عمارة الخيال التي تتحدى الواقعhttps://www.majalla.com/node/323651/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%AA%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9
أحلّ السورياليون الحلم محل الواقع حين تعاملوا معه باعتباره مصدرا للحقيقة. صحيح أن السوريالية كانت في الأساس مدرسة أدبية غير أن الرسامين الذين التحقوا بها وهبوها الكثير من الرؤى التصويرية التي أغنتها بالكثير من الأفكار التي لم تكن متاحة في المجال الأدبي. كان سلفادور دالي هو الأشهر شعبيا غير أن تجربة البلجيكي رينه ماغريت هي الأكثر عمقا إذا ما أخلص السورياليون لمبادئهم مع واقع خيالي وليس مع خيال الواقع.
أعادتني لوحات الياباني مينورو نوماتا التي ضمها معرضه الشخصي في متحف "وايت كيوب" الصغير بلندن إلى أجواء ماغريت. على الأقل في لوحاته التي تخلو من البشر. فهذا الأخير حاول رسم الصمت. غير أن نوماتا استفاد اكثر من رسوم الإيطالي جورجيو دي شيركو (1888 ـ 1978) الذي انصبّ همه على استخلاص معنى الضياع البشري في مدن غير مأهولة.
كل المفردات البصرية التي رسمها يمكن أن تسمى من غير أن تشير صورها إلى وجودها في الواقع
ما أن يرى المرء لوحات شيركو حتى يشعر بالضياع. ففي إمكان الطاقة الحلمية التي تنطوي عليها تلك اللوحات، إعادة المرء إلى فكرة ألا يكون لحياته معنى، وهي فكرة مثيرة بقدر ما هي مزعجة. رسم شيركو شوارع مدينة غير واقعية غير أنها ممكنة واقعيا بسبب احتفائها بالمفردات التي يسعى كل إنسان إلى إبقائها في المنطقة الصامتة من اضطرابه النفسي. الضياع والغربة والخوف من المجهول والقلق، كلها صفات تلك المنطقة العازلة.
أين تكمن الحقيقة؟
مينورو نوماتا (1955) هو رسام مدن خيالية تنفصل بخيالها في درجات مختلفة عن الواقع، غير أنها في كل الأحوال لا تؤدي إليه إلا من طريق الفكاهة السوداء. وهو واحد من مبادئ السوريالية. ولأن رسومه جادة، فإن توقع أن يضحك المرء وهو يراها، غير محتمل. كما أن خيالها الذي ينطوي على استلهام الأساطير يفرض سطوته ليقف بين المرء ونفسه التي تعزف عن أي نوع من المحاكمة العقلية. على المستوى التقني تبدو رسوم نوماتا واقعية. رسم الفنان ما رآه ليمكننا من رؤيته كأننا رأيناه في وقت سابق. لكن ذلك ليس حقيقيا. فما رسمه محض خيال لم يعشه إلا من أجل أن يرسمه. تلك صور أراد لها العيش بعيدا عن حقيقتها.
كل المفردات البصرية التي رسمها يمكن تسميتها من غير أن تشير صورها إلى وجودها في الواقع. فهو يرسم قصرا أو جسرا أو حقولا أو معملا لم يره أحد من قبل. لا لشيء إلا لأنه لم يكن موجودا قبل أن يُرسم. خيال يمكن أن تعطله تجارب المعمارية العراقية زها حديد التفكيكية. تسرّ رسوم نوماتا العين لأنها توحي بخزين من الحكايات. في إمكان كل متلق ابتكار حكايته الخاصة المستلهمة مما سمعه. تعيدنا تلك الرسوم على الرغم من مظهرها الجاد إلى زمن الطفولة. إنها تنشئ جسرا خياليا بين الواقع وحقيقته. يتساءل المرء: ماذا لو كان كل ما أراه حقيقيا؟
اختبار الطبيعة
"جبل الجليد" هو واقعة وفكرة في الوقت نفسه. ينسج نوماتا حكايات بصرية كثيرة أفلت عبرها من الطابع الوصفي لذلك الكيان الذي يغلب عليه الخيال، لكن الواقع لا ينكره. في أكثر من عشر لوحات، يستحضر الرسام في معرضه الجزء الغاطس من جبل الثلج بطرق مختلفة. لقد وجد فيه عمارة غاطسة تحت الماء. وهي عمارة لا تفارق قوانين الطبيعة، غير أنها قد لا تكون على ذلك الانضباط الذي نتوقعه من الواقع. يحرجنا الرسام بحرية تخيّله الشكل الذي يكون عليه ذلك الجزء الغاطس وهو يرسمه كأنه رآه. اليابانيون يختبرون الطبيعة بطريقتهم الانفعالية البطيئة. يأسرهم شكل بعينه، غير أنهم حين يرسمونه يهبونه طابعا شعريا.
ما فعله نوماتا يشبه إلى حد كبير ما يفعله شاعر بالكلمات. ما تقوله الطبيعة يلتزم ما نراه، أما ما لم تقله فإنه سيكون حكرا بالشعر. تلك محاولة لاكتشاف جماليات عمارة مقلوبة. ولن يكون مهما إذا كانت العمارة التزمت القوانين الرياضية التي تحفظ لها توازنها أو أنها لم تلتزم. فحتى في المباني التي تخيل الرسام وجودها وصورها، لم تكن تلك المعادلة قائمة أو ذات تأثير، لأن وظيفة العمارة لدى نوماتا ليست مكرّسة للإيواء. فما يقترحه نوماتا من أشكال غرائبية لا يصلح أن يكون مصدرا معماريا. وذلك لا ينفي طبعا أن تلك الأشكال ملهمة لقلة من المعماريين. هي قلة تميل إلى ممارسة ألعاب شكلية، لكن ليس على حساب الوظيفة.
مساءلة المكان عبر الزمن
يجمع مينورو نوماتا بين استعادة الشكل المتخيل لبرج بابل كما تخيله رسامون سبق لهم أن شغفوا بالأساطير التي يمتزج من خلالها الديني بالتاريخي، وبين الرغبة في إنشاء صور مستلهمة من روايات الخيال العلمي التي كانت بمثابة حافز للتفكير في تطوير بحوث الفضاء وعلاقة كوكبنا بالكون الذي هو جزء منه. في الحالين يبرز الزمن عنصرا حاسما في إضفاء طابع رمزي على المحاولة الفنية.
ذلك عالم خيالي، لا زمن له غير أن الانجذاب إليه بسبب جماليات فكرته يدفع بالمتلقي في اتجاه التفكير في زمنه الخاص
ما أراد الفنان الوصول إليه، يتحقق من النظرة الأولى التي يلقيها المتلقي على أعماله. ذلك عالم خيالي، لا زمن له غير أن الانجذاب إليه بسبب جماليات فكرته يدفع بالمتلقي في اتجاه التفكير في زمنه الخاص. وهو زمن مجاور. زمن لم يمر بنا غير أنه ممكن. وكأن برج بابل حقيقة إذا أردنا تصديق الحكاية الدينية، وكأن الكون الذي نعيش في ذرة منه، سيخضع لأدواتنا العلمية القاصرة ويهبنا كل أسراره. المثير في لعبة الرسام الياباني أنها تجري على أساس مساءلة المكان عن جمالياته المفقودة، لكن ذلك ليس سوى غلاف يخفي مضمون الهوس بالزمن. ذلك رسام يعبئ زمنه بالكثير من الإفكار المتمردة عن مكان لا وجود له، وفي الوقت نفسه يلهو بالمكان المتخيل ليعيده إلى زمن لم يعشه، غير أنه كما يتوقع نوماتا سيمرّ به. ربما يعتبر رسومه نبوءة لمكان وزمان سيكونان في انتظارنا.