"بطرسبورغ" أندره بيلي: متاهة روسيا القرن العشرين

الرواية العصية على الترجمة تبصر النور بالعربية

GettyImages
GettyImages
أندره بيلي: الاسم المستعار الذي اعتمده بوريس نيكولايفيتش بوجاييف

"بطرسبورغ" أندره بيلي: متاهة روسيا القرن العشرين

الأدب العظيم لا يشيخ، ولا يتأخر، متى ما نُشر فموعد نشره موعدٌ ملائم، حتى لو كان بعد قرن بأكمله. بل لعل تأخر نشره خير، فمعظم الأعمال العظيمة لاقت سوءَ فهم وتجاهلا وهجوما حين نُشرت، ولم تجد قراءها إلا في أجيال لاحقة.

لم تلق رواية "بطرسبورغ" للروسي أندره بيلي (1880-1934) نجاحا كبيرا حين نُشرت بطبعتها الأولى عام 1913، ولم يتغير الحال كثيرا حين أعاد طباعتها بتعديلات جذرية (إلى درجة أنها باتت رواية مختلفة) عام 1922، حيث اقتطع منها قرابة الثلث. ما كانت ذائقة القراء الروس التي اعتادت أدب القرن التاسع عشر ستقبل هذا الانفجار الجديد. انفجار بكل معنى الكلمة، على صعيد الشكل والمضمون، بل حتى التجنيس الأدبي. فهي ليست "رواية" لو اقتفينا التعريف الأوروبي الصارم للكلمة، بل بدت أشبه بموشور متشظٍّ يبدأ بالضباب وينتهي به. عالم ضبابي غامض مُربِك يكاد لا يشبه أي عمل سابق.

لكن هذه المقاربة مغلوطة بعض الشيء، فصرامة التجنيس الأدبي ما كانت سمة من سمات الأدب الروسي الذي يمتاز عن غيره من آداب أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، بكونه عابرا للتصنيفات أو عصيا عليها. تلك ملاحظة انتبه إليها جميع الكتاب الروس الكبار، بخاصة تولستوي حين أدرجها في تصديره لملحمة "الحرب والسلم" (1869) التي كان يدرك أنها ليست رواية، ولا قصيدة، ولا تأريخا، إذ "كُتبت كما أراد لها مؤلفها أن تُكتَب"، مثلها في هذا مثل "النفوس الميتة" لغوغول، و"مذكرات المنزل الميت" لدوستويفسكي، بل حتى سرديات بوشكين القصيرة.

تحول البوصلة

لعل تولستوي بالذات كان أحد أسباب تأخر ذائقة الروس في تلقي الأعمال الجديدة حين توقف عن كتابة الأعمال الأدبية الكبرى بعد "آنا كارينينا" (1877)، وترك الساحة للروايات التقليدية، بما فيها روايته الكبرى الأخيرة "البعث" (1899). لو كان تولستوي واصلَ حفره البديع في تدوين الوعي الذي كان في "آنا كارينينا" على الأخص، ما كانت الحداثة ستبدو انفجارا مفاجئا مع مطلع القرن العشرين، وما كانت "بطرسبورغ" ستبدو ناتئة إلى هذا الحد، بل كانت ستبدو استمرارية منطقية لمسيرة أدب الوعي بشقيه الواقعي مع تولستوي، والبرزخي مع دوستويفسكي.

 كان تولستوي يدرك أنها ليست رواية، ولا قصيدة، ولا تأريخا، إذ "كُتبت كما أراد لها مؤلفها أن تُكتَب"

تسبّب غياب الروس الكبار في تحول البوصلة إلى أوروبا الغربية، من دون مرحلة وسيطة، باستثناء هنري جيمس الذي عجز برغم عظمة سردياته عن تكريس مدرسة جديدة في الأدب. وتسبب هذا الغياب أيضا في تغييب أندره بيلي وروايته التي كانت المبشر الفعلي بتيار الوعي قبل عقد كامل من "عوليس" جيمس جويس، و"بحثا عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست. بل نكاد لا نبالغ لو قلنا إن "بطرسبورغ" مدرسة مستقلة بذاتها حتى ضمن ما اصطلح على تسميته "تيار الوعي الحداثي"، إذ لم يكتفِ بيلي بتدوين وعي الفرد كما عند جويس، أو وعي الزمن كما عند بروست، بل جعل المدينة في ذاتها، بطرسبورغ، ذاتا مستقلة تُدوّن ذاتها وتُدوّن ذوات شخوصها ووعيهم.

shutterstock
ليو تولستوي.

قاست رواية "بطرسبورغ" حصارا مزدوجا. فهي لم تكن على هوى أيديولوجيا البلاشفة فغُيّب ذكرها في الداخل ما خلا حفنة من الرمزيين الذين احتفوا بها بصمت، ولم يكن للإنتلجنسيا الروسية في المنفى أن تُعلي شأن عمل أدبي لأنهم كانوا تيارا هامشيا ضمن صخب التيارات الأوروبية والأميركية التي ما كانت لتقبل غزوا روسيا جديدا ولو من طريق الأدب. وبذا كان الحصار الثاني خارجيا غربيا، إذ تأخرت ترجمة الرواية قرابة نصف قرن، ولم يكن حظ الترجمة أفضل من حظ الأصل، فبقيت رواية نخبوية، بخاصة أن الترجمة الأولى كانت مشوبة بكثير من العثرات والأخطاء. ولعل قراء الغرب لم يسمعوا بالرواية إلا حين عدّها نابوكوف عام 1965 ثالثة ضمن رباعية الأدب الأعظم في القرن العشرين في رأيه، بعد "عوليس" جويس، و"تحول" كافكا، وقبل النصف الأول من "بحثا عن الزمن المفقود" لبروست. وبدأت من ثم رحى الترجمات، ورحى الدراسات النقدية، ليعود بيلي إلى مكانه المستحق ضمن كوكبة الحداثة الأدبية.

استعصاء

لكن هذا التغير بقي هامشيا ومحصورا في الغالب ضمن الدوائر الأكاديمية التي كرست صورة مرعبة للرواية، فهي "عصية على الترجمة" تارة، و"معقدة" تارة، وترجماتها "متفاوتة المستوى"، إلى حد أن الأكاديمي الأميركي مايكل كاتز رأى أن فهم الرواية مستحيل حتى لو كان القارئ متقنا للروسية. لعله حينها سيفهم "معظمها"، وربما سيفهم بعضها بترجمة جون مالمستاد وروبرت ماغواير. ليست صورة مبشرة، بخاصة حين يكون عنوان مقالته: "رواية 'بطرسبورغ' موجودة بالاسم فقط".

غلاف النسخة الفارسية من رواية "بطرسبورغ"

أربع ترجمات بالإنكليزية لا تكفي لفهم عمل؟ إذن، فلنتجاهله وكأنه لم يكن، ولنكتف بالروايات الأخرى "الأبسط". وماذا عن القارئ العربي الذي يود قراءة الرواية ولا يتقن الروسية؟ أتكفيه الترجمة الجديدة التي أنجزها الأكاديمي والمترجم العراقي تحسين رزاق عزيز، وصدرت أخيرا عن "دار المدى"؟ ليس لي، أنا الذي لا يعرف إلا حفنة من الكلمات أن أحكم على مدى القرب من الأصل، غير أن النتيجة لا تبدو مرعبة إلى هذا الحد. نعم، تحتاج الرواية إلى قراءة بطيئة، وإلى إعادة قراءة في مواضع كثيرة بغية ملاحقة الخطوط السردية المتداخلة، وبغية فك شيفرات التكثيف الذي يغلف الرواية، بخاصة أن عزيز اعتمد على "طبعة برلين"، الطبعة الثانية من الرواية (1922)، وهي الأقصر والأكثف.

لم يسمع قراء الغرب بالرواية إلا حين عدّها نابوكوف عام 1965 ثالثة ضمن رباعية الأدب الأعظم في القرن العشرين

هي رواية صعبة، ولعلنا لن نفهمها كليا بترجمتها العربية، ولكن تلك الترجمة البديعة ستدفعنا أقرب لا أبعد، ستحرضنا على إعادة المحاولة وعلى إعادة القراءة، بخاصة أنها مدججة بحواشٍ لا غنى عنها. نعم، المقدمة والحواشي جوهرية في بعض الأعمال الأدبية حتى لو نفر منها القارئ العادي.

غلاف رواية "بطرسبورغ"

ثمة أعمال تستلزم جهدا في القراءة لأنها – ببساطة – استلزمت جهدا في الكتابة، وعلى من يود الاستسهال أن يجد روايات أخرى أسهل، وما أكثرها، غير أن تجربة قراءة الترجمة العربية لرواية "بطرسبورغ" تجربة مذهلة، سيتوق المرء بعدها إلى تعلم الروسية كما قد يرغب في تعلم الإسبانية لقراءة "كيخوته"، أو الفرنسية لقراءة "بحثا عن الزمن المفقود". رواية "بطرسبورغ" لا تقل شأنا عن تلك الأعمال الكبرى، وهي حتما ذروة أخرى من ذرى السرد الروسي، جنبا إلى جنب مع "الحرب والسلم" و"آنا كارينينا" و"الإخوة كارامازوف" و"الحياة والمصير".

موسوعية

"بطرسبورغ" رواية موسوعية، لا مركز فيها، بل ثمة وجوه كثيرة يصلح كل منها أن يكون مفتاحا للدخول إلى النص. لا أبطال في الرواية، بل شتات مربك من الشخوص والأحلام والضباب والأزقة المتداخلة كما المتاهة. البطل الأوحد هي المدينة في ذاتها، بطرسبورغ، أو لعلها صورة المدينة كما رآها بيلي. فلكل كاتب روسي بطرسبورغه التي تخصه، من بوشكين إلى بيلي. صحيح أننا نلتقط تأثيرات فانتازماغورية بعيدة من غوغول، وأطيافا مرعبة في النواصي تشبه وحوش دوستويفسكي، إلا أن بطرسبورغ بيلي شيء آخر مختلف.

الفضاء بأكمله مطوق بالضباب، كأنه ولد منه وسينتهي إليه. متاهة مرعبة، مغوية، غامضة، مثل امرأة حلمية بعيدة لا سبيل إلى تلمسها بكليتها، أو مثل عشيقة بعيدة تضاءل حضورها في الذاكرة وكان لا بد للخيال من ملء فراغ الذاكرة. بطرسبورغ عشيقة دائمة لدى الروس، وتنافس الزوجة الأبدية التي هي موسكو. الفارق أن موسكو تقليدية رتيبة في الغالب، بينما بطرسبورغ تبدو خارجة من حكاية خرافية، كل ما فيها مُختلَق ومُتخيل، بمن فيهم ناسها، غير أنهم مفعمون بالحياة في آن. أطياف بأجساد، في معادلة صعبة التحقق إلا في دنيا بيلي الذي يعيد خلق المدينة عبر تدوينها، ولكن لا سبيل إلى تدوينها على دفعات، وفي دفقات سردية قصيرة، كمن يتلقط أنفاسه بعد رحلة طويلة.  

ما كان لرواية "بطرسبورغ" أن تُكتَب بأسلوب تقليدي، ولا حتى أن يُكتفى بتشظي غوغول ودوستويفسكي. كان لا بد من تشظٍّ أكبر، وأقسى، وأجمل. مقاطع سردية قصيرة، متلاحقة، متناثرة، كأنها علامات موسيقية. تولد المدينة متشظية وتعيد تركيب نفسها عبر ترتيب أجزائها قبل أن تدرك أن الترتيب مستحيل ولا سبيل إلى أن توجد وتحيا إلا على حالتها المبعثرة هذه. أمواج سردية عاصفة وقصيرة مثل إيقاعات جاز. أما الحبكة فغير مهمة في ذاتها، ولا فائدة أو سبيل أصلا إلى ملاحقتها. فالمدينة هي الحبكة وهي خالقة الحبكة في آن، بينما الشخوص كلها دمى أو أطياف أو تفاصيل ضمن لوحة كبرى تنسف الحبكة لتُدوّن حبكة أخرى أبهى تبدأ بالمدينة وتنتهي بها، بصرف النظر عن التحولات التي يشهدها من فيها وما فيها من ناس وأشياء.

"بطرسبورغ" رواية موسوعية، لا مركز فيها، بل ثمة وجوه كثيرة يصلح كل منها أن يكون مفتاحا للدخول إلى النص

يبدو السرد للوهلة الأولى بعيني أبولون أبولونوفيتش أبليوخوف، المسؤول الحكومي الذي يواظب على دأبه الرتيب اليومي في ملاحقة أعمال مؤسسته، برغم أننا نلتقط إشارات عدة بأن المنصب والمؤسسة والعمل محض تفاصيل بيروقراطية كئيبة رتيبة لا أهمية لها في الواقع، بل هي تكملة لآلة البيروقراطية الروسية التي تواصل عملها الرتيب بصرف النظر عما يحدث في الخارج من حروب، وفي الداخل من نفوس مشتعلة تود التمرد. نعم، ربما كنا نرى المدينة بعيني أبولون أبولونوفيتش، غير أن السرد ينقلب فجأة حين يظهر ابنه نيكولاي أبولونوفيتش فتغدو المدينة مدينته، وكأن علاقة التنافس بين الأب والابن، العلاقة الأوديبية الفرويدية القاتلة، لا تقتصر على احتلال مساحات الواقع، بل تمتد إلى المدينة في ذاتها، وإلى زاوية الرؤية. علاقة جذب ونبذ بين قطبين متعارضين بالمطلق لا يربطهما شيء عدا صلة القرابة، بينما يختلفان في كل شيء.

متاهات

تتحول متاهة المدينة إلى متاهات أصغر حين نقترب من أبولون ومن نيكولاي. لكل متاهته التي يرتاح إليها ويخشاها في آن، ولكل بطرسبورغه التي تغويه وترعبه في آن. رتابة الأب يقابلها تمرد الابن، التزام الأب الأيديولوجي تقابله راديكالية الابن، انضباط خيال الأب الهندسي تقابله متاهة مدوخة لدى الابن، حتى حين ينظران إلى المشهد ذاته، ويقطعان الشارع ذاته، في بطرسبورغ ذاتها التي تتحول بتحول شخوصها، أو ربما تحولهم على هواها، بحيث يكون لها صور كثيرة متباينة ومتحدة الجوهر في آن.

يتفنن أبولون أبولونوفيتش في ضبط زوايا الشوارع في مخيلته كي تصبح خطوطا مستقيمة وأشكالا هندسية منضبطة في محاولة عبثية لتبديد الضباب الذي يحتل الفضاء بأكمله. ويتفنن نيكولاي في اختلاق متاهات أصغر ضمن المتاهة الكبرى وكأن المدينة استحالت خطوطا متعرجة مثل تلافيف دماغ يُشبع ذاته حين يترجم المتاهة إلى منطق آخر ينسف المنطق الهندسي القديم، من دون أن يعي نيكولاي بالضرورة أن نسف الهندسة القديمة تعني نسف الأب، حقيقة ومجازا.

shutterstock
منزلا بوشكين وأندره بيلي في شارع أربات في موسكو.

تحولات صغيرة بطيئة تمهد للتحول الأكبر القادم لا محالة، إذ نلاحق تكتكة القنبلة الزمنية كما نلاحق رحلات الأب والابن، ورحلات الضباب والهواء والصخب في شوارع وأزقة بطرسبورغ، وفي حاناتها وبيوتها وفي مكاتبها الكالحة. تكتكة تتسارع شيئا فشيئا قبل لحظة الانفجار التي نترقبها في غفلة عن شخوص بطرسبورغ، وفي غفلة حتى عن بطرسبورغ نفسها. صحيح أن القنبلة لن تؤذي أحدا، بيد أنها غيرت كل شيء باستثناء بطرسبورغ نفسها. تخلى الأب عن هندسته، وعن عزلته، وعن بيروقراطيته، ومنحنا وجها آخر متسامحا تحت قناع المسؤول الحكومي العتيد، وتخلى الابن عن راديكاليته ومنحنا وجها آخر تصالحيا مع الماضي ومع الحاضر ومع هندسة كان ينفر منها بالمطلق. تفجر كل شيء، ولم يتفجر شيء في آن. اندلعت تحولات كثيرة، وبقيت بطرسبورغ وحدها في البداية وفي الختام.

كأن مصير بطرسبورغ يتحول ويتغير بتقلب مواضع الأحرف أو ترتيبها أو انضباطها ضمن كلمات وجمل تتقاطع وتتوازى في مقاطع سردية مذهلة

يودّ القارئ في نهاية الرواية أن يعيد قراءتها وقد بدأ تلمس الحكاية، وبدأ يتقن تلمس طريقه في متاهات بطرسبورغ، غير أن المدينة ستبقى عصية على الإدراك بكليتها، إذ لا تشبه بطرسبورغ هنا أي بطرسبورغ أخرى، ولا حتى بطرسبورغ الواقع. بطرسبورغ بيلي لا تعبأ بالمسيحية التي كانت تحرك تولستوي ودوستويفسكي وباقي الروس؛ ثمة روح لامسيحية، من دون أن تكون مناقضة أو معادية لها بالضرورة. ثمة زاوية رؤية جديدة (غريبة لو تذكرنا أننا نتحدث عن أواخر الحكم القيصري)، رؤية تعي الهزيمة التي تكبدتها البلاد، والركود الذي سيُنهي حُكم القيصر قريبا، وجذور التمرد التي قد لا تبشر بالخير بالضرورة، وتعي – وهذا هو الأهم – مفاتيح قراءة المدينة التي تكون لغوية في المقام الأول.

وكأن مصير بطرسبورغ يتحول ويتغير بتقلب مواضع الأحرف أو ترتيبها أو انضباطها ضمن كلمات وجمل تتقاطع وتتوازى في مقاطع سردية مذهلة يود فيها المرء لو يتقن الروسية كي يلاحقها بالقراءة جهرا كأنه يقرأ قصيدة. لعل أندره بيلي كتب روايته العظيمة هذه كما كان فلوبير يكتب رواياته، كلمة كلمة كما في القصائد، أو علامة موسيقية إثر أخرى كما في سمفونية، أو ضربة فرشاة إثر أخرى كما في لوحة تجريدية تكشف المدينة بقدر ما تخفيها. تجربة ثرائية لا تكتمل أبدا حتى لو أعدنا القراءة مرات ومرات.

font change

مقالات ذات صلة