إسرائيل تُبعد لحظة الحقيقة... بالتحريض والاعتداء على سوريا

نتنياهو ليس معنيا باستقرار دمشق لأنه مصلحة عربية وإسلامية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جندي إسرائيلي في بلدة جباتا الخشب السورية، في المنطقة العازلة في مرتفعات الجولان، 20 ديسمبر

إسرائيل تُبعد لحظة الحقيقة... بالتحريض والاعتداء على سوريا

حيفا- إسرائيل وكعادتها مصرة على تأجيج التوترات في محيطها العربي، مصممة إلى درجة لا تترك للعرب منفذا سوى تحديها. ومن توهّم أن إسرائيل تتطلع إلى العلاقات الطبيعية وإلى سلام نسبي وإلى حالة استقرار مع محيطها، أتت تبعات الثورة في سوريا لتبدد كل تلك الأوهام. فبعد أيام من انتصار الثورة والإطاحة بنظام البعث الدموي، والذي كبت أنفاس السوريين لأكثر من ستة عقود، خرج أحمد الشرع قائد "هيئة تحرير الشام" ليوجه رسائل إلى إسرائيل ومن يدعمها بأن إيران أبعدت عن سوريا وأن دمشق ليست معنية بأي توترات معها، وأنها ترغب في علاقة جوار سلمية مبنية على سلام حقيقي. والأكيد أن سوريا والشرع لا يستطيعان أن يقوما بذلك مستقبلا بغير التزام إسرائيلي بحل القضية الفلسطينية حلا عادلا والانسحاب من الجولان السوري المحتل.

يعرف الشرع، ومن معه، أن دعم القضية الفلسطينية وحلها مسألة عضوية رسمية وشعبية. الموقف الرسمي هو ما عبرت عنه المملكة العربية السعودية بربط العلاقة مع إسرائيل بحل الصراع، وشعبيا هناك دلائل قاطعة بالتزام الشارع العربي بحل عادل للقضية الفلسطينية. وفي هذا فإن القيادة السورية الجديدة أو تلك التي ستأتي مع تقدم الاستقرار في سوريا وكما الشارع السوري، كلهم في نفس موقف السعودية وباقي الدول العربية.

إسرائيل من طرفها لا تريد ذلك، تريد الاستمرار في التحكم بفلسطين وعدم إتاحة الفرصة لحل حقيقي وثابت وعادل ولا تريد العودة عن احتلال الجولان، ومستعدة في سبيل ذلك أن تضحي بأية عملية حقيقية لمصالحة شاملة مع العالم العربي. وكما أنها تعمل ليل نهار لإثارة التوتر في أجزاء مختلفة من العالم العربي، ولبنان أكبر شاهد على ذلك، والآن تعود سوريا إلى الصدارة، فهي مصرة على حالة التوتر في علاقتها مع سوريا وغير مهتمة بأي إمكانية لإتاحة الفرصة للحكم الجديد في سوريا لإثبات ما يقوله الشرع، وهنا بيت القصيد.

وفي رأيي أن إسرائيل تدرك أن أي استقرار في سوريا سوف يكون مفتاحاً مهماً لاستقرار على مستوى المنطقة، وهذا سوف يفتح المجال لضغوطات جدية عليها لأجل القيام بدورها في إعطاء فرصة لاستقرار حقيقي. وعندها فإن المطلوب منها التصالح مع الفلسطينيين من جهة، والتصالح مع سوريا من جهة أخرى، وإنهاء حالة التوتر مع لبنان والأردن، وربما مصر، وبهذا فتح المجال أمام مصالحة عربية وإسلامية شاملة معها.

العالم يحاول أن يتواصل مع الحكم الوليد في سوريا، ويريد ويأمل أن يتغير نحو نظام مدني وديمقراطي سوري، ومستعد أن يقبل الإسلاميين كشركاء في الحكم إن تبنوا خطا وسطيا ديمقراطيا ومدنيا

المفتاح لاستقرار سوريا وذهابها إلى مرحلة تحول ديمقراطي حقيقي تكمن في متغيرات عدة لها علاقة مركزية بموضوع الاستقرار، وهذا تفهمه القيادة السورية جيدا، على الأقل من خلال مراقبة ومراجعة تصرفاتها وخطابها نحو الداخل أولا ونحو الجوار ثانيا. وإذا راجعنا مواقف القوى والدول المتدخلة بشكل مباشر في سوريا بعد الأسد- وهي كانت متدخلة في فترة حكم الأسد على الأقل منذ صدامات 2011- نجدها جميعها معنية بالاستقرار الجدي في سوريا، عدا إسرائيل طبعا. الولايات المتحدة معنية بالاستقرار وسحب قواتها تدريجيا من سوريا والعراق بعد ضمان وجود حالة مستقرة في المنطقة وانحسار التهديدات لمصالحها. هي معنية بذلك بسبب ارتباطها بدول عربية وإسلامية وخصوصا في مصادر الطاقة في المنطقة، كما أنها معنية بضبط التمدد الإيراني، وأهم شيء هي معنية بإسرائيل وبمصالحها، وهذا صحيح كذلك بالنسبة للرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، وبحاشيته التي تتشكل. وتركيا معنية بالاستقرار لأسباب عدة أهمها ضمان عدم انفلات الوضع الأمني، وخصوصا مع أكراد سوريا وإمكانيات انتقال هذا الانفلات إلى أراضيها، كما أنها معنية جدا بقطف ثمار تجربتها في دعم التغيير في سوريا وربما نقل بعض تجاربها في النظام السياسي إلى جوارها، وسوريا هنا هي عينة قد تمثل ما سيأتي بعده. ولتركيا مصالح تجارية جدية في سوريا من حيث النفط والطاقة أو كون سوريا سوقا لفائض الإنتاج التركي أو مجمعا لقوى وخبرات قد تستفيد منها تركيا واقتصادها.

أما بالنسبة للدول العربية المجاورة، فكلها تخشى من عدم الاستقرار، وواضح أن مصالحها فيه. العراق الذي يعيش صراعا طائفيا وقوميا بحاجة إلى الاستقرار في سوريا، وأساسا عانى من الحدود الطويلة والمفتوحة مع سوريا وتبعات ذلك على الوضع الداخلي لديه.

أ.ف.ب
دبابة للجيش الإسرائيلي تتخذ موقعا في بلدة مدينة البعث السورية، في المنطقة العازلة التي تحرسها الأمم المتحدة في مرتفعات الجولان، في 20 ديسمبر

الأردن يخشى عدم الاستقرار وإمكانيات نفاذه إلى أراضيه، ولبنان عانى الأمرين من نظام البعث ويحلم بحالة استقرار مع سوريا، وربما إلى وقف تدفق الدعم لـ"حزب الله" من خلال سوريا، وبالتالي ضبط الأمور داخليا وخلق أجواء مصالحة حقيقية مبنية على توازنات ومصالح مدنية وليس على أساس سلطة القوة والعنف الطائفي. وهذه الدول الثلاث– العراق والأردن ولبنان– معنية جميعها بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم وربما باستثمار علاقات مستقرة مع سوريا لأسباب اقتصادية تشبه مصالح تركيا.

مقابل كل تلك الدول، تبقى إسرائيل متفردة بكونها غير معنية بحالة استقرار. إسرائيل قامت بعمليات تفجير المعدات العسكرية السورية كضربة استباقية تبدد إمكانيات نجاح الثوار من السيطرة على تلك الأسلحة، كما قامت بتقديم بعض وحداتها العسكرية في الجولان ومتخطية خط وقف إطلاق النار من حرب أكتوبر/تشرين الأول، ليس لأنها لا تثق في الحكم القادم في سوريا فقط، بل لأنها معنية بزرع البلبلة والفتنة ونزع أي إمكانية لاستقرار نسبي، وكل ذلك بما يتلاءم مع عقلية عدائية تتحكم في إسرائيل عموما، وفي حكومتها الحالية بشكل خاص، عقلية تريد فرض السيطرة والتحكم وهي التي سيطرت ولا زالت تحكم إسرائيل في علاقتها بالفلسطينيين وبباقي العرب.

العالم يحاول أن يتواصل مع الحكم الوليد في سوريا، ويريد ويأمل أن يتغير نحو نظام مدني وديمقراطي سوري، ومستعد أن يقبل الإسلاميين كشركاء في الحكم إن تبنوا خطا وسطيا ديمقراطيا ومدنيا وقابلا للتعددية الفكرية وعلى أرض الواقع، والقيادات تزور سوريا وتلتقي مع الشرع وغيره. السوريون يعودون بآلافهم، والنشطاء السياسيون والمثقفون والفنانون وغيرهم يعودون لثقتهم أو لتأكيد شراكتهم في سوريا المتشكلة، آملين جميعهم أن تتشكل سوريا ديمقراطية ومدنية وقابلة للتعددية. إلا إسرائيل، فإنها مصرة على تسويق وتعميق عدم الثقة بإمكانيات تحول ديمقراطي في سوريا ويتنافس معها في ذلك بقايا الشبيحة ورجال النظام البائد.

إسرائيل ونتنياهو غير مستعدين للتسليم باستقرار سوريا لأن ذلك سوف يعني استقرارا جديا في المنطقة

إن تلويح إسرائيل "بمخاطر" الأنظمة الإسلامية ليست مسألة جديدة، لكنها تعاظمت مع تصدر بنيامين نتنياهو للمشهد الإسرائيلي، وهو يدّعي أنه من رواد فكرة "الخطر الإسلامي"، و"الإرهاب الإسلامي". وبذلك فإنه ساهم تاريخيا في تأجيج "صراع الحضارات" وفي تعميق التوتر بين العالم الإسلامي وباقي العالم، كما أنه يصر على التحريض ضد أي توجه إسلامي، من الجزائر والمغرب إلى العراق، مرورا بفلسطين وسوريا والأردن، وسوف يعرج على دول الخليج العربي إذا صعدت هذه الدول من دفعها باتجاه إقامة دولة فلسطينية، وهو مستعد أن ينقلب عليها إذا ساهمت أكثر في إقناع العالم بضرورة الضغط على تل أبيب من أجل تسوية سياسية في فلسطين وانسحاب في الجولان.

نتنياهو وإسرائيل من خلفه ليسا معنيين باستقرار سوريا وأهلها، لأنهما يفهمان أن استقرار سوريا والانتقال الديمقراطي فيها مصلحة عربية وإسلامية، وكذلك مصلحة للقوى العظمى، وعندما تتعافى سوريا من أردان النظام البعثي، فإنها قد تشكل مركزا لاستقرار سياسي واجتماعي ولنمو اقتصادي في المنطقة، وإسرائيل لا تريد ذلك كله، لأنها تحارب العرب في جبهة التنمية العلمية والاقتصادية لتثبت أنهم متخلفون، ونجاحات دول خليجية وغيرها تخيفها وتغيظها لأنها تثبت جدارة العرب في دخول التاريخ الحديث من بوابة التنمية والتطور العلمي.

أ.ف.ب
جنود إسرائيليون يتفقدون دبابة للجيش السوري استولوا عليها، في المنطقة العازلة بالقرب من قرية مجدل شمس الدرزية في مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل، في 21 ديسمبر

إسرائيل ونتنياهو غير مستعدين للتسليم باستقرار سوريا لأن ذلك سوف يعني استقرارا جديا في المنطقة، ويُبقي بؤرة واحدة مركزية للتوتر، هي الاحتلال الإسرائيلي وسياساته العدوانية تجاه الفلسطينيين وسوريا ولبنان. نتنياهو وإسرائيل من خلفه يدركان أن حالة النزاع وعدم الاستقرار في فلسطين، دون غيرها في المنطقة العربية، سوف تقوي ادعاء العرب والفلسطينيين بضرورة تضافر جهد عالمي للضغط على إسرائيل للتحول نحو دولة طبيعية وديمقراطية ومدنية وغير معتدية، وهذا لا يريده نتنياهو ولا إسرائيل من خلفه، إنه يدرك أن تقدم ساعة الرمل نحو استقرار سوريا تعني بداية ساعة الحقيقة للضغط على إسرائيل لتقوم بدورها لأجل استقرار المنطقة، ونتنياهو وزمرته والمؤسسة الإسرائيلية يخافون جدا من تلك اللحظة.

font change

مقالات ذات صلة