بعد أكثر من عقد من العزلة، تندفع الوفود الدبلوماسية الغربية إلى دمشق بإلحاح بالغ، منهية سنوات من المقاطعة التي أعقبت حملة القمع الوحشية التي شنها النظام السوري السابق ضد شعبه. ويشكل هذا التحول من المراقبة السلبية إلى المشاركة الفعالة منعطفا ملحوظا، ويشير إلى الاعتراف بالديناميكيات سريعة التغير على الأرض والحاجة الملحة لإعادة ضبط المشاركة الدولية في سوريا.
غير أن نجاح هذه الجهود لا يتوقف على النية فحسب، بل على طريقة تنفيذها أيضا. والتعامل غير السليم مع هذه اللحظة الحساسة يمكن أن يهدد بتعزيز اختلالات توازن القوى القائمة، وإضعاف الهدف المعلن المتمثل في دعم عملية انتقال شاملة لتمهيد الطريق نحو إرساء سلام واستقرار دائمين.
مسألة التصورات والتنفيذ
تنبع المخاوف حول هذه المشاركات الدبلوماسية إلى حد كبير من مظهرها وآليات إجرائها. ففي حين تعاملت بعض الوفود مع مهماتها بحساسية وحذر، يبدو أن وفودا أخرى أعطت الأولوية للمصلحة على حساب الحساسية. وبدلا من ضمان أن لا توحي تصرفات بعض المبعوثين بوجود "فائز" واضح في المشهد السياسي السوري المنقسم، ركز كثير من الوفود بشكل غير متناسب على شخصية واحدة: أحمد الشرع، المعروف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، زعيم "هيئة تحرير الشام".
ويبدو هذا الخلل جليا في الصور التي تهيمن على وسائل الإعلام، حيث يظهر الشرع بشكل بارز إلى جانب الدبلوماسيين، وكذلك في التصريحات العامة التي تلي هذه الاجتماعات. وفي حين تؤكد هذه التصريحات في كثير من الأحيان على أهمية الانتقال السياسي الشامل، كما جاء في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، فإنها تميل إلى تسليط الضوء على المناقشات مع الشرع، ما يطغى على المشاركات الأوسع مع الجهات الفاعلة السورية الأخرى.
مخاطر إبراز جهة فاعلة واحدة
إن التعامل مع "هيئة تحرير الشام" ضروري بلا شك، نظرا لسيطرتها على المناطق الرئيسة ودورها في المرحلة الحالية من الانتقال في سوريا، إلا أن رفْع الشرعِ إلى منصب زعيم الأمر الواقع لسوريا سيكون خطأ فادحا، قد يفضي إلى تعزيز هيمنة "هيئة تحرير الشام" إلى ما هو أبعد من سيطرتها الحالية المفروضة بحكم الأمر الواقع، ويسمح لها بتشكيل العملية الانتقالية بطريقة تمكنها من الحفاظ على نفوذها على المدى الطويل.
في هذه اللحظة التاريخية، تحمل الدبلوماسية الغربية في سوريا إمكانات هائلة. إلا أنها تنطوي في الوقت نفسه على مخاطر جمة
وهذه نتيجة تتناقض مع المبادئ التي تحاول الوفود الغربية تشجيع التمسك بها. كما أنها قد تمكّن "هيئةَ تحرير الشام" من المطالبة بما هو أكثر من مقعد على الطاولة، ما يضع "الهيئة" في موضع المهندس الذي يصمم طريقة الانتقال نفسها. واختلال التوازن هذا سوف يزعزع الجهود الساعية إلى خلق عملية شاملة وصادقة، ما يترك الجهات الفاعلة السورية الأخرى مهمشة، بما فيها الجهات السياسية ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء.
إن الرغبة في الحصول على المزيد نزعة إنسانية عالمية، لا تنفرد بها "هيئة تحرير الشام". ولذلك، فإن منح طرف ما أكثر مما يمتلك بالفعل سيكون مكافأة أكبر مقارنة بمنحه حصة من شيء يعتبره بالفعل حقا مكتسبا له. وفي حالنا الراهن، فإن وضع "هيئة تحرير الشام" في موضع اللاعب المركزي في عملية الانتقال يحمل مخاطر منح "الهيئة" المزيد من الجرأة مع إبعاد الآخرين في الوقت نفسه.
الإدراك والتصورات
غالبا ما تنبع العواقب غير المقصودة لهذه الزيارات الدبلوماسية من كيفية النظر إليها وطريقة عرضها وتصويرها وليس من الأفعال نفسها. ومن المرجح أن تتواصل وفود عديدة مع طيف واسع من أصحاب المصلحة السوريين، بمن فيهم قادة المجتمع المدني وممثلو الجماعات السياسية. بيد أن تلك المشاورات الأوسع تحظى باهتمام أقل بكثير من الاجتماعات مع الشرع في معظم الأحيان.
وهذا التفاوت في الاهتمام يخلق تصورا- سواء كان دقيقا أم لا- بأن الشرع هو المحور الأساسي، بل هو المحور الوحيد الذي تصب عنده الجهود الدبلوماسية الغربية. ولمعالجة هذا الخلل ينبغي بذل جهود مدروسة ومتعمدة لتقديم هذه اللقاءات على أنها شاملة بالفعل. إن تسليط الضوء على الاجتماعات مع أطياف متنوعة من الجهات الفاعلة السورية ليس مجرد مسألة تتعلق بالتصورات العامة؛ بل هو أمر بالغ الأهمية يثبت أن هذه الوفود تمارس الشمولية التي تدعو إليها.
وفوق كل ذلك، تحمل الطريقة التي يجري بها تصوير هذه اللقاءات في وسائل الإعلام ثقلا رمزيا كبيرا. فبالنسبة لكثرة من السوريين، ممن يعتمد على التغطية الإعلامية لإدراك وفهم هذه التطورات، تشكل الصور والروايات التي تخرج من هذه الوفود تصوراتهم حول من يمتلك السلطة والنفوذ. ويمكن أن تؤثر هذه الصور أيضا على كيفية تعامل الوفود الأخرى مع التزاماتها، الأمر الذي يخلق أمواجا متلاحقة تحمل في طياتها تأثيرا يعزز عدم التوازن.
الحاجة إلى الحذر والاستراتيجية
في هذه اللحظة التاريخية، تحمل الدبلوماسية الغربية في سوريا إمكانات هائلة. إلا أنها تنطوي في الوقت نفسه على مخاطر جمة. وسيكون للقرارات المتخذة أثناء هذه الزيارات، إلى جانب كيفية تصويرها، عواقب بعيدة المدى، ليس على العملية الانتقالية في سوريا وحسب، ولكن على استقرار المنطقة بأسرها أيضا.
الطريقة التي سوف تطوف بها الوفود الغربية في شبكة ديناميكيات القوة بسوريا سوف تحدد ما إذا كانت ستساهم في انتقال سلمي وشامل، أو ما إذا كان سيتمخّض عنها المزيد من الانقسامات في البلاد
ينبغي علينا أن ندرك أن المخاطر كبيرة وأن عدم اغتنام هذه الفرصة بأفضل طريقة ممكنة يهدد بتحويل أمل سوريا في انتقال شامل إلى مجرد فرصة ضائعة. وفي المقابل فالنهج المدروس بعناية- النهج الذي يتجنب تعزيز اختلال التوازن القائم ويعطي الأولوية للشمولية- يمكن أن يضع حجر الأساس لحل سياسي قادر على الصمود يمنح السوريين بكافة أطيافهم مكانا وصوتا في رسم مستقبلهم.
وللوصول إلى النجاح الذي نصبو إليه، لا بد لهذه المساعي الدبلوماسية أن تسترشد بفهم دقيق للمشهد المعقد في سوريا ولا بد لها من الالتزام بتعزيز الشمولية الحقيقية. وأي شيء أقل من هذا يهدد بإطالة أمد الانقسامات التي تهدف هذه المساعي إلى معالجتها.