الأدب العظيم لا يشيخ، ولا يتأخر، متى ما نُشر فموعد نشره موعدٌ ملائم، حتى لو كان بعد قرن بأكمله. بل لعل تأخر نشره خير، فمعظم الأعمال العظيمة لاقت سوءَ فهم وتجاهلا وهجوما حين نُشرت، ولم تجد قراءها إلا في أجيال لاحقة.
لم تلق رواية "بطرسبورغ" للروسي أندره بيلي (1880-1934) نجاحا كبيرا حين نُشرت بطبعتها الأولى عام 1913، ولم يتغير الحال كثيرا حين أعاد طباعتها بتعديلات جذرية (إلى درجة أنها باتت رواية مختلفة) عام 1922، حيث اقتطع منها قرابة الثلث. ما كانت ذائقة القراء الروس التي اعتادت أدب القرن التاسع عشر ستقبل هذا الانفجار الجديد. انفجار بكل معنى الكلمة، على صعيد الشكل والمضمون، بل حتى التجنيس الأدبي. فهي ليست "رواية" لو اقتفينا التعريف الأوروبي الصارم للكلمة، بل بدت أشبه بموشور متشظٍّ يبدأ بالضباب وينتهي به. عالم ضبابي غامض مُربِك يكاد لا يشبه أي عمل سابق.
لكن هذه المقاربة مغلوطة بعض الشيء، فصرامة التجنيس الأدبي ما كانت سمة من سمات الأدب الروسي الذي يمتاز عن غيره من آداب أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، بكونه عابرا للتصنيفات أو عصيا عليها. تلك ملاحظة انتبه إليها جميع الكتاب الروس الكبار، بخاصة تولستوي حين أدرجها في تصديره لملحمة "الحرب والسلم" (1869) التي كان يدرك أنها ليست رواية، ولا قصيدة، ولا تأريخا، إذ "كُتبت كما أراد لها مؤلفها أن تُكتَب"، مثلها في هذا مثل "النفوس الميتة" لغوغول، و"مذكرات المنزل الميت" لدوستويفسكي، بل حتى سرديات بوشكين القصيرة.
تحول البوصلة
لعل تولستوي بالذات كان أحد أسباب تأخر ذائقة الروس في تلقي الأعمال الجديدة حين توقف عن كتابة الأعمال الأدبية الكبرى بعد "آنا كارينينا" (1877)، وترك الساحة للروايات التقليدية، بما فيها روايته الكبرى الأخيرة "البعث" (1899). لو كان تولستوي واصلَ حفره البديع في تدوين الوعي الذي كان في "آنا كارينينا" على الأخص، ما كانت الحداثة ستبدو انفجارا مفاجئا مع مطلع القرن العشرين، وما كانت "بطرسبورغ" ستبدو ناتئة إلى هذا الحد، بل كانت ستبدو استمرارية منطقية لمسيرة أدب الوعي بشقيه الواقعي مع تولستوي، والبرزخي مع دوستويفسكي.