وُضع سقوط نظام بشار الأسد المفاجئ في إطار تفكك "محور الممانعة" وانهيار أذرعه وأدواته. القراءة السائدة تتحدث عن نهاية الحكم الأسدي في دمشق كمتوالية للحرب على قطاع غزة وتطويق "حزب الله" في لبنان، وأن الحدث المقبل سيكون إما في العراق حيث تتعرض الفصائل الموالية لإيران لضغوط لتغيير طبيعة علاقتها مع السلطة القائمة، وإما في إيران ذاتها حيث ما زال النظام هناك يعاني صدمة ما بعد فشل الاستراتيجية التي عمل عليها منذ تسعينات القرن الماضي، فانهارت في شهور.
لكننا مدعوون هنا إلى توسيع ولو جزئي لمجال الرؤية، والقول إن ما حدث في سوريا بين 27 نوفمبر/تشرين الثاني، و8 ديسمبر/كانون الأول، لا ينحصر في الشأن السياسي السوري وحده وعلاقات القوى وموازينها هناك، بل إن آثاره ستخرج من الحدود السورية في اتجاه الجوارين القريب والبعيد. لبنان الذي توصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بعد حرب مدمرة بين إسرائيل و"حزب الله"، كان أول المتأثرين بالتغيير السوري. ولا زال التأثر هذا قيد التشكل خصوصا أنه جاء بعد نكبة اجتماعية وسياسية أصابت فئة لبنانية وازنة.
توسيع مجال الرؤية يفترض أيضا تذكر أن أحداثا مشابهة مرت على الدول العربية منذ 2011، انتقلت مفاعيلها مثل أحجار الدومينو من دولة إلى أخرى. من عربة خضار محمد البوعزيزي وإحراق نفسه في تونس، وصولا إلى مظاهرات ميدان التحرير في مصر، ثم الثورة على معمر القذافي في ليبيا، أحداث لا يعني التهرب من تذكرها أنها لم تقع ولم تترك آثارا عميقة على التاريخ العربي الحديث. كانت تلك بعض مفاصل الموجة الأولى التي شملت أيضا سوريا ضد حكم بشار الأسد واليمن الذي تحرك لإسقاط علي عبد الله صالح.
لم تهدأ منطقتنا منذ ذلك الحين. وبعد الموجة الأولى التي قيل إنها انحسرت وفشلت لتعود الأمور إلى مجاريها نظرا إلى الكوارث التي جلبتها محاولات "الإخوان المسلمين" بناء نموذجهم السياسي القاصر، تجددت المظاهرات المليونية في السودان والعراق ولبنان والجزائر في 2019.
لعل النتائج في موجات الحراكات المذكورة لم تكن باهرة. بل جاءت النتائج معاكسة للتوقعات وثبت أن البناء الاجتماعي العربي أعمق من أن تهزه مطالب التغيير السياسي حيث تفضل الجماهير العربية الاستقرار المضمون على التغيير المغامر، لأسباب كتب الكثير عنها وعن السمات البطريركية للمجتمعات.
الرهان على أن المجتمعات العربية استأنفت نومها العميق، تنقضه حقيقة سقوط بشار الأسد الذي كان– مع داعميه– من أشد أنصار مقولة هزيمة انتفاضة السوريين في مواجهة النظام التسلطي الاستبدادي
لكن النظرة هذه لا تفسر كل ما يجري في المنطقة العربية. ذاك أن الأدوار التي دُفعت إليها مجتمعات فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، كمنافذ لتصريف السياسات الإيرانية وتوفير الحماية لنظام طهران، ارتكزت إلى انقسامات داخلية محلية، طائفية وجهوية وإثنية، من سنة وشيعة وعرب وكرد وأقليات وأكثريات، إضافة إلى تفتت معنى القضية الفلسطينية عند أصحابها وتعرضها إلى المصادرة من لاعب إقليمي متمرس. فالرهان على أن المجتمعات العربية قد استأنفت نومها العميق، تنقضه حقيقة سقوط بشار الأسد الذي كان– مع داعميه– من أشد أنصار مقولة هزيمة انتفاضة السوريين في مواجهة النظام التسلطي الاستبدادي الذي حكم بين 1970 و2024. فقد بُنيت تصورات وسياسات ومبادرات على "حقيقة" أن السوريين قد رضخوا لحكم بشار الأسد وأن الوضع باق إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا... وهو ما حصل بالفعل وسقط بشار بتضافر عوامل الداخل والخارج.
وهذه تجربة قد لا تكون متاحة في القريب العاجل، لكنها لم تكن مستحيلة أيضا، على الرغم من أن نظرة أحادية، هي غالبا مفضلة عند المراقبين العرب، تنحو إلى حصر كل الاهتمام والتركيز في جانب واحد غالبا ما يتضح شح قدراته على التفسير والإحاطة.