أمير القصة العربية يوسف إدريس... الثائر المتحوّل

كاتب واقعي مولع بالتجريب وتعدد الأنواع

Wikicommons
Wikicommons
يوسف إدريس.

أمير القصة العربية يوسف إدريس... الثائر المتحوّل

يوسف إدريس الطبيب الذي انقلب على الطبّ، وانخرط في كتابة القصّة والمسرح والرواية ثائر بامتياز، على كل ما يعتبره موضع نقد اجتماعي أو سياسي أو أدبي، لم يترك قضية عربية وعالمية لم يناضل من أجلها.

بدأ مشواره في الجامعة فاشترك في تظاهرات ضدّ الاستعمار البريطاني وكذلك ضد الملك فاروق وكان من قيادات الحركة الطالبية في بداياته، أيّد الثورة الناصرية الاشتراكية، ثمَّ لم يلبث أن ارتدّ عليها وهاجمها، وأدخل السجن للمرّة الأولى، ثمّ انضم إلى الحزب الشيوعي وما لبث أن انفصل عنه، وفي هذه الأثناء بدأ يكتب القصة القصيرة وينشرها في بعض المجلات المصرية مثل "روز اليوسف"، و"المجلة المصرية"، ثم أصدر مجموعته القصصيّة الطويلة (اعتبرها بعضهم رواية) بعنوان "قصة حب" عام 1956. تخصّص في الطبّ النفسي ثمّ ترك المهنة، وعيّن محررا في "الجريدة" المصرية.

وفي عام 1961 انضمّ إلى المناضلين الجزائريين في الجبال واشترك في معارك استقلالية وأصيب بجروح، وقلّده الجزائريون وساما عربيا تقديرا لمشاركته في حرب التحرير. عاد إلى مصر، وعمل في الصحافة، وفي هذه المرحلة، وبعد نشره أعمالا قصصيّة عدة تمّ تكريسه قصّاصا كبيرا من أهم كتّاب القصّة العربية بل لقّبوه بـ"تشيخوف القصة العربية".

شغف بالجديد

وقد تجاوز يوسف إدريس المجال المصري، فنشر قصصه في بيروت وسواها. فالحياة بالنسبة إلى هذا الكاتب الكبير عملية تغيّر باستمرار (كحياته)، ولا شيء يبقى على حاله، ولذا فالأفكار والفلسفات والقيَم يجب أن تتغيّر باستمرار، وعلى هذا الأساس نراه باحثا عن قضية أو أفكار أو علاقات، أو حتى قيم. لكن غالبا ما يخونه هذا البحث، يصدمه سقوطه، بعدما استنفد هذا الانتظار.

الحياة بالنسبة إلى هذا الكاتب الكبير عملية تغيّر باستمرار (كحياته)، ولا شيء يبقى على حاله، ولذا فالأفكار والفلسفات والقيَم يجب أن تتغيّر باستمرار

لكن، إلى هذا الشغف بما هو جديد أو نافر، يلجأ كما قال مرارا، إلى الحدس، الذي يعكس له حالة الإنسان الطبيعية: بمعنى أن أفكاره تنبع من وحي اللحظة، على أن يعيش هذه اللحظة، ثمّ ينفيها، وينتقل إلى غيرها (كأنه يعيش غيمة يجسّدها حلم متواصل). "شرط" الحالة الراهنة، عليه أن يراجعها ويجسّدها بطريقة علمية، وتحليلية في بحثه، وهذا بالذات جوهر الكتابة القصصية عنده وكذلك الروائية والمسرحية، لكن في عدة أساليب. وقد ساعده في هذا التنوّع، اطّلاعه الواسع على الآداب الأجنبية، أمثال تشيخوف الذي تأثّر به من خلال تقديم شخصيات عادية غير استثنائية في قصصه، لكن في الوقت ذاته تُعدّ تعبيرا رمزيا (إسقاطيا أحيانا)، سواء من الفلاحين أو سكان الأرياف أو المدن، أو الفقراء أو الأغنياء.

Wikicommons
يوسف إدريس.

ونظنّ أنه تبنّى الاتجاه الواقعي في الرواية الأوروبية خصوصا إميل زولا مقابل الاتجاه الواقعي لكن بمسحة عميقة من اللغة والمخيّلة مثل الفرنسي دوباسون، أو الروسي غوغول. أي أنه لم يلجأ في كتاباته إلى استخدام المجازات اللغوية، بل أراد أن ينقل الواقع نقلا فوتوغرافيا في دقّة تفاصيله وشخصياته. لا نقصد هنا أن إدريس اشتغل على نقل الواقع نقلا تاريخيا، بل نجده برغم كل اتصاله بهاجس الواقعية، يفتح كتاباته على مواقف جريئة ودقيقة في المجتمع، بين الإدانة والنقد والمواجهة. وهو هنا لا يرى الإنسان ثابتا في حاله، فلا هو شرّير مطلق ولا صالح مطلق. ولأنّه كائن بشري، هو تعدّدي يكافح ضدّ وضعه، ويثور عليه، بمزيج متوازن بين التشاؤم والتفاؤل، بين الخضوع والانتفاض. (إنها الفلسفة الوجودية بامتياز).

في قصوصته "أرخص ليالي"، نجد رجلا قرويا له العديد من الأطفال، وهو عاجز عن تعليمهم، ولا يجد سبيلا آخر، لكن إحدى بناته تمارس "العيب"، فالمجتمع الفاسد الذي تعيش فيه يهدّدها بالفاقة خصوصا عندما تتولى مسؤولية إخوتها، لتكون الدعارة ملاذها الوحيد.

غلاف المجموعة القصصية "أرخص ليالي".

أما قصة "أبو سيّد"، فتروي حياة رجل مسنّ يخشى أن يصاب "بالعنّة"، وتحكي "النواصعة" قصة فتاة قروية تكتشف المدينة وتفقد براءتها، وقصة "مسحوق الهمس" تصف رجلا في السجن وشعوره بالحرمان.

مسرح ورواية

صحيح أن القصة القصيرة هي الشكل الذي نال فيه يوسف إدريس شهرته، لكنه رأى أن المسرح هو حبّه الأول، وأن الدراما ليست فرعا من الأدب، بل هي ظاهرة اجتماعية يشارك فيها الممثل والمخرج والجمهور، أي أنها مشاركة جماعية. وها هو يكتب بعض المسرحيات مثل "ملك القطن" و"أرخص ليالي" و"جمهورية فرحات" (1956) التي تعبّر عن إيمانه بالاشتراكية المصرية، ثم "اللحظة الحرجة" هي حصيلة لحرب السويس عام 1956، وفيها تتبّع عن قرب أحوال عائلة مصرية خلال الحرب، لكن معظم هذه المسرحيات لم تلقَ استقبالا جيدا في مصر، فقد وقع في المباشرة والخطابية والتبسيط.

أعماله تصدّت بقوة لبعض القضايا الأساسية في مصر والعادات والتقاليد الاجتماعية ولم يحد فيها عن أسلوبه الواقعي، بعيدا من الجماليات الشكلانية

لكن ها هو بعد سنوات (1964)، أصدر رائعته "الفرافير"، فنجحت نجاحا باهرا إلى درجة أن الكاتب الكبير لويس عوض سارع إلى ترجمتها الى الفرنسية لكي تعرض على المسرح في باريس، ثم اقتبسها المخرج اللبناني الكبير يعقوب الشدراوي وقدّمها في بيروت بصيغة درامية ومفتوحة على الكوميديا ونجمها الممثل أحمد الزين. المسرحية من فصلين، حطّم فيهما معطى الكتابة السائدة مستعينا بالجذور العميقة، بالفولكلور الشعبي وبامتيازات المسرحية الحديثة خصوصا بالكاتب الكبير صموئيل بيكيت صاحب "نهاية اللعبة" و"في انتظار غودو" وكأنها عمل ملتبس فيه الدراما بأدوات "الكوميديا دي لارتي" الإيطالية، بل كأنها طالعة من مناخات المسرح العبثي...

غلاف نص مسرحية "الفرافير".

وفي عام 1971 نشر مسرحية "الجيش الثالث"، تجسّد عالما متخيّلا تحكي عن الإنسان الذي يبحث عن الفردوس وعلى الأرض، وللمرّة الأولى يختم إدريس نهاية المسرحية بالتفاؤل.

إلى المسرح والقصة القصيرة، جرّب يوسف إدريس الرواية الطويلة، ومن أبرزها "الحرام" التي تحوّلت فيلما سينمائيا، و"بيت من لحم" و"حادثة شرف" و"العسكري الأسود" وسواها، لكنه، وإن تألّق في بعضها، فإنه لم يضف كثيرا إلى الروايات المصرية خصوصا نجيب محفوظ. لكن أعماله تصدّت بقوة لبعض القضايا الأساسية في مصر والعادات والتقاليد الاجتماعية ولم يحد فيها عن أسلوبه الواقعي، بعيدا من الجماليات الشكلانية، بل إنها تعدّ استمرارا لأعماله القصصية، الثائرة هنا، والعنيفة هناك.

font change

مقالات ذات صلة