"هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وعقود تحصل في أسابيع". لم يكن يعرف صاحب هذه العبارة- "الرفيق" لينين- أن ما قاله في العقد الثاني من القرن العشرين، سيحدث في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بل إن شظايا "العقود" ستصيب "الرفاق الجدد" في موسكو ودمشق.
صحيح أن سنوات كثيرة في التاريخ، شهدت أحداثا كبيرة، لكن سنة 2024 في رأس قائمة السنوات المفصلية، وستكون أسابيعها الأخيرة وسقوط عائلة الأسد بعد خمسة عقود من الحكم، خاتمة لائقة لهذه السنة.
في بعض الجوانب كانت 2024 امتدادا لسنة 2023 لجهة استمرار المبادرات في الخليج والأزمات والحروب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. الحرب الإسرائيلية في غزة والقتل والتشريد والمعاناة امتدت لتشمل نحو مليوني شخص. لكن مع خطوة بعد أخرى، كانت شظايا الحرب تتطاير في سماء الإقليم وأراضيه. ونقطة الانعطاف كانت لدى اغتيال تل أبيب قادة من "الحرس الثوري" في القنصلية الإيرانية بدمشق في أبريل/نيسان الماضي، ثم رد طهران باستهداف مباشر لإسرائيل.
انتقلت المواجهة الثنائية من "حرب الظل" إلى الضربات المباشرة والعلنية. ولم يمر وقت طويل حتى قتل الرئيس إبراهيم رئيسي بسقوط طائرته جراء "خلل فني" في مايو/أيار الماضي. وخلال تنصيب خليفته مسعود برشكيان في نهاية يوليو/تموز الماضي، انتقلت المواجهة إلى مستوى آخر باغتيال تل أبيب رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية في طهران، بالتزامن مع اغتيال فؤاد شكر القيادي العسكري الكبير من "حزب الله" في بيروت.
في صيف 2024، كانت إسرائيل تخوض حروبا في سبع جبهات: لبنان، سوريا، العراق، الضفة الغربية، غزة، اليمن، وإيران... وكان الشرق الأوسط على فوهة البركان
بعدها، جرت سلسلة الاغتيالات والضربات والاختراقات، وأبرزها اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في بداية أكتوبر/تشرين الأول، بعد اختراق أمني إسرائيلي كبير تضمنت تفجير أجهزة "بيجر" واغتيال آلاف من عناصر "الحزب"، ثم بدء عملية برية تحت قصف إسرائيلي عنيف في لبنان.
كثير من المحللين كانوا يعتقدون أن اغتيال هنية أو نصرالله سيكون كافيا لإشعال حرب إقليمية أو أن ذلك سيكون نهاية الضربات للعودة إلى "قواعد الاشتباك"، لكن المفاجآت استمرت وتجاوزت ما تبقى من "خطوط حمراء"، فقضت إسرائيل على كل أركان القيادة العسكرية لـ"حزب الله" وزعيم "حماس" الجديد يحيى السنوار. كما تصاعد القصف والغارات لمواقع إيران و"حزب الله" في سوريا.
لم يكن ترمب المرشح الرئاسي الأول الذي يتعرض لمحاولة اغتيال في التاريخ الأميركي، لكنه الأول الذي ضم خلطة استثنائية: رئيس سابق، محاولات اغتيال، منافسةٌ لمرشحة رئاسية، وإدانة أمام القضاء
في صيف 2024، كانت إسرائيل تخوض حروبا في سبع جبهات: لبنان، سوريا، العراق، الضفة الغربية، غزة، اليمن، وإيران... وكان الشرق الأوسط على فوهة البركان. وكانت أنظار العالم تتجه إلى أميركا وإلى المواجهة التاريخية بين الرئيس جو بايدن ومنافسه دونالد ترمب.
مواقيت تاريخية في الشرق الأوسط، تستأهل حوادث استثنائية في التاريخ الأميركي. بايدن يقرر الانسحاب من أكثر السباقات الانتخابية انقساما، ويُزج بكامالا هاريس لأول مرة، كامرأة ملونة في السباق. هذا ليس كل شيء، بل إن ترمب يتعرض لمحاولة اغتيال "هوليوودية". لم يكن المرشح الرئاسي الأول الذي يتعرض لمحاولة اغتيال في التاريخ الأميركي، لكنه الأول الذي ضم خلطة استثنائية: رئيس سابق، محاولات اغتيال، منافسة لمرشحة رئاسية، وإدانة أمام القضاء. انتهى السباق المحموم، بأن سيطر ترمب و"الحزب الجمهوري" على الأصوات الشعبية وأصوات المجمع الانتخابي وأغلبية مجلسي الكونغرس- النواب والشيوخ- وستة من تسعة أعضاء في المحكمة العليا. بات "ترمب الثاني" جاهزا ومسلحا للدفع باتجاه تسوية بين أوكرانيا وروسيا وخوض معارك التفاوض والتوتر مع الصين.
سقوط الأسد هو انهيار لنظام وعائلة ومحور كانت تقوده إيران. صدقت نبوءة "الرفيق" لينين وأطاحت بـبشار "رفيق" بوتين وحارس مصالحه في الشرق الأوسط وبنظام حافظ "رفيق" السوفيات في العقود السابقة
في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول، كان العالم مستعدا لطي صفحات السنة الحافلة بالأحداث الكبيرة وغير المسبوقة، وكان الصحافيون مرهقين من متابعة أحداث كبيرة، وكان الناس راضين بما حملته جعبتهم من مشاهد وصور وتجارب ويستعدون لاستراحة. لكن مفاجأة كبيرة حصلت: هروب بشار الأسد وانهيار نظامه ودخول "هيئة تحرير الشام" ورئيسها أحمد الشرع إلى دمشق.
اللحظة التي انتظرها كثيرون وتوقع محللون حصولها قبل عقد، ودفع سوريون كثيرون دماء كبيرة لأجلها خلال 14 سنة، وضحى لأجلها عدد كبير لـ54 سنة، حصلت فجأة ودون استعداد كبير، وما كان على السوريين والدول في الإقليم والعالم سوى استعجال القراءة والتكيف مع هذا الحدث الكبير، إنه انهيار لنظام وعائلة ومحور كانت تقوده إيران. صدقت نبوءة "الرفيق" لينين وأطاحت بـبشار "رفيق" بوتين وحارس قواعده العسكرية البرية والبحرية ومصالحه في الشرق الأوسط، كما أطاحت بنظام حافظ "رفيق" السوفيات في العقود السابقة.
بالفعل، حصلت "عقود في أسابيع". وإذ ودعنا 2024 بهذه "العقود"، فإن 2025 تحمل معها الكثير من الأسئلة والتحديات. بعضها قادم من تداعيات هذه التغيرات وبعضها وليد ذاته: مستقبل هدنة غزة وإعمارها؟ مصير "حل الدولتين" والدولة الفلسطينية؟ إعمار لبنان وانتخاب رئيسه وإحياء مؤسساته؟ رد إيران على نكساتها الاستراتيجية؟ مستقبل سوريا بعد تخلصها من ماضيها؟ بناء النظام السوري الجديد بعد إسقاط نظام الأسد القديم؟ سياسات ترمب في المنطقة؟ صفقة أم ضربة بين ترمب وخامنئي؟ مستقبل العلاقات بين الصين وأميركا؟ وتفاصيل التسوية الأوكرانية بين ترمب وبوتين؟