شهد عام 2024 رحيل مجموعة من المثقفين والأدباء والفنانين الذين أثروا في مسارات الإبداع والفكر منذ النصف الثاني من القرن العشرين. عايش هذا الجيل تحولات كبرى مثل نكبة فلسطين وتداعيات الحرب العالمية الثانية والحرب اللبنانية والسورية وصعود تيارات العبث واللاجدوى، وتشظي المرجعيات الأدبية والفنية التقليدية. وفي هذا السياق المضطرب، أعادوا ابتكار أدواتهم وأساليبهم، وقدموا اقتراحات جمالية وأخلاقية وثقافية تعكس هواجس عصرهم وأسئلته وتناقشها وتعترض عليها.
في مجال الفكر فقدت الثقافة العربية المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري الذي كرس حياته لقراءة أسباب الهزائم وتحليلها وتقديم اقتراحات عميقة لمسائل الفكر العربي والواقع العربي وربطها بمسارات التفكير العالمي.
من ألبانيا، غادرنا إسماعيل كاداريه، الذي وثّق في رواياته مأساة شعوب البلقان، بينما كتب الأميركي بول أوستر نصوصا تنقب في عزلة الإنسان الحديث وعلاقاته بالمصادفة والقدر. عربيا، دافع اللبناني إلياس خوري عن حق المنسيين والهامشيين في سرد حكاياتهم بلسانهم ولغتهم.
في مجال الشعر، فقدت المملكة العربية السعودية الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن الذي ترك بصمة كبرى في الشعر النبطي، دمج فيها المؤثرات التراتية والبدوية بآفاق الثقافة الحديثة ومرجعياتها. كما فقد لبنان الشاعر شوقي أبي شقرا، أحد رواد قصيدة النثر، الذي بنى عالما فريدا من سوريالية ترابية تحلق في آفاق الخيال من دون تدمير الصلة بالواقع. ومن سلطنة عمان، فتح زاهر الغافري آفاقا جديدة لتمثل الألم والاغتراب.
على صعيد الفن التشكيلي، تركت الرسامة السعودية صفية بن زقر إرثا فنيا يوثق تراث المملكة في لوحات تعكس خصوصية الهوية الثقافية التراثية السعودية. في مصر، حلمي التوني كان جسد التراث الشعبي بأسلوب يمزج بين الحداثة والبساطة، بينما استلهم اللبناني حسين ماضي الطبيعة ليبتكر عالما بصريا يمزج التعقيد بالبساطة. ومن فلسطين، عرض الفنان فتحي غبن مأساة شعبه في لوحات تستحضر المشهد الفلسطيني في تاريخه وسيرورته وتحولاته وأنماطه الثقافية وأزيائه، في حين اجتهد السينمائي العراقي قيس الزبيدي في توثيق المشهد الفلسطيني الثقافي والنضالي في بنية سينمائية تضيء على العميق والغائر وتخاطب العالم بلغة سينمائية ثرية غنية وشفافة.
في القصة القصيرة، رحلت الكندية أليس مونرو، التي تميزت بأسلوبها البسيط والمباشر في كشف أعماق النفس البشرية، ورصد آثار العيش المديني بتعقيداته التي تصيب النساء بشكل خاص، فبنت عالما أعاد الاعتبار الى القصة القصيرة وقدرتها على التقاط نبض الحياة الحديث القاسي برؤية نسوية استثنائية.
ما يجمع كل الراحلين على مختلف توجهاتهم وأساليبهم، أنهم شكلوا حالة فكرية وجمالية ترفض السطو على أرواح الناس وذاكرتهم، وابتكروا أساليبهم الخاصة التي عكست تصدعات عصرهم وأحلامه وأوهامه.
محمد جابر الأنصاري: مفكك الهزيمة والتخلف
يعد محمد جابر الأنصاري أحد أبرز المفكرين العرب في العصر الحديث، وُلد في المحرق، البحرين، عام 1939، ونما في بيئة ثقافية مشبعة بالمفاهيم والقيم الإسلامية والعربية. تلقى تعليمه الأولي عند المطوع، حيث حفظ القرآن واكتسب معرفة ثرية ومعمقة باللغة العربية.
التحق بالتعليم النظامي، وتابع دراسته الثانوية في مدرسة المنامة، التي وصفها بأنها عبارة عن مصهر وطني، إذ جمعت طلابا من مختلف مناطق البحرين ومدرّسين من دول عربية عدة، مما عزز عنده مبكرا حس التعددية والانفتاح.
انتقل عام 1958 إلى بيروت حيث درس في الجامعة الأميركية وحصل على البكالوريوس في الأدب عام 1963، قبل أن ينال الماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ليكون أول بحريني يحصل على هذه الدرجة. واصل تحصيله العلمي العالي وتوجه بحصوله على الدكتوراه في الفكر العربي الإسلامي الحديث عام 1979، مع دراسات مكملة في كمبريدج والسوربون.
تقلد المفكر الراحل مناصب عدة، تشمل رئاسة الإعلام وعضوية مجلس الدولة البحريني بين عامي 1969 و1971، كما كان من مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب البحرينية ورئيسها الأول. عمل أستاذا لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر في جامعة الخليج العربي، وشغل منصب مستشار ثقافي وعلمي لملك البحرين منذ عام 1989.
نال العديد من الجوائز المرموقة وأبرزها جائزة الدولة التقديرية في البحرين وجائزة سلطان العويس للدراسات الإنسانية ووسام قادة دول مجلس التعاون عام 1989. في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2024، نعى الديوان الملكي البحريني المفكر الكبير، مشيدا بدوره البارز في خدمة الفكر والثقافة.
قام مشروع الأنصاري الفكري على الربط الجدلي بين الفكر والواقع، إذ كان يحرص على تفسير الواقع العربي انطلاقا من الفكر، وإعادة النظر في الفكر العربي استنادا إلى ما يفرزه الواقع من إشكالات وتحولات.