشنطن إلى حانب تل أبيب في وقت كانت روسيا منهمكة في حربها ضد أوكرانيا بينما الصين بعيدة ولا تريد أن تحرق أصابعها في نيران الشرق الأوسط.
هذا كله خلق أرضية مواتية تزيد من زخم الفصائل السورية وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام" والتي يتكشف تباعا أنها كانت تحضّر نفسها لـ"لحظة الصفر" وأنها كانت تخضع لتدريبات وتحولات على مستوى إعدادها العسكري وقابلية كوادرها وتحديدا "أبو محمد الجولاني" للتأقلم مع المرحلة الجديدة بكل ما تتطلبه من تحولات في الخطاب السياسي والاجتماعي تتيح إعادة بناء علاقات سوريا الجديدة مع المنطقة والعالم، والأكيد أن تركيا لم تكن بعيدة عن كل ذلك بل كانت في صلبه ومحركه الرئيس.
والحال فإن ذلك كله ما كان ليحصل لولا جاهزية أنقرة الداعم الرئيس للفصائل السورية لاقتناص الفرصة السانحة واللحظة المناسبة لخلط الأوراق وقلب المشهد في سوريا رأسا على عقب، بعدما كان الظن أن الستاتيكو الدراماتيكي في البلاد قابل للاستمرار وأن هناك تسليما إقليميا ودوليا بضرورة التأقلم معه ما دامت القدرة على تغييره غير متاحة في ظل الظروف القائمة وإلا فإن المنطقة قد تذهب إلى تصعيد إضافي. لكن في الواقع فإن هذا الستاتيكو إياه كان يحمل في طياته أسباب انهياره، إذ كان يخفي تداعي هيكل نظام الأسد وتآكله من الداخل بحيث إن أسباب سقوطه كانت فيه أكثر مما هي في هجوم الفصائل ضده طالما أن أسباب بقائه كانت في الوقت نفسه أسباب سقوطه، فلم يتبق سوى إعلان انهياره في التوقيت المناسب والمفاجئ.
على أي حال، بالرغم من المتغيرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان على موازين القوى الإقليمية، وبالرغم من عدم تسليم الفصائل السورية بحكم الأسد واستعدادها لاستئناف الهجوم ضده في أي لحظة، فإن "الانقلاب" في دمشق ما كان ليحصل لولا استعداد تركيا لخوض المغامرة بدفع الفصائل السورية لشن عملية "ردع العدوان" ومواكبتها وتغطيتها. والأهم أن المغامرة التركية لم تكن عشوائية بل محسوبة ومحسوبة جدا، أي إن أنقرة لم تكن لتقدم على الهجوم لو لم تكن مدركة أنها قادرة على تأمين "شرعية" إقليمية ودولية لنفوذها في سوريا ولصعودها كقوة إقليمية جديدة على حساب إيران، وبدرجة أقل على حساب روسيا. مع العلم أن ديناميكيات العلاقة بين تركيا والحكم الجديد في سوريا لم تتكشف كلها بعد ولم تستقر، بيد أن الزخم التركي في التعامل مع سوريا الجديدة لا يخطئ في إظهار حجم دور أنقرة في المشهد السوري الجديد والأهم حجم رهانها على المتغيرات الحاصلة في "الشام".