الحزب الديمقراطي وعبثية المعالجة السطحية لاهتمامات الناخب الأميركي

عقلية عتيقة في مواجهة مشكلات عصرية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس يشاهدان عرض الألعاب النارية في ذكرى الاستقلال من البيت الابيض في 4 يوليو 2024

الحزب الديمقراطي وعبثية المعالجة السطحية لاهتمامات الناخب الأميركي

بعد الهزيمة الساحقة التي مني بها الحزب الديمقراطي على جميع المستويات السياسية، بدأ قادته يتبادلون الاتهامات ويتساءلون إلى أين المسير ومن أين يبدأون. فقد بات الحزب دون قيادة وتحول الكثيرون من أتباعه إلى اليمين الجمهوري. وعلى صعيد آخر، بدأت الولايات الديمقراطية تحصن أجهزتها ومدنها من الحرب الضرورس التي سيشنها الرئيس المنتخب دونالد ترمب على المهاجرين.

وقد كشفت نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية عن الصدع الذي أصاب العلاقة بين الحزب الديمقراطي والطبقة الوسطى، والانفصال الذي حدث بينه وبين الشارع الأميركي.

فلم يأخذ الديمقراطيون على محمل الجد المؤشرات المبكرة التي أبانت عنها استطلاعات الرأي فيما يتعلق بأداء الرئيس جو بايدن وإدارته قبيل الانتخابات، حيث كشفت أن 59 في المئة من الناخبين غير راضين عن أدائه. وتحت وطأة هذه التقديرات هبطت معه نائبته كامالا هاريس. ففي يوم الانتخاب، قال 68 في المئة من الأميركيين الذين استطلعت آراؤهم إن الاقتصاد ضعيف. لكن الاقتصاد بالنسبة للديمقراطيين مختلف عنه بالنسبة للمواطنين. فقد أراد الديمقراطيون أن ينظر الناخب إلى انخفاض معدلات البطالة، واضطراد النمو الاقتصادي، وانتعاش أسواق الأسهم التي نمت معها مدخرات التقاعد. لكن الناخب كان لديه قول آخر.

فقال 46 في المئة إن الأوضاع المالية لأسرهم تدهورت لتصبح أسوأ مما كانت عليه منذ أربع سنوات، فيما ذكر 75 في المئة أن التضخم تسبب في ضيق العيش. وترجمت هذه الأجواء التي جرت فيها الانتخابات إلى استياء وغضب. وجعلت زهاء 28 في المئة من الناخبين يتخذون من السعي للتغيير أولوية لهم، حتى لو كان هذا يعني انتخاب ترمب الذي اقتنص من هذه الفئة ثلاثة أصوات مقابل كل صوت للمرشحة الرئاسية هاريس.

وبعيدا عن المناخ الذي ألقى بظلاله على حملة هاريس، فقد بلورت الانتخابات التحديات التي يتعين على الديمقراطيين أن يجابهوها لانتزاع السلطة من جديد. فالتحالف الذي أعاد ترمب إلى البيت الأبيض كان أكثر تنوعا، وأكثر شبابا فضلا عن جذب عدد من الطبقات العاملة يزيد عمن صوتوا له في انتخابات 2016. على سبيل المثال تقدم ترمب على هاريس في أعداد الناخبين من غير الحاصلين على درجات جامعية بنحو 14 نقطة، وهو أكبر هامش يفوز به مرشح جمهوري بين هذه الفئة منذ انتخاب رونالد ريغان عام 1984. ولا شك أن هذه النسبة على ضآلتها كانت من عوامل فوز ترمب الذي لم تتجاوز نسبة الأصوات الشعبية التي حصل عليها 51 في المئة. ورغم أن القاعدة الانتخابية التي استند عليها ترمب هي من البيض، بيد أنه وسع تحالفاته أيضا بين اللاتين، لاسيما من الرجال الذين حصل على 54 في المئة من أصواتهم مقابل 44 في المئة لهاريس، مسجلا زيادة بنسبة 19 في المئة عن عام 2020. وفي تكساس وفلوريدا، حيث تتمركز أعداد كبيرة من اللاتين، فاز ترمب بنسبة 64 في المئة من أصوات الرجال منهم. ويبدو أن أصوات اللاتين لم تعد من المسلمات بالنسبة للديمقراطيين، وهو تغير هائل ينبغي عليهم أن لا يتجاهلوه.

لعل من أخطاء هاريس التي اقتحمت حلبة السباق الانتخابي متأخرا، أنها تركت نفسها ليجرفها التيار الذي سلكه الحزب بأساليبه العتيقة، وعاشت في جلباب بايدن بحكم كونها نائبة الرئيس

ولعل من أخطاء هاريس التي اقتحمت حلبة السباق الانتخابي متأخرا، أنها تركت نفسها ليجرفها التيار الذي سلكه الحزب بأساليبه العتيقة، وعاشت في جلباب بايدن بحكم كونها نائبة الرئيس، ولم تجرؤ على أن تخط لنفسها هوية مستقلة في وقت علت فيه موجة الاستياء من قيادة بايدن.

ولم تكن الخسائر التي تكبدها الديمقراطيون في 6 نوفمبر/تشرين الثاني بالضخامة بمكان من الناحية العددية. فقد خسرت هاريس ويسكونسن، إحدى الولايات المتأرجحة، بجزء من النقطة المئوية، وفقدت ميشيغان وبنسلفانيا بنقطتين مئويتين. كما أن أصوات المجمع الانتخابي التي حصل عليها ترمب، 312، كانت أقل مما حصل عليه باراك أوباما في انتخابات 2008 و2012. لكن هذا لا يعني التقليل من معضلة الديمقراطيين.

وفي زمن يقل فيه عدد الولايات الحاسمة للانتخابات، وتصنف فيه أغلب الولايات إلى حمراء (جمهورية) أو زرقاء (ديمقراطية)، يصبح من الحاسم والمهم الفوز بأصوات الطبقة العاملة سواء كانت من البيض في الولايات الثلاث آنفة الذكر، أو من اللاتين في ولايات الجنوب الغربي.        

 أ ف ب
نائبة الرئيس الاميركي والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس والرئيس السابق ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترمب اثناء المناظرة بينهما في 10 سبتمبر في فيلادلفيا

ويتمركز أغلب نشاط الحزب الديمقراطي حاليا في المراكز الحضرية الكبرى، مما جعله يفقد حلقات الاتصال مع قطاع كبير من الناخبين في المناطق الريفية.

التحديات التي يواجهها الديمقراطيون

في مثل هذه اللحظات، تلجأ الأحزاب السياسية إلى البحث عن حلول سهلة، كتبني رسائل جديدة يحملها رسول ذو شخصية قوية وجذابة. لكن رغم أهمية ذلك، فإنه لا يكفي. فالتحديات التي يواجهها الديمقراطيون حاليا معقدة وكبيرة، حيث تفاقمت على مدى سنوات. فهم بحاجة إلى الاستماع للناخبين، لاسيما قاعدتهم الانتخابية من الطبقات العاملة والسود واللاتين، وفهم الأسباب التي جعلتهم يصوتون لترمب رغم كل عيوبه وسقطاته، ثم يبدأون في البناء على ما خلصوا إليه إذا كانوا يريدون الفوز في المستقبل. وعليهم أن يبحثوا عن نهج جديد حيث لم تعد مخطوطاتهم العتيقة تصلح في هذا العصر بعد أن انفصلوا عن قواعدهم الانتخابية وباتوا مهددين بالبقاء في مقاعد الأقلية لسنوات قادمة. كما ينبغي عليهم تبني أجندة عمل وسط بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، بحيث ترقى لتطلعات الغالبية العظمى من الطبقات الوسطى باعتبارها الطريق الثالث.

كما أنهم في حاجة إلى التركيز على قضايا الاقتصاد والهجرة وترشيد الإنفاق الحكومي، وتمكين الطبقة العاملة، وتحسين المنظومة الصحية وأن يفهموا أن أميركا التي تستخدم القوة لإحقاق الحق هي التي تسود ويعلو نجمها في العالم.

وبعد عامين من الآن، عندما تجرى انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، قد يسترد الديمقراطيون ما خسروه في الكونغرس عام 2026 إذا أخفق ترمب في الوفاء بالوعود الطموحة التي قطعها خلال حملته، أو إذا ترنح الاقتصاد أو فشلت الإدارة الجمهورية في أدائها.  

وهناك اليوم ما يقرب من 210 ملايين ناخب مسجلين في أميركا، 47 في المئة منهم ينتمون إلى الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري. ويقدر عدد المسجلين كديمقراطيين بحوالي 49 مليونا مقابل 39 مليونا مسجلين كجمهوريين. ويبلغ عدد الناخبين المستقلين زهاء 33 مليونا، بينما سجل نحو ستة ملايين ناخب كموالين للأحزاب الصغيرة الأخرى.

في زمن يقل فيه عدد الولايات الحاسمة للانتخابات، وتصنف فيه أغلب الولايات إلى حمراء (جمهورية) أو زرقاء (ديمقراطية)، يصبح من المهم الفوز بأصوات الطبقة العاملة سواء كانت من البيض في الولايات الثلاث آنفة الذكر، أو من اللاتين في ولايات الجنوب الغربي

ومن المتوقع أن يكون انتخاب اللجنة القومية للحزب الديمقراطي رئيسا جديدا لها في فبراير/شباط القادم بمثابة تجربة اختبار للوجهة التي سيخطها الحزب. ولا يعرف بعد ما إذا كان من سيقع عليه الاختيار من داخل أروقة إدارة الحزب ممن عركوا آليات عمل اللجنة وخباياها، أم سيكون وجها جديدا ذا توجهات وأجندات مختلفة.  

وثمة القليل من قيادات الحزب يحبذون إحداث تغييرات واسعة، من بينهم رئيس الحزب في ولاية ويسكونسن بن ويلكر الذي أعلن ترشحه لرئاسة اللجنة. فيدعو ويلكر إلى تبني خطاب استراتيجي جديد للتواصل مع الناخبين الذين يعزفون عن الاهتمام بالسياسة. كما يدعو إلى التفاعل مع شبكات الإعلام الحديثة المحايدة وأيضا ذات الميول الجمهورية. لكن ويلكر ينكر أن تكون نتائج الانتخابات دليلا على أن الحزب يواجه أزمة كبيرة. ويرى أن ما حدث هو تحول طفيف نحو اليمين من قبل الفئات الأكثر تضررا بالتضخم وأقل اهتماما بالأخبار.ونفى أن يكون هذا دليلا على تحول دائم تجاه ترامب. وأكد أن أمام الديمقراطيين فرصة كبيرة لسحب البساط من جديد، سيما مع التوقعات الكبيرة بأن يعيد التاريخ نفسه وأن يشكل ترمب كارثة.

ملف الهجرة الشائك

وفيما يتأهب ترمب للعودة إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني القادم بفوز يدعي أنه يخوله السلطة لتنفيذ قائمة ضخمة من الطموحات، في مقدمتها ترحيل ملايين المهاجرين، تستعد الولايات الديمقراطية لمقاومة مشروعه. وقد كان ملف الهجرة من بين الأسباب الرئيسة التي زفت أصوات الولايات المتأرجحة جميعها إلى ترمب. فقد ذكر أكثر من 73 في المئة من الناخبين الذين صوتوا لترمب في هذه الولايات أن الديمقراطيين لا يتوانون عن مواصلة الأخذ من جيوب الأميركيين الكادحين من أجل إيواء المهاجرين غير القانونيين، وأنهم لا يكترثون بتأمين الحدود بشكل جاد. كما جزم هؤلاء بأن الديمقراطيين يدعمون المهاجرين أكثر من المواطنين أنفسهم.

ومن ثم سارعت عشرات المدن والمقاطعات في 14 ولاية من الولايات الديمقراطية التسع عشرة إلى سن قوانين ولوائح وإصدار قرارات ووضع سياسات من شأنها أن تعوق مخططات الترحيل من خلال رفض التعاون مع ضباط الهجرة والجوازات أو المباحث الفيدرالية، والحؤول دون الوصول إلى المهاجرين، أو الإفصاح عن أي معلومات أو بيانات بشأن أي من المطلوبين منهم. وفي مقدمة هذه الولايات كاليفورنيا ونيويورك ونيوجيرسي وواشنطن، فضلا عن مدن كبرى مثل لوس أنجليس وشيكاغو وفيلادلفيا التي أعلنت عزمها التصدي لحملات الاعتقال التي بشر ترمب بأن تكون الأكبر في التاريخ.

والولايات الملقبة بالملاذ الآمن للمهاجرين لا تلزم أجهزة إنفاذ القانون بالاستجابة لأوامر الأجهزة الفيدرالية، مثل "إف بي آي"، وإدارة الهجرة والجوازات، باعتقال أو احتجاز أي مهاجر مخالف إلا إذا كان هناك أمر قضائي من محكمة محلية أو إذا كان الشخص يواجه اتهامات بالضلوع في جريمة جنائية. 

فيما يتأهب ترمب للعودة إلى البيت الأبيض في 20 يناير القادم بفوز يدعي أنه يخوله السلطة لتنفيذ قائمة ضخمة من الطموحات، في مقدمتها ترحيل ملايين المهاجرين، تستعد الولايات الديمقراطية لمقاومة مشروعه

ويحذر الرافضون لعمليات الترحيل الواسعة من أنها ستمزق الأسر وستشيع الجريمة في المجتمع حيث سيحجم المقيمون عن الإبلاغ عن أي جرائم أو الإفصاح عن أي معلومات خشية ترحيلهم. كما يدفع الرافضون لهذه الحملات بأن من غير الإنساني إعادة المهاجرين إلى بلدانهم التي هربوا منها بسبب تفشي الجريمة أو عنف العصابات والفقر المدقع. ويرون أن مثل هذه الولايات والمناطق الآمنة للمهاجرين ليست إطارا قانونيا فحسب، بل تمثل التزاما أخلاقيا بإعلاء حقوق الإنسان والقيم الإنسانية وحماية الأسر وحقها في الحياة دون خوف. إلا أن أنصار الترحيل يعتقدون أن الهجرة غير الشرعية تساعد في زيادة معدلات الجريمة وخفض الأجور وحرمان المواطنين من الوظائف.

بيد أن قيصر الحدود الذي عينه ترمب والذي كان يشغل من قبل منصب نائب مدير إدارة الهجرة والجوازات، حذر من محاولات عرقلة تنفيذ القانون، مؤكدا أنه على استعداد لاعتقال أي مسؤول يقاوم عمليات القبض على المهاجرين أو يحرض على عصيان أوامر ضبط المهاجرين المخالفين، مؤكدا أنه ستكون هناك عمليات ترحيل جماعي واسعة النطاق.

ومن المتوقع أن يصدر ترمب خمسة أوامر تنفيذية بشأن الهجرة والمهاجرين فور توليه في يناير، كما يدرس حجب المنح الفيدرالية عن أجهزة الأمن التي ترفض عمليات الترحيل أو تتقاعس عن المساعدة فيها.

لن يكون من السهل ترحيل المهاجرين غير القانونيين والذين يقدر عددهم بنحو 11 مليون شخص في عموم البلاد

وكان ترمب قد تبنى استراتيجية مماثلة خلال ولايته الأولى، إلا أنه واجه عقبات قانونية يحتمل أن يواجهها مرة أخرى. فقد حاولت إدارته في 2018 حرمان المدن التي وفرت ملاذات آمنة للمهاجرين من المنح الفيدرالية. لكن الكثير من هذه المدن رفعت دعاوى قضائية ضد وزارة العدل أمام محاكم فيدرالية، ما لبثت أن كسبتها. ويؤكد ذلك أن يدي الإدارة الفيدرالية ليست مطلقة وأن ثمة حدودا لسلطاتها على الولايات والحكومات المحلية. ودعا حاكم كاليفورنيا مجلس نواب الولاية إلى عقد جلسات تشريعية خاصة في ديسمبر/كانون الأول الجاري لبحث التدابير اللازمة للتصدي لمخططات ترمب ضد المهاجرين. وبعد أسبوع من دعوته، مررت مدينة لوس أنجليس قانونا يحول دون استخدام مواردها، بما في ذلك موظفوها وشرطتها، في تنفيذ الحملات الفيدرالية ضد المهاجرين. ويقدر عدد المقيمين بشكل غير قانوني في مقاطعة لوس أنجليس بحوالي مليون شخص.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، يلوح بيده للحضورفي تجمع انتخابي في بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا، 4 نوفمبر 2024.

ولن يكون من السهل ترحيل المهاجرين غير القانونيين والذين يقدر عددهم بنحو 11 مليون شخص في عموم البلاد، حيث سيكون من الصعوبة بمكان العثور عليهم، وتوفير أماكن لهذه الأعداد حتى يتم التحقق من أوضاعهم، كما لا يعرف ما إذا كانت بلدانهم ستوافق على استقبالهم، وما إذا كان الكونغرس سيوافق على الميزانيات المطلوبة لهذه العملية.

ويريد ترمب أن يستخدم الجيش والأجهزة الأمنية لاعتقال الملايين من هؤلاء المهاجرين، واحتجازهم في مراكز اعتقال قبل نقلهم على متن رحلات جوية إلى بلدانهم أو إلى بلدان أخرى توافق على استقبالهم. ويشير مساعدون لترمب إلى أن الفئة الأولى المستهدفة بالترحيل هم أصحاب السجلات الإجرامية وأيضا من صدرت بحقهم أوامر بالترحيل لكنهم ما زالوا باقين، وهؤلاء يعدون بمئات الآلاف. ثم يأتي بعد ذلك فئة المستفيدين من وضع الحماية المؤقت، وهو برنامج يسمح لنوع معين من المهاجرين بالإقامة في البلاد، وهؤلاء من الصعب العثور عليهم، خاصة في الولايات والمدن التي توفر ملاذات آمنة للمهاجرين غير القانونيين. بيد أن البت في أوضاع من يتم اعتقالهم قد يستغرق سنوات في ظل وجود مئات الآلاف من قضايا الهجرة المتراكمة لدى المحاكم.

font change

مقالات ذات صلة