عامُ "البجعات السوداء" في العالم العربي!

يبدو عام 2024، من هذه الزاوية، كأنه وُلد موضوعيا قبل 85 يومًا من بدايته الزمنية

 أ ف ب
أ ف ب
صورة لزعيم "حزب الله" السابق حسن نصر الله على انقاض مبنى في منطقة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية في 10 اكتوبر

عامُ "البجعات السوداء" في العالم العربي!

حفل عام 2024 بأحداث لم تكن متوقعة، ولا كان ممكنا التنبؤ بها. لم يدر بعضها في خيال أحد قبل وقوعها بيوم واحد. وقد اصطُلح على تسمية هذا النوع من الأحداث "بجعات سودًا". ويدل هذا المصطلح على حدوث ما لم يكن متصورا أن يحدث، وليس ما لم يكن ممكنا حدوثه، على أساس أن وجود بجعات سود، أو غير بيض عموما، قليل أو نادر في الطبيعة. وقد بدأ ظهوره في الأحاديث العادية في أوروبا في القرن السابع عشر. ولكنه لم يُستخدم في الكتابات والنقاشات السياسية والاجتماعية إلا في مطلع القرن الحالي، وخاصةً بعد تداول كتاب "البجعة السوداء" للكاتب الأميركي-اللبناني نسيم نقولا الصادر في 2007.

ويبدو عام 2024، من هذه الزاوية، كأنه وُلد موضوعيا قبل 85 يومًا من بدايته الزمنية عندما وقع هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي فاجأ الجميع. وكان من هوجموا هم أكثر من فوجئوا بهجومٍ أحدثت تداعياته تغييرًا واسعًا في المعادلات الإقليمية، وليس في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي فقط، طول عام 2024. ويُتوقع أن يتواصل هذا التغيير في 2025 أيضا.

الحرب الأطول منذ 1948

إذا صح أن هجوم 7 أكتوبر كان بجعةً سوداء بالمعنى المشار إليه، فاستمرار الحرب التي ترتبت عليه في قطاع غزة لأكثر من عام ربما يُعد بجعةً ثانية. ففي نهاية 2024 يكون قد مضى ما يقرب من 15 شهرًا منذ بدايتها. وهذه فترة تفوق الحروب العربية-الإسرائيلية مجتمعةً منذ حرب 1948، رغم أن فيها ثلاث حروب (56-67-1973) كان كلٌ منها أكبر من حرب غزة سواء من حيث أطرافها أو المساحات التي دارت المعارك فيها.

ومثلما لم يُتوقع حدوث هجوم 7 أكتوبر، كان صعبًا التنبؤ باستمرار حرب غزة هذا الوقت الطويل، رغم الاختلال الهائل في ميزان القوى العسكرية عددًا وعُدةً لمصلحة إسرائيل. صحيح أن الحروب غير المتماثلة التي تكون جماعات مسلحة غير نظامية طرفًا فيها تستغرق فترات أطول. غير أن أحدًا لم يتوقع أن تطول الحرب إلى هذا المدى في ضوء ما كان معروفًا عن قدرات الجناح العسكري لحركة "حماس" (كتائب القسام) وغيرها من الفصائل الموجودة في قطاع غزة، فضلاً عن ضآلة مساحة ميدان الحرب والحصار الشامل المفروض عليها.

لم يكن متصورا أن يتمكن مقاتلو هذه الفصائل من مواصلة القتال رغم قتل واغتيال عدد كبير من قادتها، وعدم وجود إمدادات عسكرية تُعوّض عن الأسلحة والقذائف المستهلكة، واستخدام الجيش الإسرائيلي قوةً أكثر من مُفرطة شملت جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية استدعت إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة لتوقيف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت الذي أُقيل في أول نوفمبر/تشرين الثاني. وكان صعبا كذلك تصور أن يصمد أهل غزة أمام آلة حرب مفترسة لا تلتزم بالقواعد المنظِمة للحروب في القانون الدولي، وفي ظل قصف يومي فرض نزوح معظمهم من مناطقهم أكثر من مرة، وتدمير أغلب المستشفيات وضآلة الأدوية والمستلزمات الطبية، فضلا عن آلام الجوع بسبب قلة المساعدات الإنسانية.

رغم أن توسع الحرب المحدودة التي بدأت في جنوب لبنان كان متوقعا، لم يكن ممكنا التنبؤ بالطريقة التي حدث بها هذا التوسع وما حملته من مفاجآت مدوية

ولم يكن متوقعا كذلك أن تعجز المؤسسات الأمنية-الاستخباراتية الإسرائيلية ذات الخبرة الطويلة والمزودة بأحدث أجهزة التجسس وأكثرها تقدمًا عن العثور على معظم الأنفاق التي تستخدمها "حماس" وغيرها من الفصائل في الإعداد للهجمات الصغيرة والكمائن التي تستهدف قوات الاحتلال، وتتضمن مواقع لتصنيع أسلحة شبه بدائية، ومخازن لها، ويوجد بها أيضا قادتها. فالملاحظ أن الجيش الإسرائيلي لم يصل إلى أي منهم في نفق أو آخر، بل استهدف من نجح في قتلهم على الأرض مثل يحيي السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى، وكذلك قادة الألوية والكتائب.
وقل مثل ذلك عن معظم الأنفاق التي يوجد بها الأسرى الذين اختُطفوا في هجوم 7 أكتوبر، ولم يُفرج عنهم في صفقة التبادل التي أُبرمت في نوفمبر 2023. ولأن أحدا لا يعرف كيف ستنتهي هذه الحرب، ومحتوى الصفقة التي يمكن التوصل إليها لوقف إطلاق النار، فقد ظلت عبارة "اليوم التالي" معبرةً عن مجهول يتعذر التنبؤ به إلا بطريقة الاحتمالات التي قد يفوق التقدير الذاتي فيها المعطيات الموضوعية.

أسابيع الانهيار في لبنان


رغم أن توسع الحرب المحدودة التي بدأت في جنوب لبنان، عندما بدأ "حزب الله" في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عملية "إسناد المقاومة في غزة"، كان متوقعا لم يكن ممكنا التنبؤ بالطريقة التي حدث بها هذا التوسع وما حملته من مفاجآت مدوية. ولهذا كانت الضربات الإسرائيلية النوعية المتوالية ضد "حزب الله" في النصف الثاني من سبتمبر/أيلول بمثابة بجعة سوداء أخرى، إذ لم يكن ممكنًا التنبؤ بوجود اختراق أمني شديد العمق في صفوفه. 
بدأت الضربات بتفجير أجهزة الاتصال التي كانت لدى عدد كبير من أعضاء "الحزب" وقادته الميدانيين في 16 و17 سبتمبر/أيلول مما أدى إلى قتل وإصابة أكثر من ثلاثة آلاف منهم، وإرباك صفوفه وإدخاله في حالة عدم توازن استُغلت لمواصلة تلك الضربات عبر عمليات اغتيال منظمة لعشرات من قادة صفوفه الثلاثة الأولى وفي مقدمتهم أمينه العام حسن نصرالله الذي اغتيل مع آخرين في قصف استهدف مبنى كان موجودا به في ضاحية بيروت الجنوبية يوم 27 سبتمبر، بالتزامن مع استهداف مخازن أسلحته في مناطق عدة. وبرغم ملء الفراغات القيادية في فترة قياسية، وصمود مقاتلي "الحزب" في المعركة البرية التي اندلعت في جنوب لبنان في الأول من أكتوبر، فقد خسر جزءًا كبيرًا من قدراته العسكرية، وأُضيرت بيئته الحاضنة عبر تدمير عدد كبير من قرى وبلدات الجنوب وبعض مناطق ضاحية بيروت، ونزوح أكثر من مليون من قاطنيها في ظروف بالغة الصعوبة.

لم يكن أحد في العالم تقريبا مهتما بالوضع في سوريا، ناهيك عن أن يتوقع الهجوم المفاجئ والانهيار الشامل، الذي بدا كما لو أنه فيلم سينمائي سريع الإيقاع

ولهذا اضطر لقبول صيغة مطاطة ومُلغمة لآلية تنفيذية لقرار مجلس الأمن رقم 1701 بعد أن كان قد رفضه مرات خلال جولات المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين. وربما تكون هذه الآلية المُسماة "إعلان اتفاق وقف الأعمال العدائية والالتزامات ذات الصلة بشأن تعزيز الترتيبات الأمنية وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701" بمثابة الصيغة الأسوأ بالنسبة إلى "حزب الله". فقد سمح الغموض الذي ينتاب بعض بنودها لإسرائيل بمواصلة عمليات القصف والتدمير، وإن بمعدلات أقل كثيرًا مما كان قبل إعلان الاتفاق. كما حال الغموض، الذي ينتاب دور اللجنة الموكل إليها الإشراف على تنفيذ الإعلان، دون وضع حد لما اعتُبرت انتهاكات أو خروقا إسرائيلية.
وفي الوقت الذي كانت قيادة "الحزب" الجديدة تأمل في إكمال ترميم صفوفه وإعادة بناء قدراته العسكرية التي تضررت كثيرًا، فوجئت مثل الجميع في أنحاء العالم بما يمكن اعتبارها "البجعة السوداء" الأكبر في 2024.

انهيار الأيام العشرة في سوريا


ما إن أُعلن وقف وقف إطلاق النار في لبنان حتى بدأت الفصائل المسلحة في سوريا هجومًا لم يتوقعه أحد بدايةً، ولا كان ممكنًا التنبؤ بما حدث فيه نهايةً. فقد انهار الجيش السوري، ومن ورائه نظام بشار الأسد، بسرعة وسهولة كان مستحيلاً توقعهما عندما بدأ الهجوم في 27 نوفمبر. جيشٌ عرمرم  كان يضم 14 فرقة بينها 4 فرق مشاة و7 فرق مدرعات، و3 فرق قوات خاصة، ينسحب من كل منطقة تقترب منها قوات الفصائل، ولا يعرف أحد إلى أين يذهب المنسحبون كما لو أنهم يتبخرون!
لم يكن أحد في العالم تقريبا مهتما بالوضع في سوريا، ناهيك عن أن يتوقع الهجوم المفاجئ والانهيار الشامل، الذي بدا كما لو أنه فيلم سينمائي سريع الإيقاع. فقبل أن تُستوعب مفاجأة الهجوم، كانت الفصائل المسلحة قد استولت على حلب وأريافها، وتوجهت إلى محافظة حماة ثم حمص، فيما انهارت خطوط الجيش السوري واحدًا تلو الآخر.
وحدث ذلك، الذي بدا في بدايته كما لو أنه ضرب من خيال، بعد أن تضاءل الاهتمام الدولي بالأزمة السورية، وبدا أن نظام بشار الأسد مستمر رغم أنه كان يسيطر على حوالي 62 في المائة من أراضي البلاد فقط. كما بدأت الدول العربية في السعي إلى إعادة إدماجه، مع سعي بعضها إلى نصحه باتخاذ خطوة أكثر جدية باتجاه إصلاحات تنهي الأزمة. ورغم عدم استجابته للنصائح العربية المتعلقة بالإصلاحات السياسية والمصالحة الوطنية، لم يكن أحد يتوقع أن تتجدد الأزمة بل تتصاعد وتبلغ ذروة غير مسبوقة منذ عام 2016 عندما انتصر على فصائل المعارضة وحصرها في منطقة محدودة. فالحال أنه فيما لم يغير نظام الأسد شيئًا في سياسته الداخلية، كان الكثير يتغير حوله. لم تعد قدرات الفصائل المسلحة كما كانت قبل ست سنوات وأكثر، بل ازدادت كمًا ونوعًا، وصارت أقوى عسكريًا وأكثر تماسكًا، إذ تحركت من خلال غرفة عمليات مشتركة وخطط معدة بدقة وحماسة شديدة ونفذت هجمات منسقة ومركزة، وبدت كما لو أنها جيش نظامي ومدرب جيدًا ومنظم على مستوى عال.

وضع انشغال روسيا بحرب أوكرانيا سقفًا لقدرتها على مساعدة الجيش السوري ومساعدة النظام الذي سبق أن قامت بدور رئيس في إنقاذه عندما تدخلت لضرب فصائل المعارضة عام 2015

كما لم يعد نظام الأسد بدوره كما كان قبل ست سنوات، إذ صار أكثر فسادًا، وازداد جيشه ضعفًا نتيجة الاعتماد المفرط على مساندة إيران وحلفائها، وخاصةً "حزب الله"، فضلاً عن روسيا. وإذ ضعفت قدرات "حزب الله" كثيرًا نتيجة الضربات الإسرائيلية المؤلمة، لم يعد قادرًا على مساعدة الجيش السوري في صد هجوم كاسح لم يتوقعه أحد، وخاصةً أنه كان قد سحب معظم مقاتليه للمشاركة في الحرب التي لم يتخيل عندما بدأها في 8 أكتوبر 2023 أنها ستبلغ المبلغ الذي وصلت إليه. ولم يعد في إمكان أمينه العام "الاضطراري" الشيخ نعيم قاسم أن يفعل شيئًا، ولا أن يهدد وهو واثق من قدرته على تنفيذ وعيده، ولا أن يقول مثل ما قاله نصرالله ذات يوم (إذا استدعى الأمر أن أذهب أنا و"حزب الله" بالكامل إلى سوريا سنذهب).

وقل مثل ذلك عن إيران التي ضعف حليفها الذي كان الأقوى، والأكثر أهمية، في لبنان ولم تستطع نجدته لأن إيقاع الضربات الإسرائيلية كان أسرع من أية محاولة للحاق به، وخاصةً أنها لم تكن متوقعة ولم يُحسب بالتالي لها حساب.

ولهذا فعندما بدأ انهيار الجيش السوري، الذي لم يكن بدوره متوقعا، لم تستطع طهران أن تفعل شيئًا، مثلها في ذلك مثل "حزب الله"، الأمر الذي دفع الحكومة العراقية لأن تنأى ببلدها وتكتفي بمراقبة حدودها مع سوريا.

كما وضع انشغال روسيا بحرب أوكرانيا سقفًا لقدرتها على مساعدة الجيش السوري ومساعدة النظام الذي سبق أن قامت بدور رئيس في إنقاذه عندما تدخلت لضرب فصائل المعارضة عام 2015. حاولت أن تُبطئ اندفاعة قوات المعارضة السورية عبر بضع ضربات جوية، ولكن ليس في إمكان سلاح الجو أن يحدث أثرًا ملموسًا في أي حرب ما لم تكن هناك قوات تقاتل على الأرض. وإذ توالت مشاهد انسحاب القوات السورية، فقد أدركت موسكو أنه لا جدوى من المساندة الجوية، وقال وزير خارجيتها سيرغي لافروف في 6 ديسمبر ما معناه أن مصير بشار الأسد بات مجهولاً، وهو ما صار معلومًا بعد ساعات من قوله ذاك.

وهكذا ينصرم عام حافل ببجعاتٍ سود، وتبدأ سنة جديدة سيتوقف الكثير مما سيشهده العالم العربي فيها على ما حدث في هذا العام وسياسات إدارة دونالد ترمب.

font change

مقالات ذات صلة