وثائق خاصة لـ"المجلة" تكشف تجسس نظام الأسد على مكالمات السوريين

كانت الملاحقات تتم لمجرد التعبير عن السخط أو شراء بضائع بالدولار

وثائق خاصة لـ"المجلة" تكشف تجسس نظام الأسد على مكالمات السوريين

في سوريا وعلى مدار أكثر من 5 عقود خلت، لم تكن مهمة مخابرات نظام الأب حافظ الأسد والابن بشار الأسد، تقف عند حدود قمع الحريات ومصادرة حق الرأي أو اعتقال الناشطين وتعذيب المعتقلين حد الموت فحسب، وإنما كانت ثمة مهام أخرى تمارسها وتقوم بها تلك الأجهزة، تتمثل في انتهاك صارخ لحرمة وحياة المواطنين السوريين، من خلال التنصت والتجسس المطلق على مكالماتهم الأرضية والنقالة، بتهمة أو بغير تهمة.

"المجلة" عثرت في أحد الأجهزة الأمنية للنظام (المخلوع) في دمشق، على وثائق خاصة تكشف عمليات التجسس الكبيرة على حياة المواطنين السوريين واتصالاتهم، وقد ذُكر فيها محتوى أي مكالمة جرى التنصت عليها من قبل المخابرات، حتى الخاصة منها ضمن العائلة الواحدة، وأيضاً لمكالمات تخص ضباطا عسكريين، كما شملت عملية التنصت أيضاً مكالمات لعائلات فلسطينية لاجئة إلى سوريا.

عمليات التنصت لمخابرات النظام المخلوع، ساهمت إلى حد كبير في تقويض حياة وحرية السوريين على مدار أكثر من عقد من الزمن، واعتقال أعداد كبيرة منهم ومن ذوي الناشطين، ومقربين من ضباط منشقين، إضافة إلى تجار ورجال أعمال سوريين، وفقاً لشهود تحدثت إليهم "المجلة" وردت أرقامهم في الوثائق.

محمد.ع، مواطن سوري (فضل عدم الكشف عن اسمه الصريح لأسباب شخصية متعلقة به)، ورد رقم هاتفه النقال في واحدة من الوثائق، وقد تواصلت معه "المجلة" فتحدث عن عملية التنصت على جهازه النقال منتصف عام 2016، قائلا إنه لم يكن يعلم أن جهازه النقال كان مراقباً، وأشار إلى أنه اتصل ثلاث مرات بقريبه، أحد الضابط المنشقين عن قوات النظام حينها للاطمئنان عليه، وفي يوم من الأيام ودون إبلاغ وسابق إنذار داهمت قوة أمنية بشكل مرعب محل إقامته في حي المزة بدمشق، واقتادته إلى (فرع فلسطين) وجرى التحقيق معه ومواجهته بمضمون ومحتوى المكالمات بينهما، وتعذيبه بصورة وحشية للغاية لانتزاع اعتراف بالقوة عن مدى التنسيق والتعاون مع قريبه (المنشق)، قبل أن يحكم عليه بالسجن 5 سنوات، بعد رحلة معاناة وتعذيب بين مقرات الأجهزة الأمنية استمرت لأكثر من عام. ثمّ أفرج عنه بعد 6 سنوات، بعد دفع مبلغ 25 ألف دولار أميركي من قبل ذويه لجهات وسيطة ومقربة من المخابرات والقضاء في وقت واحد.

لوحق المطلوبون الواردة أسماؤهم وأرقامهم في عمليات التنصت وتتبع مكالماتهم، وقد أوقفوا في ظروف إنسانية مأساوية، حيث فقد المئات منهم حياتهم لعدم امتلاكهم معلومات عن التهم الموجهة لهم

ويضيف أنه منذ ذلك الحين وحتى سقوط النظام المخلوع، لم يتجرأ على الاتصال أو الرد على أي رقم خارج نطاق عائلته المقربة جداً (إخوته ووالده)، خشية اعتقاله مرة أخرى من قبل الأجهزة الأمنية، والتعرض لأبشع أنواع التعذيب أثناء التحقيق.

وثيقة ثانية لعملية تنصت على مواطن سوري آخر، تحمل رقمين على شبكات الهواتف النقالة، عثر عليها في الفرع الأمني نفسه (فرع فلسطين)، ورد فيها محتوى لا يمس الأمن السوري أو "الهواجس" التي كانت تؤرق أجهزة المخابرات بدافع حماية الأمن القومي والسياسي السوري، والتي كانت تدفعهم إلى مراقبة السوريين واتصالاتهم، وكان مضمونها لا يتعدى تبادل السلام والاطمئنان والسؤال عن الحال... إلخ، مما يشير إلى أن كل سوري تعرضت أجهزة اتصالاته الأرضية وعبر الهواتف النقالة للتنصت والاختراق من قبل مخابرات الأسد.

وبحسب ناشطين سوريين فإن "الفرع 255" المعروف بـ"فرع الاتصالات" ومقره دمشق ويتبع بشكل مباشر لإدارة المخابرات العسكرية، هو الجهة الأمنية الرئيسة التي أوكل لها مراقبة مكالمات السوريين. ويقوم عناصرها بمراقبة الاتصالات الداخلية والخارجية، التي تتم عبر الهاتف الأرضي والفاكس، وشبكة الاتصالات النقالة، ويمتلكون القدرة على التحكم المباشر بجميع الاتصالات داخل سوريا، مثل مراقبة المكالمات والتنصت وحجب الأرقام، والوصول إلى الرسائل النصية.

وكان "الفرع 255" أو ما يعرف بـ"فرع الاتصالات" ينسق بشكل مباشر، مع "الفرع 235" (فرع فلسطين)، و"الفرع 251" أو ما يعرف عند السوريين بـ"فرع الخطيب" التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، لملاحقة المطلوبين الواردة أسماؤهم وأرقامهم في عمليات التنصت وتتبع مكالماتهم، سواء على الهواتف الأرضية أو النقالة، وتوقيفهم في ظروف إنسانية مأساوية حيث فقد المئات منهم حياتهم لعدم امتلاكهم معلومات عن التهم الموجهة لهم.

مجد عرنوس، سوري من دمشق (45 عاما)، قال لـ"المجلة" إنه تعرض للاعتقال منذ عام 2014 إلى 2020، في (فرع الخطيب)، لمجرد أنه تواصل مع شريك له في تجارة الورقيات واتفق معه على شراء كمية منها، ودفع ثمنها بالدولار الأميركي نظراً إلى عدم استقرار أسعار الليرة السورية حينها، وهو لم يكن يدري أن جهازه النقال مراقباً.

العسكريون المنشقون أو أقرباؤهم أو أقرباء عناصر الفصائل بما فيهم العائلات الفلسطينية التي كان لديها تواصل مع أبنائها خارج سوريا، فكانت توجه ملفاتهم إلى "فرع فلسطين" لملاحقتهم وتوقيفهم

مقرب من الأجهزة الأمنية تحدث إلى "المجلة"، عن عمليات التجسس على حياة السوريين والتنصت على مكالماتهم، وأسبابها ودوافعها (خارج إطار القانون)، وعدم احترام حرمة المواطن وخصوصيته، قال: "كانت عمليات التنصت على المكالمات تجري وفق ثلاث طرق وطبعاً دون العودة إلى القضاء لطلب إذن بوضع أي رقم تحت المراقبة، وكانت الطريقة الأولى تعتمد على اعتراف أحد المواطن أثناء التحقيق معه في أحد الأجهزة الأمنية على مواطن آخر بقضية أو تهمة ما، عندها يقوم فرع (الاتصالات) بمراقبة الأخير والتنصت على جميع مكالماته وتدوين محتوى كل مكالمة وكل رقم يبادر إلى الاتصال به، ولاحقاً يندرج الجميع على قوائم المطلوبين للفرع المختص بالتهمة أو القضية، وغالباً ما يصل عدد المطلوبين في القضية الواحدة إلى 20 شخصا وأكثر".

التجسس المسحي أو المناطقي

المصدر ذاته تحدث أيضاً عن أسلوب آخر لمخابرات النظام المخلوع بالتجسس على مكالمات المواطنين السوريين وهو (التنصت المسحي أو المناطقي). وكان القرار يُتخذ مباشرة من قبل إدارة المخابرات العسكرية بهذا الشأن، عندما كانت تشهد منطقة ما أحداثاً عسكرية أو أمنية، وعندها كانت تخضع كل مكالمات المواطنين ضمن المنطقة الواحدة للمراقبة والتنصت. وقد تسبب ذلك في اعتقال الآلاف من السوريين، بناء على ورود كلمات تشير إلى حالة ازدراء ونقد واقع الحياة، خلال عمليات التجسس.

التنصت التسلسلي

وأشار المصدر أيضاً إلى إخضاع كل الأجهزة النقالة بشكل تسلسلي للأرقام من قبل (فرع الاتصالات) للتنصت، وغالباً ما كان يجري التنصت يومياً على قرابة 4000 مكالمة، ويدون محتوى المكالمات كاملا مرفقا برقم خط الهاتف ومنطقة التغطية، ويطلب الحصول على مالك الرقم، ويرفق كل ذلك ضمن ملف أمني يرسل إلى الفرع المختص لملاحقة المطلوبين. فالتجار والصناعيون الذين يتعاملون بالدولار يحالون إلى فرع الخطيب، أما العسكريون المنشقون أو أقرباؤهم أو أقرباء عناصر الفصائل بما فيهم العائلات الفلسطينية التي كان لديها تواصل مع أبنائها خارج سوريا، فكانت توجه ملفاتهم إلى فرع فلسطين لملاحقتهم وتوقيفهم.

الحقوقي السوري سعد الدين الأحمد، أكد في حديث إلى "المجلة" على حق السوريين بملاحقة النظام المخلوع ومخابراته قضائياً بتهمة التجسس على حياتهم والتنصت على هواتفهم ومكالماتهم، وقال: "القانون الذي كفله الدستور السوري، يمنع أي جهة من التجسس على حياة المواطن الخاصة والتنصت على مكالماته، دون الحصول على إذن قضائي يسمح بمراقبة الاتصالات والتجسس عليها. أما الأجهزة الأمنية المخلوعة فهي تجاوزت القانون وقفزت فوق الإجراءات التي تمنحها الحق في التنصت على المكالمات الهاتفية والتي تبدأ بطلب يقدم إلى النيابة العامة وإقناعها بشكل الجرم المنسوب للشخص وضرورة التنصت على مكالماته، مع تحديد مدة المراقبة بما لا يتجاوز شهرا ولمرة واحدة أو اثنتين".

font change

مقالات ذات صلة