10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في 2024

بعضها ينافس على جوائز الأوسكار المقبلة

10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في 2024

كان عام 2024 مليئا بالأفلام اللافتة من كل الجنسيات واللغات. أفلام تجدد الأمل في قدرة الفن على مقاومة القبح والخراب المحيط بنا، وفي قدرته على تطوير نفسه، وأداء وظائفه الشكلية والموضوعية كافة. بعض أبرز أفلام هذه السنة، تناولناها حين عرضها في مقالات مستقلة، وبعضها يمكن وضعه في سياق أشمل من التأمّل، كما تطمح هذه المساحة. في السطور التالية استعراض لعشرة من أبرز أفلام هذا العام الذي يودعنا.

"الفتاة ذات الإبرة" لماغنوس فان هورن

يحملنا هذا الفيلم الدhنماركي، على الاعتراف بأن سينما الأبيض والأسود، لا تزال تتمتع بسحر لا يزول. مُخِرجه ماغنس فون هورن، يردّنا مباشرة إلى أفلام التعبيرية الألمانية، التي عبّرت عن رعب الحرب، أو بالأحرى، ما اكتُشف أن في وسع إنسان الحرب اقترافه من ويلات. في "الفتاة ذات الإبرة" The girl with the needle، ثمة رعب بلا جدال. يقول المخرج إنه هكذا فكّر في نوع الفيلم بداية، وهو الذي استلهم بالشراكة مع كاتبة ثانية هي لاين لانجبيك، وقائع حقيقية لقاتلة رُضّع فترة الحرب (اسمها الحقيقي وفي الفيلم داغمار)، وتؤدّي دورها بحضور آسر الممثلة تراين ديرهولم.

مع ذلك، فإن داغمار ليست بطلة الفيلم. إنما كارولين (ڨيك كارمن سون)، وهي عاملة في مصنع في كوبنهاغن عام 1919. تتخبّط في فقرها، وحيدة في غياب زوجها على الجبهة. تلتمس بعض العون المالي من السلطات المختصة، وتُطرَد باستمرار من مساكنها. تبحث عن حلّ قانوني، ولو كان إعلانا زائفا لموت الزوج، لكن الطلب لا يُوصلِها إلا الى مدير المصنع الأعرج (يورن)، الذي يعيش شغفا مشتعلا معها، ثم يتركها بأمر من والدته، ولقبها البارونة، حين تحمل طفله. لأنها بالطبع معدمة، ولا تليق بالعائلة. هكذا إلى الشارع تعود كارولين، بلا ملاليم أجرتها في المصنع، وبلا زوجها الأول إذ تخلت عنه حين عاد مهشم الوجه، وبلا مأوى حتى.

تصبح الظروف مواتية لظهور السيّدة الثانية، ويتحوّل الفيلم الذي بحكم لونيه السخيين يخلق عشرات الظلال لشخصياته، إلى التركيز على هذه العلاقة المكثفة التي تبدأ بين كارولين وداغمار، صاحبة البيت الذي يستضيف كارولين والمتجر/ الستار لعملها الآخر وهو توفير بيوت تتبنى الصغار الذين تتخلى أمهاتهم عنهم. يبدو أن جميع الرجال في هذا الفيلم ذهبوا إلى الحرب، ولم يعودوا حتى مع عودة الزوج بيتر (بيزير سيزري)، أو أن الحرب قد غيّبتهم نفسا ووعيا. وأيا ما كان الأمر، فالنتيجة أن النساء يحتكرن وحدهن انتهاكات الحرب، ويمررنها بعضهن إلى بعض. ألم تبدأ البارونة زوجة يورن مأساة كارولين، حين لم تقترح عليها، على الأقل، حلا لجنينها؟

إنها الحرب التي تصنع لقطة الاستهلال للوجوه البشرية إذ تتداخل وتتراكب، كأنما بفعل قوى صاهرة، تساوي بينها في الظلم جميعا

في الفيلم تشكيك في الأحكام الأولية والتصوّرات. مثلا بيتر الذي بعد العودة من الحرب، لا يجد لنفسه عملا إلا في السيرك حيث يُعامَل كمسخ حين يعرضون وجهه المشوّه على الناس، بصفته وجه الحرب، يُظهِر حنانا فائقا تجاه الوليدة، بينما لا تملك داغمار الحنو نفسه، رغم جمالها الظاهري، وانتمائها البورجوازي، وأمومتها المزعومة. بالطبع، يُذكّرنا الفيلم أيضا بالفروق الطبقية الحادة، إذ تنزع إنسانية النساء لا سيما في الحرب، وكذلك بفترات ما قبل تقنين الإجهاض. أمّا سينمائيا فالموسيقى التي صنعها فريدريك هوفميار، لا تكاد تختفي، تبث لنا ذلك الهلع، والجزع الديستوبي المرافق للحروب. كما يعمل التصوير لمايكل دايمك ومونتاج آغنيسكا غلينسكا على إنتاج مشاهد سينمائية وكادرات أيقونية لا تُنسى. ومجددا يزيد الأبيض والأسود من التأثير، وقد اختاره المخرج، كما يبرر ليغمسنا تماما في الحقبة القديمة، ويُنسينا صلتنا بالحاضر.

ملصق فيلم "الفتاة ذات الإبرة".

في قلب هذا الخطاب السينمائي البليغ، تلمع علاقة كارولين بداغمار، بوجوهها وظلالها، بالمسكوت عنه سينمائيا، بما نستنتجه ولا نراه. إنها الحرب تلك التي تصنع لقطة الاستهلال للوجوه البشرية إذ تتداخل وتتراكب، كأنما بفعل قوى صاهرة، تساوي بينها في الظلم جميعا، وتبرر عبارة داغمار: "العالم مكان بشع، لكن علينا أن نُقنع أنفسنا أنه ليس كذلك".

 ينافس في مسابقة الأوسكار فئة أفضل فيلم دولي.

"المادة" لكورالي فارغييه

مع أن هذا الفيلم حقق سمعته الأولى، كفيلم فني، أو أحد أفلام المهرجانات، بحصوله على جائزة السيناريو في الدورة الماضية من "مهرجان كان السينمائي"، إلا أنه بسرعة شغل الناس، صار حديثهم، وتحوّل إلى فيلم جماهيري، وهو لهذا وغيره، بلا شك أحد أبرز إنتاجات العام السينمائية. ينتمي الفيلم إلى نوع رائج، هو الرعب (على الأقل رعب الجسد)، وإلى الخيال العلمي كذلك، غير أنه فيلم درامي في المقام الأول. تقول الفرنسية كورالي فارغييه كاتبة الفيلم ومخرجته، في أحد حواراتها إنها استلهمت فكرة الفيلم من القصة الشهيرة لأوسكار وايلد "صورة دوريان غراي"، إذ تسرق الصورة الروح من الأصل، وأيضا من حياتها الشخصية وحياة النساء عموما، حيث لا صوت يعلو على صوت الجمال والشباب، وحيث المحاولات المستميتة لتجميد الزمان.

في كتابها الشهير "ساحرات" Sorcières تربط الكاتبة الفرنسية منى شوليه، بين الشعر الرمادي للنساء غير الشابات وصورة الساحرة الشريرة التي تجلب الشؤم، كما راجت في العصور الوسطى وما بعدها في أوروبا وغيرها، وبدأت منها جذور الأفكار الجاهزة من خوف النساء من التقدم في العمر، والميل المجتمعي إلى تمجيد الشباب والتطيّر من الشيخوخة.

تسرق الصورة الروح من الأصل، وأيضا من حياتها الشخصية وحياة النساء عموما، حيث لا صوت يعلو على صوت الجمال والشباب

في "المادة" The substance تتبع كورالي تحولات إليزابيث سباركل (ديمي مور)، وهي التي لا يبدو عليها في الأصل هذا التقدم في العمر حتى، لا الشعر رمادي، ولا الجسد يشيخ. ومع ذلك تتعرض لمؤامرة استبعاد من منتجها النذل، من أجل إحلال أخرى محلها، في فقرة التمارين الرياضية التي تؤدّيها على الشاشة، وتستهدف قبل كل شيء، استعراض الجسد، واللياقة والقوة، أي استعراض الحياة كحلم مغو، لكن بعيد المنال على المشاهدين.

ترفض إليزابيث هذا الاستبعاد، وتتخذ قرارا بإيقاف الزمن، أي بالخضوع أكثر للمنظومة البطريركية الرأسمالية، ويتوافق هذا الخضوع تقريبا مع وحدة إليزابيث، وتوحدها مع صورتها المعلقة في كل مكان، ويبدو امتدادا لحبها لذاتها في المستوى الشكلي الخارجي، أي لنرجسيتها. هي التي إثر استعمالها لتلك "المادة" - وتُذكّرنا بكل الجدل الذي أثير في بداية الألفية الثانية، حول الاستنساخ - تنجح فعلا في استنساخ نسخة ثانية منها "أفضل وأجمل"، كما يخبرها إعلان المادة، وتواصل تقديم فقرتها تحت اسم وشخص جديدة هي سو (تؤديها مارغريت كوالي).

الرعب يصدر عن هذا الانقسام الذي يحدث داخل إليزابيث، انقسام حاد يستحيل إلى نوع من الفصام، ويشير إلى البرودة التي فرضها التطور التكنولوجي على الحياة، وانفصال المرء عن عواطفه، وافتقاره الى كل اتصال حقيقي مع الآخرين. لقد ولدت سو من ظهر إليزابيث (نحن أمام تشويه طبعا)، وبآلام مخاض عنيفة، وكان يُفترض بالعلاقة أن تتخذ سمتا أموميا بين الجسدين الأنثويين، لكن هذا لم يحدث قط على العكس. يشتد الفصام مع الوقت، ويستحيل إلى صراع مرير وقتال شرس بين جزءي النفس الواحدة، إلى كراهية للذات. ثمة شراهة الشباب أمام ضعف الشيخوخة التي تُستلَب بلا قدرة على إعادة الزمن إلى الوراء. ومع هذا، فإن الأمر لا يتعلق بالنساء فقط، ألم نر الرجال يرقصون حول سو في التدريبات، بأجساد كمنحوتات الذكور من عهود روما واليونان؟ ألم نر "المادة" كفيلم يثير اهتمام الجنسين، على حد سواء، ويُرعبهم من نتائج هذه العبادة/ الكافرة للجسد، وبه؟

ملصق فيلم "المادة".

على المستوى البصري، يخلق "المادة" بممراته الأنبوبية الطويلة، والأجساد العارية الملقاة بإهمال، والموسيقى التي تكرس الشعور بغياب الروح، يخلق عوالم كابوسية ديستوبية مخيفة. صحيح إنه يبلغ في نهايته، ذروة سخرية سينمائية حين تتحوّل ديمي مور، الممثلة الجميلة والشجاعة بقبولها هذا الدور الصعب، إلى وحش، إلى فيل مرعوب ومرعب ومثير للشفقة. إلا أنه يبقى عملا تحذيريا، من الانغماس الشديد في الذات، ومن التصديق المبالغ فيه للمنظومة الرأسمالية.

"بسمة" لفاطمة البنوي

من تأليف وإخراج وبطولة فاطمة البنوي، في عملها الإخراجي الأول، يأتي فيلم "بسمة" من إنتاج مشترك بين السعودية (شركة ألف واد) ومصر (فيلم كلينيك). تشارك النجمة السعودية فاطمة البنوي، في إنتاج الفيلم، وكذلك في أداء الدور الرئيسي، شخصية بسمة، مما يعزز مع عوامل سينمائية داخلية، الشعور بأن العمل هو قصة حميمية ترتبط بحياة البنوي نفسها.

أن يمسّ فيلم قضية حساسة، مثل المرض العقلي لأحد الأبوين وتأثيرها على الصحة العقلية والحياة العاطفية للابنة، لهي جرأة سينمائية، بالأخص في مجتمعاتنا العربية

الفيلم المتاح للمشاهدة عبر منصة "نتفليكس"، يُعدّ فيلما عائليا على نحو ما. عن تعقيدات العلاقات العائلية وتأثيراتها على الأفراد، لا سيما في حالة بسمة الشابة العائدة في إجازة قصيرة من الولايات المتحدة الأميركية، لزيارة أفراد أسرتها في مدينتها الأم جدة، بعد عامين من الانقطاع والتواصل الافتراضي، إثر العزلة التي فرضها وباء كوفيد19. ومع كل الدفء الذي تستشعره بسمة مع أفراد أسرتها، وفرحتها باللقاء، تعاني على الفور من حساسية جلدية بسبب مشاكل هذه العائلة، تقول مثلا لمربيتها: "ناس عندها حساسية من الفول السوداني، وأنا عندي حساسية من العيلة"، وأولها ما تكتشفه من انفصال والدها عن والدتها، وعزلته وحيدا في بيت يفرض عليه إجراءات تطهيرية خاصة، لصيانته من الجراثيم. إن الأب وكان طبيبا سابقا (يؤديه ياسر الساسي)، ربما يعاني نوعا من الوسواس القهري، إلا أن الفيلم لا يجاهر بطبيعة تشخيص اضطراب الأب، بل يجعلنا أحيانا نرى الأمور من زاوية نظره الخاصة، اللاعنة للحياة والناس.

ملصق فيلم "بسمة".

أن يمسّ فيلم قضية حساسة، مثل المرض العقلي لأحد الأبوين وتأثيرها على الصحة العقلية والحياة العاطفية للابنة، لهي جرأة سينمائية، بالأخص في مجتمعاتنا العربية، وأن يأتي هذا التناول للعلاقة بين الابنة وأبيها المريض من ناحية، وبينها وبين شقيقها وأقربائها الآخرين، مصوغة بكل هذا الدفء، والتخففّ من الميلودراما، لهو مما يُحسَب للفيلم، ولمخرجته في تجربتها السينمائية الأولى. مشاهدة فيلم "بسمة" تجربة مثيرة للرقة والشجن، أكثر منها للألم. ساعد في ترك هذا الأثر الحالِم للفيلم، الأداء التلقائي لفريق الممثلين من أصغر الأدوار إلى أكبرها، والذي نتج طبعا من إدارة واعية من المخرجة. كذلك أعانت على تشكيل مزاج الفيلم موسيقى سعاد بشناق المميزة كعادتها، وشريط الصوت عموما بالأغنيات المستعان بها. علاوة بالطبع على اختيار الألوان والديكور وأماكن التصوير.

صحيح أننا، ربما نتوه قليلا، كمشاهدين أثناء متابعة الحوارات وتطور العلاقات في الفيلم. ولعلّ بعض التفاصيل يربكنا، أو نشعر أننا كُنا بحاجة إلى المزيد من الشرح، مثلا حول تاريخ بعض أفراد هذه العائلة، إلا أن الحالة التي تصنعها في النهاية فاطمة البنوي، في تجربتها السينمائية الأولى، وقوة الفيلم الروحية، تعوض هذا الارتباك في السيناريو. في النهاية يبدو فيلم "بسمة" قادرا على رسم بسمة فعلا على وجوه أولئك الذين يعانون من مشاكل العائلة، ويظنونها نهاية العالم. أو كما تقول أمل الحربي ضيفة الشرف في الفيلم: "هناك أشياء قابلة للإصلاح وأشياء أخرى غير قابلة للإصلاح".

"رسائل الشيخ دراز" لماجي مرجان

هذا فيلم عائلي آخر، لكنه تسجيلي هذه المرة، من إخراج ماجي مرجان. ويُعدّ أحد أبرز الأفلام المصرية التي عُرضت هذا العام في القاهرة، وحققت اهتماما لافتا من الجمهور، على الرغم من طبيعته الوثائقية، وهي ليست أكثر الأنواع جذبا للمشاهد المصري تحديدا المعتاد على الأفلام  التجارية. وعلى الرغم كذلك من خصوصيته العائلية، إذ يبحر داخل أفراد عائلة الشيخ محمد عبد الله دراز المفكر الإسلامي التنويري الكبير، وهي عائلة واسعة. بعض أحفاده يعيشون هنا في مصر، مثل نهى الخولي (وهي أيضا ممثلة) التي تقود التحركات الأساسية في الفيلم. وبعضهم الآخر يعيش في الخارج، لا سيما البنات من أحفاد الشيخ، وبالتالي يمكن القول إن الفيلم هو أيضا محاولة لتعريفهن على هذا الجد، وربطهن بماضيهن.

يقدم الفيلم نموذجا ليس معروفا بما يكفي، لشيخ أزهري يمكن القول إنه مغاير عن الصورة المحفوظة للشيوخ المتدينين

من جانب آخر، يفرض "رسائل الشيخ دراز" نفسه في هذه اللحظة التاريخية والاجتماعية المعينة، إذ يقدم نموذجا ليس معروفا بما يكفي، لشيخ أزهري يمكن القول إنه مغاير عن الصورة المحفوظة للشيوخ المتدينين. سافر الشيخ دراز في شبابه، إلى فرنسا، ضمن بعثة لاستكمال دراسته العليا في جامعة السوربون. ولم يكن مهموما خلال هذه الرحلة، التي ستمتد لسنوات، لا بتكفير الآخرين الذين يلتقيهم، ولا بمحاولة إقناعهم بما يؤمن هو. لم يتعامل الشيخ مع الثقافة الفرنسية بنوع من الانغلاق ولا حتى الندية، بل رأى في هذا اللقاء الثقافي فرصة للتجدّد والتفكر في الدين بصورته الشاملة والإنسانية.

الفيلم هو رحلة مزدوجة أولا لاكتشاف شخصية الشيخ دراز بجوانبها الحميمية الإنسانية، وتلك يتكلم عنها أبناء الشيخ وأحفاده الباقون، يقرأون رسائله ومذكراته ويروون عنه. وثانيا هو كذلك رحلة لاكتشاف شخصيته الفكرية، من طريق الحوارات التي أُجريت مع متخصصين، والتي بيّنت مثلا نظريته حول المنظومة الأخلاقية للقرآن، وتأثيره المباشر على تيار فكري مهم مثل تيار النسوية الإسلامية.

ملصق فيلم "رسائل الشيخ دراز".

على المستوى السينمائي، يحتفظ النصف الثاني من الفيلم بقوة تعبيرية وجمالية أكبر، من نصفه الأول الذي يبدو تمهيدا لخطوط الحكاية، واستدراجا ذكيا للجمهور العام، ألا يشعر بأنه فيلم يتعالى عليه أسلوبيا. وهذه سمة من سمات سينما ماجي مرجان، نراها كذلك في فيلمها التسجيلي الجميل "من وإلى مير". إلى جانب خصوصيته العائلية، يحمل "رسائل الشيخ دراز" مزاجا نوستالجيا سنتيمنتاليا في بعض اللحظات، إذ تخاطب نهى الخولي جدّها الذي لم تره، بعاطفية مؤثرة عبر هذا الفيلم. وأخيرا هو يبدو استدعاء لروح لشيخ الراحل، الذي يبعث برسائله إلينا، في حقبتنا الحالية بتشوهاتها الفكرية الواضحة.

"بذرة التين المقدسة" لمحمد رسولوف

إنه بلا شك، أحد أبرز أفلام العام. الفيلم الذي صوّره مخرجه وكاتبه الإيراني محمد رسولوف سرا في طهران، وأجبر في نهايته على مغادرة البلاد، سيرا، هربا من السلطة الإيرانية، بدأ صيته من "مهرجان كان السينمائي" في دورته الماضية، حيث نافس على السعفة الذهبية، وخرج بجائزة خاصة. الفيلم من إنتاج رسولوف نفسه إلى جانب شركات إنتاج من ألمانيا وفرنسا.

يتتبع الفيلم تحولات بطله إيمان (ميساج زارح)، وهو رجل مخلص للنظام الإيراني يعمل في السلك القضائي، لكنه يواجه لحظة فارقة في علاقته بهذا النظام، إذ يترقى وظيفيا، ليصبح بالضرورة أكثر خضوعا لعقلية النظام الإيراني واستبداديته. كما يتزامن هذا الترقي مع تظاهرات الشعب الإيراني ضد السلطة القمعية الدينية، التي طالبت بحقوق وحريات للنساء. يصير على إيمان أن يحتفظ برباطة جأشه، وأن يوافق مثلا على إصدار أحكام إعدام ضد أطفال، ما دام يراهم النظام أعداء له. يؤمن إيمان أن النظام لا يخطئ وأنه مُلهَم من السماء، ومع ذلك لا يقدّمه الفيلم من البداية في صورة شيطانية، بل في ثياب الأب المحبّ والرقيق مع ابنتيه (رضوان الكبرى وسناء الصغرى)، وزوجته نجمة.

يحمل الفيلم رؤية ناضجة للأوضاع في إيران، حين ينحاز إنسانيا إلى قدرة النساء على المقاومة، لا النساء فقط بل كل أصحاب الضمير

يقدّم رسولوف هنا حكايته وفقا للشعار النسوي الشهير: "السياسي هو الشخصي"، فالتظاهرات التي تعترض فيها النساء على تكبيل الحرية باسم الدين، تعكس أوضاعا اجتماعية حساسة، نتعرض إلى قسم منها في حياة أسرة إيمان. حيث تطمح الابنتان إلى الحق في ممارسة أشياء بسيطة، كتغيير لون الشعر، والاستماع إلى الأغنيات، وهي أشياء يتحكم بها النظام، ويجعل منها خطايا للنساء، فما بالنا بما هو أهم، كطموح الفتاتين في مستقبل آخر، خارج أسوار البيت المعتم أغلب الوقت، كما نراه في الفيلم. وبينما تدير الأسرة الزوجة والأم نجمة (سهيلة جولستاني)، وتحاول أن تمرر بنعومة الى الابنتين الأفكار التي ينبغي اعتناقها، والقيود التي عليهما الخضوع إليها، مع حساسية منصب والدهما الجديد، من دون أن يضطر هذا الوالد إلى مخاطبتهما مباشرة. يكون عليها كذلك أن تهدئ مخاوف هذا الزوج، وأن تساعده في التأقلم نفسيا مع هذا الصعود، الذي من شأنه أن يحسّن أوضاع الأسرة على الصعيد المالي والاجتماعي.

ملصق فيلم "بذرة التين المقدسة".

سوى أن نجمة نفسها تواجه في لحظة، إمكان أن يشتبه فيها هذا النظام، ممثلا بالطبع في زوجها حين يضيع مسدسه. تغزو البارانويا عقل إيمان، فيجبر زوجته وابنتيه على الخضوع لتحقيق نفسي قاس، كي يكتشف إذا ما كانت إحداهما تكذب وتحتفظ بالمسدس. هنا يمكننا أن نتخيل التحقيقات المشابهة التي يجريها في معتقلاته ذلك النظام الذي لا يثق في أحد، ويتمدد في كل اتجاه، بالضبط مثل بذرة التين التي يتخذ الفيلم عنوانه من اسمها.

يمتد زمن الفيلم إلى ثلاث ساعات، ويبدو أحيانا فيلمين في فيلم واحد، الأول عن شخص إيمان الطيب، والثاني عن شخصه كمستبد، كجزء لا يتجزأ من هذا النظام الأبوي الذكوري، الذي سيشتبه على الدوام في النساء لأنهن نساء، وسيحمل ضدهن كرها غريزيا. إن تجربة مشاهدة "بذرة التين المقدسة" ليست هيّنة، ويبدو أن رسولوف الذي تكبد الكثير من العناء لإنجاز هذا الفيلم، لم يتنازل عن شيء من طموحه السينمائي. السيناريو الذي كتبه، يحمل رؤية ناضجة للأوضاع في إيران، حين ينحاز إنسانيا إلى قدرة النساء على المقاومة، لا النساء فقط بل كل أصحاب الضمير.

يوظِّف مونتير الفيلم أندرو بيرد، العديد من مقاطع الفيديو المصورة بالهواتف النقالة لتظاهرات الشباب في إيران، ضمن أحداث الفيلم وفي نهايته، وبطريقة بعيدة عن الإقحام، إنما تكمل حكاية الفيلم الأصلية. يثبت "بذرة التين المُقدسة"، أن في وسع السينما أن تتناول القضايا الكبرى أيضا بوعي وجمالية فنية لا تنازل فيها.

ينافس الفيلم باسم ألمانيا في فئة أفضل فيلم دولي في مسابقة الأوسكار هذا العام.

"موسيقى تصويرية لانقلاب" لجوهان غريمونبريز

يجمع المخرج البلجيكي جوهان غريمونبريز في هذا الفيلم التسجيلي مواد من الأرشيف لزعماء العالم يختصمون في الأمم المتحدة، خلال فترة الحرب الباردة، ولممثلي الدول الأفريقية وغيرها من الدول المستعمرة آنذاك، وهم يتطلعون للحصول على استقلالهم من الدول الأوروبية. يركز الفيلم على حالة الكونغو، التي مُنحت استقلالا صوريا من بلجيكا، لكن الأخيرة لم تتوقف عن تخريب حياة الشعب الكونغولي، ومطاردة رئيس الوزراء المستقل باتريس لومومبا إلى حد القبض عليه ثم قتله. في أوائل ستينات القرن الماضي كانت حركات تحرر السود في أميركا تقود ثورة على المجتمع، وكان سفراؤها من مطربي الجاز، من أمثال لويس أرمسترونغ، ومايلز ديفيز، ونينا سيمون، يجوبون العالم، ليقدموا صورة اتضح لاحقا أنها أقل واقعية، عن قدرة الولايات المُتحدة على النظر بمساواة الى حقوق السود من جهة، والى حقوق الدول المستعمرة من جهة أخرى.

يعكس الفيلم قدرة موسيقى الجاز على تحويل آلاف الشذرات من الأرشيفات المختلفة إلى عمل متماسك ولافت

يعكس "موسيقى تصويرية لانقلاب عسكري"، قدرة موسيقى الجاز على حكي قصة الثورة ورفض الاستعمار، وكذلك قدرتها على تحويل آلاف الشذرات من الأرشيفات المختلفة إلى عمل متماسك ولافت على مستوى بناء قصته التي تمتد إلى ساعتين ونصف الساعة، وتروي في داخلها معاناة الكونغو، وحلم الدول الأفريقية بتكوين منظمة تدافع عن حقوقها، وتمثلها في العالم، وهي منظمة الأمم الأفريقية. كان جمال عبد الناصر يقول في أحد خطاباته التي يوردها الفيلم: "أعتقد أن قناة السويس ألهمت دولا أفريقية لأن تكون واثقة من نفسها، وأن تطالب بالاستقلال".

ملصق فيلم "موسيقى تصويرية لانقلاب".

لا يقدم هذا الفيلم تجربة فرجة سهلة. لا على مستوى التنقلات المستمرة بين الأزمنة، والبلاد، واللغات، والخطابات السياسية، والحوارات مع الشاهدين عن التاريخ، واقتباسات الكتب، كل ذلك مصحوبا بموسيقى الجاز الحيّة التي لا تتوقف طوال المشاهدة، وتصنع للفيلم إيقاعه النابض بل والصاخب أحيانا. ولا على مستوى تحمّل سرد الفظاعات التي ارتُكبت ضد شعب الكونغو، اغتصاب النساء الممنهج، وقتل الأطفال، ثم تبرير هذه الأفعال، كما يرد مثلا على لسان أحد الجنود البلجيكيين: "قالوا لي إن المرأة الكونغولية أسوأ من الرجال حتى، وإنها تستحق الاغتصاب"، بل إن أحد الساسة البلجيكيين لا يجد غضاضة في وصف الشعب كله بقطيع الحيوانات! كانت الكونغو مصدرا لليورانيوم، في زمن سباق الدول على التسلح النووي مما ضاعف إصرار بلجيكا على البقاء في البلاد، ولو بتغطية هذا البقاء بوهم منح الاستقلال وترديد الأكاذيب. من أجل ذلك كله يهمنا مشاهدة "موسيقى تصويرية لانقلاب عسكري" الذي يذكّرنا بأن الخطاب الاستعماري واحد، فأقوال مثل هذه تُقال اليوم لتبرير الاعتداء على الشعب الفلسطيني، ولتخدير الضمير الإنساني العالمي.

ينافس الفيلم ضمن فئة "أفضل فيلم وثائقي" في مسابقة الأوسكار هذا العام.

"داهومي" لماتي ديوب

يروي "داهومي"، وهو تسجيلي أيضا، إنتاج مشترك بين فرنسا والسنغال وبنين، قسما آخر من حكاية الاستعمار، التي تتعلق بالاستيلاء على ثقافة الشعوب المستعمَرة. نحن أمام مملكة داهومي، وهي اليوم جمهورية بنين، التي استعمرتها فرنسا، وسرقت منها آثارها، ونقلتها لتُعرَض في أحد متاحف العاصمة باريس.

ملصق فيلم "داهومي".

لكن في الحاضر تقرر باريس إعادة 26 من التماثيل التي تنتمي إلى مملكة داهومي، وتمثل ثقافتها ومعتقدات شعبها، تقرر إعادتها إلى الأحفاد، جمهورية بنين الحالية. تصوِّر ماتي ديوب، مخرجة الفيلم عمليات النقل من متحف باريس، كي تسافر القطع إلى بنين. ويمنح الكاتب الهايتي ماكنزي أورسيل صوتا، لا سيما للقطة رقم 26 التي تمثل الملك جيزو، الذي حكم داهومي من العام 1818 إلى العام 1859. يتحدث هذا الأثر عن شعوره بالضياع داخل رأسه وأفكاره، عن العزلة الطويلة التي قضاها في ظلام المتاحف، عن علاقته بغيره من الآثار، التي تمثل السلف، وعن هذه الرحلة المرتقبة للعودة إلى الوطن.

إنها لحظة سيولة للأفكار والأحلام والمشاعر، التي تحدد علاقة هذا الجيل ببلاده، وبمستقبله، وهو ما تلتقطه ماتي ديوب

أحد أكثر الأجزاء إثارة للانتباه في "داهومي"، إلى هذا التفسير الشعري الأخاذ لمعاناة المُستعمَر النفسية حتى بعد حصوله على استقلاله، كما وصفها من قبل فرانز فانون، ويرددها هنا ماكنزي- هي النقاشات التي تصورها ماتي ديوب لشباب إحدى الجامعات في بنين، وهم يتحدثون عما جرى حين انتزع تاريخهم منهم، عن الطريقة التي بها سيتعاملون مع هذه العودة لقسم من التراث وليس كله. لقد صُنعت هذه الآثار في الماضي، لتكون قسما من الحياة اليومية لأهالي داهومي، لا كي تُستبعَد وتوضع في المتاحف كما تتعامل الحضارة الغربية الحديثة مع منتجات الحضارات الأخرى. إنها لحظة سيولة للأفكار والأحلام والمشاعر، التي تحدد علاقة هذا الجيل ببلاده، وبمستقبله، وهو ما تلتقطه ماتي ديوب. من المثير للاهتمام أيضا أن هذه النقاشات تدور باللغة الفرنسية، بينما يتكلم الأثر بلغته الأفريقية.

"داهومي" أحد أوفر أفلام العام حظا على صعيد جوائز السينما، فقد حصد من بين جوائز عدة، جائزة الدب الذهبي في الدورة الماضية من "مهرجان برلين السينمائي"، كما ينافس باسم السنغال في الأوسكار على جائزتين، هما: أفضل فيلم دولي، وأفضل فيلم وثائقي.

"الغرفة المجاورة" لبيدرو ألمودوفار

يمكن القول إن "الغرفة المجاورة" The room next door، فيلم بدرو ألمودوفار الأخير، إخراجا وكتابة، المأخوذ عن رواية لسغريد نونز، وبضمير مرتاح، يعدنا بأكثر مما يفي بكثير. يمنحنا الإعلان العالمي للفيلم الذي يُعَدّ أول فيلم ناطق بالإنكليزية لمخرجه الإسباني، تكثيفا شعوريا، قد لا نجده في الفيلم نفسه. وكأن الفيلم يتخذ مسافة عاطفية من موضوعه، أو موضوعاته إن شئنا الدقة، أو كأن ألمودوفار لا يأخذ فيلمه بالجدية المتوقعة. وهي المقاربة نفسها تقريبا لبطلة الفيلم مارثا إزاء مصيرها (تؤدي دورها تيلدا سوينتون التي أعلن مهرجان برلين منحها الدب الذهبي الفخري عن مجمل إنجازها الفني)، إذ تواجه تفشيا سريعا للسرطان في جسدها، وتقرر أن تضع حدا لحياتها، لكنها تباشر ذلك بأخفّ طريقة ممكنة، وبالاستعانة بصديقة قديمة هي إنغريد (جوليان مور). والأخيرة تخشى الموت خشية مرضية، لكن عليها أن تصاحبها في ساعاتها الأخيرة، وتقدم لها حضورا مواسيا وخفيفا.

ملصق فيلم "الغرفة المجاورة".

لولا هذه الخفة التي يتسم بها الفيلم، لتحوّلت تجربة مشاهدته إلى مصاب يتنزل على مشاهديه، وهو الذي يفتح موضوعات صعبة ومعقدة كموضوع الموت الرحيم، والرغبة، وعلاقات العائلة، والحب، والحياة بصفتها مسرات صغيرة... أي باختصار، موضوعات ألمودوفار الأثيرة.

يفتح الفيلم موضوعات صعبة ومعقدة كموضوع الموت الرحيم والرغبة وعلاقات العائلة والحب، والحياة بصفتها مسرات صغيرة

ومع هذه الخفة الموضوعية، إن جاز التعبير، يأتي الاشتغال على الشكل في الفيلم الذي يمثل مساحة قصيرة زمنيا للتأمّل (زمنه أقل من ساعتين) حول الحياة، بعين مارثا المفارقِة، لأنها لا تريد أن تعيش خسارتها لهذه الحياة، لأنها تريد أن ترحل قبل أن تتدهور وظائفها الحيوية أكثر فتحجبها عن الاستمتاع بالطبيعة. ثمة مثلا الموسيقى السمفونية (من تأليف ألبرتو إيغلاسيس) تمنح "الغرفة المجاورة" بعدا جليلا، المقاطع التي تقرأها تيلدا سوينتون من عمل جيمس جويس، وبالطبع تكوين الكادرات واختيارات الألوان والثياب. وقبل كل شيء، بطبيعة الحال، الأداء التمثيلي الرائع للنجمتين جوليان مور وتيلدا سوينتون.

الفرجة على "الغرفة المجاورة"، هي تجربة ممتعة جماليا وفكريا، ومن حسن الحظ، أنها لا تُقبض القلب بشدة.

حصد الفيلم جائزة الأسد الذهبي، في الدورة الماضية من "مهرجان البندقية السينمائي"، وكان أول فيلم إنتاج إسباني يحقق هذا الإنجاز. كما ينافس في الأوسكار على جائزة أفضل تأليف موسيقي أصلي لفيلم.

"أنورا" لشون بيكر

الفيلم الأميركي الذي حصد السعفة الذهبية في الدورة الماضية من "مهرجان كان"، من تأليف وإخراج شون بيكر، يروي قصة بسيطة، عن حكاية حب لا تكتمل بين عاملة الجنس آني (ميكي ماديسون)، وبين ابن أحد الأثرياء الروس في زيارة للولايات المتحدة، فانيا (مارك إيدلشتاين). وتُذكّرنا ثيمة خيبة الأمل في الحب، على هذا النحو التراجيدي، بما حدث في فيلم آخر، عُرض هذه السنة، وإن لم يُستقبَل بالحفاوة الجماهيرية نفسها، أعني الجزء الثاني من فيلم "جوكر" Joker: Folie à Deux. من جانب تبدو خيبة الأمل أقرب الى حقبتنا، حيث لم نعد نحلم للفقيرة بأن تتزوج من الأمير، كما كان يحدث في ماضي الحكايات الخيالية، بل نحن جميعا أقرب ربما إلى النرجسية، إلى الاستمتاع العابر بالذات، والآخر، إلى حين.

ملصق فيلم "أنورا".

على أي حال، يصعب القول إن هذه الثيمة الوحيدة لفيلم "أنورا"، ذلك أن مجموعة الموضوعات التي يمرّ بها الفيلم، إن شئنا تحليله على هذا النحو، تمرّ كذلك بالاندفاع الصبياني في اقتراف الحياة إلى حدودها القصوى، وهو ما ينطبق على آني ذات الثلاثة والعشرين عاما، وفانيا ذي الحادية والعشرين، الذي يسارع إلى تنفيذ كل ما يخطر بباله، بدافع من ثراء والده، وثقته ربما أنه سيفلت لاحقا من عواقب أفعاله، وهو كما يقول لآني في مشهد من الفيلم: "نعم، أنا سعيد، أنا دائما سعيد".

الفيلم يحدث حقا في ما وراء هذه الحكاية، وراء تلك الأسئلة، الاجتماعية منها والوجودية

ويتناقض هذا الشرط الوجودي في حياة فانيا، جذريا مع  طبيعة عالم آني، إذ يبدو لها الحب وسيلة لبدء حياة جديدة، وتذوق سعادة أخرى، هي كذلك سريعة الزوال لا ريب. ومع ذلك، فإن الفيلم يحدث حقا في ما وراء هذه الحكاية، وراء تلك الأسئلة، الاجتماعية منها والوجودية. تكمن قوة "أنورا" في أسلوبه السينمائي الذي يعتمد على إغراق المشاهد حتى أذنيه في الحكاية، ودفعه إلى أقصى حدّ الى تصديقها، والتماهي معها، حتى ربما وهو يعرف النهاية مقدما. تحقق هذا التأثير من بين عناصر أخرى، من خلال طريقة التصوير، التي تشبه الأفلام التسجيلية، والأداء التمثيلي الطبيعي والعفوي لفريق التمثيل، في مقدمهم ميكي ماديسون وكارون كاراجوليان (في دور توروس)، ويورو بوريسف (في دور إيغور). ثمة حيوية تسم الفيلم كله، تحققت من المراوحة بين التقطيع السريع في بعض المشاهد، والاستغراق المدقق في مشاهد أخرى، الموسيقى والأغنيات من جانب، وطبيعة عالم الجنس التجاري نفسه من جانب ثان، أو حتى كتجربة استطلاع يتعثر فيها الشاب الصغير. علاوة على الإضاءة المخاتلة التي ترسم ظلالا لسعادة الشابين في غرفة النوم، والصاخبة في علب الليل. تلك الأدوات السينمائية وغيرها، تخلق من "أنورا" تجربة غير متوقعة في المشاهدة، حتى وإن توقعنا النهاية نفسها. عندما تتخذ حياة آني منحى مأسويا، يصنع السيناريو مشاهد كوميدية، ويغرقنا في الضحك. حتى الأشرار في الفيلم، عصابة العائلة فأس الحقيقة الذي حطم أمل آني، يظهرون خفيفي الظل وإنسانيين.

ولعلّ المشهد الأخير في "أنورا"، بلقطته الختامية الطويلة، يعادل جمالا ومعنى، الفيلم كله تقريبا.

"تدفُّق" لجينتس زيلبالوديس

 هذا ليس فيلم أنيمي عاديا، وإن كانت أفلام الأنيمي ليست بطبيعة الحال عادية. هنا لا تتحدث الحيوانات بعضها إلى بعض، ولا تخوض مغامرة كالبشر لنخرج منها بالعبر، لكنها مع ذلك تخوض رحلة، روحانية أغلب الظن، وترث الخراب الذي خلفه البشر، بل وتُجبَر على احتمال طوفان نهاية الزمان الذي ربما لم ننج منه، وإلى التدفق حتى معه. "تدفق" Flow  من إنتاج مشترك بين ليتوانيا وفرنسا، وإخراج جينتس زيلبالوديس، وتأليفه بالاشتراك مع ماتيس كازا.

ملصق فيلم "تدفُّق".

هو فيلم يبعث على السرور، رغم ثيمته المقبضة وتحذيره الصريح بالكوارث الحتمية المترتبة على التغيرات المناخية السريعة التي نشهدها. بداية من القطة/ القط، بطل الحكاية، أو على الأقل الذي سنتابعه ونتوحد معه، الظريف والذكي الذي يتحرك على الشاشة محاكيا القطط الحقيقية، ومواءها، ومفهوم طبعا أن أصوات الحيوانات معظمها منقول عن أصوات حقيقية.

فيلم ممتع وجميل من الناحية البصرية والفنية البحتة، وهو إلى هذا أيضا ناضج في طرحه الفكري والفلسفي

يحدث أن يأتي طوفان، ويقذف بقطنا هذا بعيدا عمّا يعرف. وفي هذا الإلقاء القصي، يتصادف أن يلتقي القط مع فريق من الحيوانات التي ألقيت مثله، وهي: كلب، خنزير بري، الليمور الحلقي، ولاحقا طائر الكاتب. وتتآلف هذه الكائنات نسبيا، إذ تشترك جميعها في وحدة من نوع معين، واختلاف ملموس وغير مدرك، عن القطيع. ومع أن الكائنات لا تبدو واعية بالمصير الذي جُرجرت إليه، على الأقل هذا ليس نوع الوعي الذي سيختبره الفريق هنا، إلا أن لديها مع ذلك، وكما يقول العلم حديثا، نوعها الخاص من الذكاء، الذي سيحرّكها للاستبسال من أجل البقاء، والنجاة من هذا الطوفان، ومساعدة بعضها إن أمكن.

كمشاهدين، نحن لا نفهم طبيعة هذا الطوفان. تدريجيا نستوعبه، مع المعاناة التي نشهدها لهذه الكائنات العاجزة، ولأطلال حضارة إنسانية ما. سينمائيا تتولى الموسيقى التي وضعها مخرج الفيلم بالاشتراك مع زِت زالوب، تقديم سردية مزاجية وروحية ما للفيلم الذي لا يحمل أي شكل من أشكال الحوار الإنساني، ويحافظ على عشوائية حركات الحيوانات، مركزا على جوانب محددة في شخصياتها، لتطوير حبكته. مثلا كبرياء طائر الكاتب، أو رغبة الليمور في اللعب والحفاظ على ألعابه، وبالطبع في فضول القط وتطلعه.

"تدفُّق" هو فيلم ممتع وجميل من الناحية البصرية والفنية البحتة، وهو إلى هذا أيضا ناضج في طرحه الفكري والفلسفي غير المباشر.

ينافس في مسابقة الأوسكار، فئة أفضل فيلم دولي للعام.

font change

مقالات ذات صلة