أصدرت محكمة النقض الفرنسية في 18 ديسمبر/كانون الأول حكماً يُعتبر سابقة قضائية جديدة في النظام الدستوري الفرنسي، حيث رفضت المحكمة الطعن الذي أقامه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، وأيدت حكم محكمة الاستئناف في باريس الصادر في مايو/ آيار 2023 والذي قضى بعقوبة السجن بحقه لمدة ثلاث سنوات، مع إيقاف تنفيذ العقوبة بالنسبة لسنتين منها، وسريان العقوبة لمدة سنة واحدة، يتم إخصاعه خلالها للمراقبة عن طريق سوار إلكتروني بمحل إقامته بدلاً من قضائها في السجن، بالإضافة لعقوبة تبعية تتمثل في حرمانه من الترشح أو تولي أي منصب عام لمدة ثلاث سنوات.
إضافة إلى ذلك، سيتم محاكمة ساركوزي ابتداء من يوم 6 يناير/كانون الثاني 2025 أمام محكمة جنائية في باريس عن شق أخر من قضية التبرعات والتمويلات غير القانونية التي تلقاها حزبه خلال حملته الانتخابية الرئاسية للعام 2007، تتعلق بالاشتباه في تلقيه تمويل بملايين الدولارات من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
تفاصيل وخلفية القضية
تعود تفاصيل القضية والتي تعرف إعلامياً (بقضية التنصت على المكالمات الهاتفية) إلى عام 2014، عندما تم اتهام ساركوزي بالتورط مع محاميه تييري هيرزوغ، وذلك بعد وضعهما تحت مراقبة الشرطة القضائية والتنصت على مكالماتهما التليفونية، حيث اسفرت التحقيقات عن اكتشاف خط تليفوني غير رسمي تم شراؤه باسم مستعار وهو بول بيزموت، استعمله ساركوزي للتواصل مع محاميه الذي استخدم اسماً مستعاراً أخر، في محاولة للتواصل مع القاضي السابق جيلبير أزيبير، الذي كان يشغل منصباً رفيعاً في محكمة النقض، للحصول منه على معلومات سرية بشأن تحقيقات في قضية فساد أخرى تتعلق بشبهة تبرعات وتمويلات غير قانونية تلقاها حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" اليميني الذي أسسه ساركوزي أثناء الحملة الانتخابية عام 2007، من ليليان بيتنكور وريثة مجموعة شركات "لوريال"، وفي مقابل هذه الخدمة وعده ساركوزي بمنحه منصباً فخرياً مرموقاً في إمارة موناكو. وقد صدر حكم المحكمة الأبتدائية بإدانته في مارس/آذار 2021، وطعُن عليه بالأستئناف وقضت محكمة الاستئناف برفض الطعن وتأييد حكم محكمة الأستئناف في مايو/ آيار 2023، ثم صدر حكم محكمة النقض الأخير تأييداً لهذين الحكمين.
ويعتبر حكم محكمة النقض الأخير حكماً نهائياً وباتاً، ويقصد بالحكم النهائي، هو الحكم الذي استنفذ طرق الطعن العادية، ولا يمكن الطعن فيه إلا بالطرق غير العادية للطعن مثل الطعن بالنقض، أما الحكم البات، فهو الحكم الذي استنفذ كل طرق الطعن، ولا يمكن الطعن فيه بأي طريقة من طرق الطعن، ومن ثم فالحكم البات يضمن إعادة الاستقرار واليقين للحقوق والمراكز القانونية المتنازع عليها، بوصفه عنواناً للحقيقة.
هيكل النظام القضائي الفرنسي ومكانة محكمة النقض فيه
يقوم النظام القضائي الفرنسي على نظام القضاء المزدوج، بما مؤداه وجود جهتين قضائيتين مستقلتين عن بعضهما البعض، الأولى، جهة القضاء العادي وتختص بالفصل في كافة المنازعات التي تنشأ بين الأفراد وبعضهم البعض، أو التي تنشأ بين الأفراد والدولة بوصفها شخصاً من أشخاص القانون الخاص (بمعنى التصرف كفرد عادي دون ممارسة مظاهر السلطة وسيادة الدولة، مثل الدخول في تعاقدات مدنية عادية)، كما تتضمن جهة القضاء العادي كذلك المحاكم الجزائية والجنائية والتي تختص بالمحاكمات الجنائية وتوقيع العقوبات على من يُدان، وتتربع على قمة جهة القضاء العادي محكمة النقض (ويطلق عليها في بعض الأحيان المحكمة العليا الفرنسية).
والثانية، جهة القضاء الإداري، وتختص بالفصل في كافة المنازعات الإدارية التي تنشأ بين الأفراد وبين الدولة (الإدارة) صفتها صاحبة السلطة العامة، أو التي تنشأ بين جهات وهيئات الدولة المختلفة وبعضها البعض، وكذلك تختص بالعقود الإدارية التي تكون الدولة طرفاً فيها، بحيث تتعاقد بموجبها كسلطة عامة بما لها من العديد من الحقوق والسطات والامتيازات التي لا يتواجد نظيرها في القانون المدني، ويتربع على قمة جهة القضاء الإداري مجلس الدولة الفرنسي (المحكمة الإدارية العليا الفرنسية)، إضافة لدور المجلس كجهة إستشارية وإفتائية للحكومة، وقد نشأ القضاء الإداري أساساً على مبدأ الفصل بين السلطات وتعد فرنسا مهد ذلك القضاء، ومنها انتشر في كثير من دول العالم لاسيما الدول الفرانكفونية، والدول المتأثرة بالثقافة الفرنسية عموماً، وذلك نظراً لما يتمتع به هذا النظام من خصائص مهمة، أخصها التخصص وسرعة الفصل في المنازعات الإدارية والبساطة في الإجراءات ضماناً لحسن سير المرافق العامة بانتظام واضطراد، وهو الأمر الذي تمليه طبيعة المنازعات الإدارية لتعلقها بالمصلحة العامة غالباً والموازنة بينها وبين المصلحة الخاصة.
ولا يكتمل نظام القضاء المزدوج إلا بوجود، المجلس الدستوري الفرنسي، والذي يختص بالفصل في الرقابة السابقة على دستورية القوانين قبل العمل بها، وتشكيله شبه قضائي، إذ يدخل في تشكيله أعضاء سياسين من خارج السلك القضائي، كرؤساء الجمهورية السابقيين على سبيل المثال، ومن ثم فهو لا يعتبر محكمة عليا تتربع على قمة الهرم القضائي بجهتيه.
موقف الدستور والقانون الفرنسي من محاكمة رئيس الجمهورية
الحصانة الرئاسية: نظم الدستور حالات مسئولية رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة عن الأعمال التي يؤدوها بسبب أو أثناء توليهم مناصبهم الهامة، لا سيما محاكمة رئيس الجمهورية الفرنسية والتي تعتبر موضوعاً حساساً ومعقداً، وباستعراض نصوص مواد دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الصادر عام 1958 وفقاً لأحدث تعديلاته عام 2008، نجد أن الرئيس الفرنسي لا يملك حصانة مُطلَقة على أفعاله، بل يتمتع بحصانة قانونية إجرائية مؤقتة تقوم على عدم إمكانية ملاحقته قضائياً أثناء فترة ولايته عن الأفعال المرتكبة أثناء أو قبل توليه المنصب، إلا في حالة الخيانة العظمى، وتنتهي هذه الحصانة بعد انتهاء فترة الولاية الرئاسية بثلاثين يوماً، ويمكن بعدها ملاحقته قضائياً دون قيود دستورية، ومحاكمته مثل أي مواطناً أخر.
العزل الرئاسي: نظمت المادة 68 من الدستور إمكانية عزل الرئيس برلمانياً في حالة وحيدة فقط وهي حالة الإخلال الجسيم في آداء مهام منصبه، بما يتعارض مع الاستمرار في ذلك المنصب (ومن قبيل هذه الأعمال عرقلة الرئيس المُتعمّدة لعمل البرلمان أو غيره من مؤسسات الدولة بحيث تتوقّف الحياة التشريعية في البلاد، أو امتناعه عن إصدار القوانين وفقاً لما خوله الدستور وغير ذلك من الأفعال شديدة الخطورة التي تُشكّل أفعالاً استثنائية لا يُمكن أن يأتي بها رئيس، وتتم محاكمته نيابياً أم غرفتي البرلمان (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) بصفتهما (محكمة عليا)، ويتم تقديم اقتراح طلب العزل الرئاسي من قِبَل ستين عضواً من أعضاء أيٍّ من الغرفتين، ويتم التصويت على قرار العزل تصويتاً سرياً بأغلبية ثلثي أعضاء غرفتي البرلمان. ومن الملُاحظ أن عقوبة العزل الرئاسي هي عقوبة سياسية تتم وفقاً لمحاكمة سياسية بحتة، لا تحمل أية صفة قضائية سواء من حيث طبيعة العقوبة أو من حيث الإجراءات أو حتى من حيث تشكيل عضوية المحكمة العليا، فهم ليسوا قضاة وإنما هم نواب عن الشعب من أعضاء غرفتي البرلمان.