كان الوضع الراهن قبل أحداث الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول قائما على توازنات إقليمية ودولية دقيقة جدا في الجغرافيا السورية. وضع راهن كان مصير السوريين فقط رهينته الوحيدة.
التوازنات الهرمية الدقيقة بين قوى الصراع في الساحة السورية قامت على برج من أعواد الكبريت، سقوط عود واحد منها "أو اشتعاله" يكفي لهدم كل التوازن الهش.
وتهاوت أعواد الكبريت بعد تداعيات السابع من أكتوبر.
تلك التوازنات "وهي دقيقة على هشاشتها" تشكلت في سياق المقتلة السورية الطويلة لتنتهي بوضع راهن كانت فيه الولايات المتحدة حاضرة بقوتها ودعمها شرقي سوريا لتواجه روسيا على الساحل في أقصى الغرب حيث القاعدة الروسية وأول حضور روسي في مياه دافئة. الشمال السوري مساحة تركية حيوية تديرها أنقرة عبر الفصائل بالوكالة وأحيانا بتعزيزات مباشرة منعا لأي حضور كردي يتجاوز المنطقة الشرقية تحت حماية واشنطن. النظام المستبد كان في دمشق وجيوب جغرافية ممتدة في الاتجاهات الممكنة تحت الحماية الإيرانية المباشرة وميليشيات "حزب الله". الفصائل المتطرفة التابعة لتنظيم "داعش" منكفئة في البادية الجنوبية تنتظر أي فرصة لتعيد مفهوم تمددها بعد أن ثبتت بقاءها.
باختصار، كانت الدولة السورية هي الغائب الوحيد، فالنظام المستبد فقد مفهوم الدولة وانتهى تحت حماية كل تلك التوازنات الدقيقة.. والهشة جدا.
وإسرائيل، بكل ما تملك من حذر وترقب متوجسة، وكانت طهران في منتصف المجال الحيوي الإسرائيلي.
السابع من أكتوبر كان كافيا ليصنع موجة ارتدادات تهز التوازنات الهشة لتنهار، فكانت تلك الحرب المتوحشة في غزة والحضور الإيراني المباشر أو عبر "حزب الله" المتمدد بقوة إقليمية قادرة على تهديد أمن إسرائيل من الشمال.
رد الفعل الإسرائيلي كان الإعصار الذي حرك كل شيء وسمح لكل الأطراف بأن تتحرك، وكل منها باتجاه مصالحه ضمن تفاهمات ضمنية على إخراج إيران من لبنان وسوريا (وربما العراق قريبا).
اجتماع الدوحة لم يكن هو ساعة الصفر لسقوط النظام، سبقه اجتماع أمني عميق وخطير كانت التفاهمات فيه على ما بعد سقوط النظام، وقد انعقد في غازي عنتاب، في الخامس من ديسمبر.
كانت أنقرة تدير اجتماع غازي عنتاب، وقد رفض دكتاتور دمشق بحسابات ارتجالية غبية أن يقبل دعوتها الأخيرة له للقاء مصالحة سياسية كان يمكن أن يغير كل الأحداث جذريا، ومن بين الحضور في غازي عنتاب كانت الأطراف الإقليمية المعنية حاضرة بخبرائها وأجهزتها الاستخبارية (وطبعا مع وليم بيرنز) مع الفصائل المسلحة المعارضة، وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام" التي خضعت وقياداتها لعملية تأهيل عميقة ومكثفة طوال عامين في الغرف التدريبية المغلقة.
الأسد كان في موسكو قبل أسبوع من سقوطه، ولم يحظ باستقبال من بوتين، لكنه التقى ميدفيديف الذي أبلغه بوضوح أن عليه ترتيب خروجه من السلطة وبدء البحث عن مخرج آمن
لم يكن المجتمعون بحاجة إلى خطة دخول عسكرية، التوازن الهش حالما ينهار فالنظام سينهار تلقائيا، كان الاجتماع منصبا على ما بعد سقوط النظام نفسه، فانتقال السلطة في سوريا كما قرر الحضور بالإجماع يجب أن يكون سلميا، وإبقاء مؤسسات الدولة متماسكة لتسهيل العملية السياسية.
كان من الشروط التي فرضها وليم بيرنز تحديدا ضمان عدم تحول سوريا بعد سقوط النظام إلى ملاذ لأي متطرفين أو إرهابيين، بالنسبة لأنقرة كان تعريف الإرهابيين يتمثل في صورة العدو التاريخي لأنقرة (الأكراد). ولأنقرة مطلب آخر يتعلق باللاجئين فكان الاتفاق بعد سقوط النظام أن تتم تسوية كل الظروف لعودة اللاجئين السوريين فورا والموجودين في تركيا ولبنان والأردن والعراق، مع تأكيد على تقديم الدولة الجديدة بصورة مدنية. وكان هناك إصرار على قيادات الفصائل القادمة من رحم "جهادي" أن تطبق ما تدربت عليه بتقديم صورة دولة مدنية جديدة في سوريا الجديدة.
الاجتماع الذي لم تحضره روسيا طبعا ولا إيران، كان واضحا فيه تخلي موسكو وطهران عن خيار التمسك بالأسد ونظامه، روسيا مهتمة بحضورها في القاعدة العسكرية على الساحل في مياه المتوسط الدافئة، وتبحث عن مخرج آمن من ورطتها الأوكرانية مع قدوم إدارة ترمب، وإيران "حرسها الثوري الراديكالي" بالكاد يلتقط أنفاسه من ضربات قوية تلقاها، كان آخرها تفكيك منظومة "حزب الله" وإضعافه حد اغتيال قياداته وتشرذم كوادره، بل إن تسريبات تحدثت عن أن وزير الخارجية الإيراني أبلغ مؤتمر الدوحة أن طهران لا تتمسك بالأسد ونظامه، لكنها معنية جدا– وهذا مفهوم لمن يعرف العقل السياسي في طهران- بحماية الأقليات الشيعية والعلوية في سوريا من أي عمليات تطهير بعد رفع الحماية عنهما، وقد سبق سقوط النظام– وحسب التسريبات- تواصل بين قيادات فصائل المعارضة وطهران وبرعاية تركية تم فيها توصيل ضمانات حماية الأقليات الشيعية والعلوية.
الأسد الذي ذكرت تقارير موثوقة أنه كان في موسكو قبل أسبوع من سقوطه، لم يحظ باستقبال من بوتين، لكنه التقى ميدفيديف الذي أبلغه بوضوح أن عليه ترتيب خروجه من السلطة وبدء البحث عن مخرج آمن.
هناك أسئلة كثيرة عن "حكام دمشق" الجدد، القادمين من رحم "الجهادية" والراديكالية وخطابهم "الاستثنائي والمدهش" في مفاهيم الدولة المدنية والحوار الوطني المفتوح على الجميع
كانت العملية قد اكتملت، وكان المفاجئ للجميع فقط، سرعة سقوط النظام! هذا السقوط السريع لم يكن بالحسابات المسبقة، كان التوقع أسابيع أكثر، لكن هشاشة النظام وقواته العسكرية كانت بذات هشاشة التوازن الإقليمي الذي سمح له بالبقاء في السنوات الأخيرة.
كان اجتماع غازي عنتاب تحضيرا لتسويات إقليمية باتت ضرورة ملحة لا لدول الإقليم وحسب، بل للعالم كله في منظومة علاقات دولية جديدة لا تتحمل التطرف ولا الراديكالية، في شرق أوسط صار الاستقرار فيه مصلحة اقتصادية للعالم كله، وليس أمنية إنشائية في الخطابات والكلمات الأممية.
بقي أن نقول- كملاحظة أخيرة على اجتماع اللحظة الأخيرة المهم- إن إسرائيل لم تكن حاضرة في غازي عنتاب، لكنها كانت على تخوم الجنوب السوري تعرف وتتربص وتنتظر.
هناك أسئلة كثيرة عن "حكام دمشق" الجدد، القادمين من رحم "الجهادية" والراديكالية وخطابهم "الاستثنائي والمدهش" في مفاهيم الدولة المدنية والحوار الوطني المفتوح على الجميع وإدارة الدولة بفعالية وجاهزية مسبقة، وتلك تجربة انقلابية غير مسبوقة في تاريخ الدولة السورية التي اعتادت بعد استقلالها بقليل أن تشهد سلسلة انقلابات حد القول الساخر إن "الضابط الذي يستيقظ أبكر هو صاحب البيان رقم واحد"، وحسمها الأسد الأب بانقلابه وحركته "التصحيحية" التي أورثها لابنه لعقود طويلة.
والحكم على تلك التجربة لا يزال مبكرا لكن نتفق على أن أي تجربة بعد هذا النظام المتوحش والبائد تستحق كل فرصها في سوريا.