حفل عام 2024 بأحداث لم تكن متوقعة، ولا كان ممكنا التنبؤ بها. لم يدر بعضها في خيال أحد قبل وقوعها بيوم واحد. وقد اصطُلح على تسمية هذا النوع من الأحداث "بجعات سودًا". ويدل هذا المصطلح على حدوث ما لم يكن متصورا أن يحدث، وليس ما لم يكن ممكنا حدوثه، على أساس أن وجود بجعات سود، أو غير بيض عموما، قليل أو نادر في الطبيعة. وقد بدأ ظهوره في الأحاديث العادية في أوروبا في القرن السابع عشر. ولكنه لم يُستخدم في الكتابات والنقاشات السياسية والاجتماعية إلا في مطلع القرن الحالي، وخاصةً بعد تداول كتاب "البجعة السوداء" للكاتب الأميركي-اللبناني نسيم نقولا الصادر في 2007.
ويبدو عام 2024، من هذه الزاوية، كأنه وُلد موضوعيا قبل 85 يومًا من بدايته الزمنية عندما وقع هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي فاجأ الجميع. وكان من هوجموا هم أكثر من فوجئوا بهجومٍ أحدثت تداعياته تغييرًا واسعًا في المعادلات الإقليمية، وليس في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي فقط، طول عام 2024. ويُتوقع أن يتواصل هذا التغيير في 2025 أيضا.
الحرب الأطول منذ 1948
إذا صح أن هجوم 7 أكتوبر كان بجعةً سوداء بالمعنى المشار إليه، فاستمرار الحرب التي ترتبت عليه في قطاع غزة لأكثر من عام ربما يُعد بجعةً ثانية. ففي نهاية 2024 يكون قد مضى ما يقرب من 15 شهرًا منذ بدايتها. وهذه فترة تفوق الحروب العربية-الإسرائيلية مجتمعةً منذ حرب 1948، رغم أن فيها ثلاث حروب (56-67-1973) كان كلٌ منها أكبر من حرب غزة سواء من حيث أطرافها أو المساحات التي دارت المعارك فيها.
ومثلما لم يُتوقع حدوث هجوم 7 أكتوبر، كان صعبًا التنبؤ باستمرار حرب غزة هذا الوقت الطويل، رغم الاختلال الهائل في ميزان القوى العسكرية عددًا وعُدةً لمصلحة إسرائيل. صحيح أن الحروب غير المتماثلة التي تكون جماعات مسلحة غير نظامية طرفًا فيها تستغرق فترات أطول. غير أن أحدًا لم يتوقع أن تطول الحرب إلى هذا المدى في ضوء ما كان معروفًا عن قدرات الجناح العسكري لحركة "حماس" (كتائب القسام) وغيرها من الفصائل الموجودة في قطاع غزة، فضلاً عن ضآلة مساحة ميدان الحرب والحصار الشامل المفروض عليها.
لم يكن متصورا أن يتمكن مقاتلو هذه الفصائل من مواصلة القتال رغم قتل واغتيال عدد كبير من قادتها، وعدم وجود إمدادات عسكرية تُعوّض عن الأسلحة والقذائف المستهلكة، واستخدام الجيش الإسرائيلي قوةً أكثر من مُفرطة شملت جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية استدعت إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة لتوقيف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت الذي أُقيل في أول نوفمبر/تشرين الثاني. وكان صعبا كذلك تصور أن يصمد أهل غزة أمام آلة حرب مفترسة لا تلتزم بالقواعد المنظِمة للحروب في القانون الدولي، وفي ظل قصف يومي فرض نزوح معظمهم من مناطقهم أكثر من مرة، وتدمير أغلب المستشفيات وضآلة الأدوية والمستلزمات الطبية، فضلا عن آلام الجوع بسبب قلة المساعدات الإنسانية.