إسرائيل تفسد ابتهاج السوريين بالنصر

بدا نتنياهو في نظر الإسرائيليين من الناحية السياسية كرجل ميت يسير

أ ف ب
أ ف ب
جنديان اسرائيليان يراقبان مدرعة اسرائيلية عبرت السياج الفاصل الى المنطقة التي تشرف عليها قوات الامم المتحدة في الجولان في 13 ديسمبر

إسرائيل تفسد ابتهاج السوريين بالنصر

يبدو كما لو أن دهرا يفصلني عن الوقت الذي ظننت فيه أنني كنت على وشك النجاح في التوسط في عملية السلام بين إسرائيل وسوريا. ففي الأسبوع الأول من مارس/آذار 2011، توصلت إلى التزامات قوية من كلا الجانبين بدا أنها تمهد الطريق أمام معاهدة سوف تقطع العلاقات العسكرية السورية مع إيران و"حزب الله" و"حماس". وفي المقابل، تنسحب إسرائيل تدريجيا من كل الأراضي السورية التي توغلت فيها خلال حرب يونيو/حزيران 1967، وتُرفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا مع تنفيذ دمشق لالتزاماتها بموجب المعاهدة. إلا أن كل شيء تبخر في الأسابيع القليلة التالية، حيث قرر الرئيس السوري بشار الأسد انتهاج طريق القتل الجماعي بدل المضي قدما في عملية السلام.

وما يعيد إلى الأذهان هذا الفشل الدبلوماسي اليوم- على فرض أن هذا ما حدث بالفعل- هو الحملة العسكرية التي تشنها إسرائيل على الأراضي السورية بعد سقوط الأسد. فقد كان رحيل الأسد المفاجئ إلى موسكو في الساعات الأولى من صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 إشارة إلى رفع مستوى تحقيق أمن الدولة اليهودية بشكل مكثف، وفق الرؤية التي تصورها الإسرائيليون في عام 2011. فقد تلاشت كليا وبطريقة مدوية السيطرة الفعلية لإيران على سوريا، تلك السيطرة التي استخدمتها لعقود كي تحول البلاد إلى مجرد أداة للوصول إلى لبنان لبناء "حزب الله"، ورقة الضغط في الخطوط الأمامية الإيرانية وقوة الردع في مواجهة إسرائيل. وفي الواقع سعت طهران لسنوات إلى تحويل سوريا نفسها إلى جبهة ثانية ضد إسرائيل، جبهة قد تكمل مهمة "حزب الله" في لبنان.

وفي ديسمبر 2024، حققت إسرائيل بالقوة ما كانت تسعى لتحقيقه سابقا عبر الدبلوماسية بوساطة أميركية في عامي 2010 و2011: إنهاء التحالفات العسكرية السورية التي كانت تهدد أمن الدولة اليهودية. فقد أتاح سقوط الأسد وانهيار الهيمنة الإيرانية فرصة دبلوماسية جديدة لإسرائيل- لو أرادت– فرصة لتهنئة الشعب السوري علنا على تحرره ووضع أسس علاقة ثنائية قد تؤدي في النهاية إلى سلام رسمي. ومع ذلك، كما حدث في عام 2011 مع بشار الأسد، نُبذت هذه الفرصة لصالح العنف، فما السبب وراء ذلك؟

بررت إسرائيل رسميا حملتها الجوية ضد القواعد العسكرية السورية واحتلالها للأراضي السورية (في انتهاك لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974) على أنها إجراءات استباقية، مشيرة إلى الطابع الإسلامي والخلفية الإرهابية لـ"هيئة تحرير الشام"، التي تهيمن على الحكومة الجديدة الناشئة في دمشق، كتهديد محتمل لإسرائيل. والواقع أن إسرائيل ليست وحدها من تشكك في نوايا "هيئة تحرير الشام"، التي كانت تابعة لتنظيم "القاعدة" في السابق، بشأن مستقبل سوريا. ومع ذلك، لا بد من طرح السؤال الآتي: هل من المنطقي أن تفترض إسرائيل الأسوأ بخصوص "هيئة تحرير الشام" وتتصرف وفقا لذلك؟ ومن ناحية أخرى هل يخدم الذهاب إلى حرب استباقية ضد سوريا ما بعد الأسد المصالح الإسرائيلية؟

في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تكن إسرائيل مستعدة على الإطلاق عندما شنت منظمة إسلامية أخرى (حماس) هجوما عسكريا عليها، وهو الهجوم الذي تلطخ بجرائم لا توصف ضد الإنسانية. يمكن لإسرائيل عندما يحين الوقت المناسب أن تحدد رسميا سبب هذا الافتقار إلى الاستعداد وتُخضع للمساءلة المسؤولين عن ترك آلاف الإسرائيليين تحت رحمة القتلة. ومع ذلك، منذ ذلك اليوم المروع، أو بعده بفترة وجيزة، كان الكثير من الإسرائيليين قد أطلقوا حكمهم في تحديد الجاني الأساسي: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فهو، بعد كل شيء، في موقع المسؤولية. وكان لسنوات ينتهج سياسة تحويل الأموال القطرية إلى "حماس" اعتقادا منه أن القادة في غزة سوف يتخلون عن الإرهاب من أجل الثراء. وطيلة أشهر بعد الفظائع التي اقتُرفت في أكتوبر 2023، بدا نتنياهو في نظر الكثير من الإسرائيليين من الناحية السياسية كرجل ميت يسير على قدميه.

يبذل السوريون- وحتى قادة "هيئة تحرير الشام"- قصارى جهدهم لتجاهل اعتداءات إسرائيل. إنهم يحتفلون بالإطاحة بمرتكب مجازر جماعية فاسد

غير أن رئيس الوزراء- على الرغم مما حدث آنذاك وعلى الرغم من ويلاته القانونية- يهيمن مرة أخرى على السياسة الإسرائيلية. ويبدو جليا أنه يرغب في البقاء رئيسا للوزراء إلى أجل غير مسمى. والرأي السائد هنا هو أن قرار إسرائيل بشن حرب على سوريا ما بعد الأسد كان مدفوعا، أكثر من أي شيء آخر، بسعي نتنياهو إلى البقاء والازدهار سياسيا. ونقص الجاهزية الذي ظهر في أكتوبر 2023- وهو خطأ الجيش الإسرائيلي وفقا لنتنياهو- لن يتكرر في ديسمبر 2024. وسوف تفعل إسرائيل بسوريا ما ترى الآن أنه كان ينبغي عليها فعله بقطاع غزة قبل أن تقدم "حماس" على هجومها. ولم يكن لغياب المؤشرات التي تشير إلى عدوان "هيئة تحرير الشام" على إسرائيل أي صلة بالموضوع. واعتُبر إظهار القوة المسلحة الإسرائيلية مسألة جوهرية، وهو القرار الذي اتخذ بسهولة بسبب عجز وقلة حيلة الهدف.

أ ف ب
عمود دخان يتصاعد من محافظة القنيطرة اثناء القصف الاسرائيلي في 9 ديسمبر

ولحسن الحظ، يبذل السوريون- وحتى قادة "هيئة تحرير الشام"- قصارى جهدهم لتجاهل اعتداءات إسرائيل. إنهم يحتفلون بالإطاحة بمرتكب مجازر جماعية فاسد. وهم يسعون إلى الحصول على معلومات عن عشرات الآلاف من أقاربهم ومعارفهم الذين اعتقلهم نظام الأسد وسجنهم وعذبهم وقتلهم في كثير من الحالات. كما أنهم يحاولون تنظيم أنفسهم لتوفير الخدمات الأساسية ووضع معايير للحكم المستقبلي لسوريا وإعادة إعمارها في نهاية المطاف. وهم في الوقت نفسه لا يملكون القدرة على مقاومة القوات العسكرية الإسرائيلية، ناهيك عن شن هجمات في مرتفعات الجولان على غرار "حماس". ولا يبدو أن شيئا من كل ما سبق يخفى على أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
هل يوجد مسلحون راغبون في قتل الإسرائيليين في سوريا حتى اللحظة؟ إنه لمن الحماقة أن نقول لا. ولكن مع الإطاحة بإيران و"حزب الله"، هل ارتفع مستوى التهديد؟ وهل وصل اليوم إلى مستوى يبرر الحرب الاستباقية؟ هل أبدت "هيئة تحرير الشام" أي اهتمام بالمتابعة من حيث انتهت إيران و"حزب الله"؟ إذا كانت الدفاعات العسكرية الإسرائيلية في مرتفعات الجولان كافية للتصدي لأي عدوان من قبل نظام الأسد وإيران و"حزب الله" (مع وجود القوة الجوية الروسية في الخلفية) فما الذي جعل هذه الدفاعات غير كافية بعد الثامن من ديسمبر 2024؟
كان السوريون سيرحبون بتدمير القوات الجوية والبحرية ومقرات القيادة وكل ما يرتبط بالجيش السوري لو قام بذلك أحد- إسرائيل أو تركيا أو الولايات المتحدة- عندما كان بشار الأسد يستخدم تلك المقرات والقواعد لذبح المدنيين. وكان من الممكن إنقاذ عشرات الآلاف من أرواح السوريين لو حرك أحدهم ساكنا لحماية المدنيين العزل عندما كان الأسد يستخدم البراميل المتفجرة والمدافع والمواد الكيماوية لقتل السوريين وإرهابهم وترويعهم.

نظرا لعجز الرئيس بايدن وفريقه، أما من أحد في فريق ترمب مهتم بالاكتفاء بالنصر في سوريا على إيران و"حزب الله" وتقديم النصح لإسرائيل بوقف استعدائها غير المبرر للشعب السوري؟

أما الآن؟ لماذا؟ يحاول السوريون تجاهل نوبات العنف التي أعقبت سقوط الأسد ضد بلادهم. ولا يستطيعون فعل أي شيء حيال ذلك. إنهم يأملون أن تنتهي هذه الهجمات قريبا. ولكن هل سيتمكنون من نسيانها يوما ما؟ 
من المؤكد أن بقاء نتنياهو السياسي يشكل أهمية قصوى بالنسبة له ولأنصاره. ومن المؤكد أن عددا قليلا من الإسرائيليين، الذين ما زالوا يعانون نفسيا من أهوال أكتوبر 2023، لا يقض مضاجعهم تدمير الأصول العسكرية السورية أو الاستيلاء على الأراضي السورية. ومع ذلك، أما من مسؤولين إسرائيليين كبار على استعداد للنظر في أن معاملة عشرين مليون سوري بقدر ضئيل من الاحترام في لحظة خلاصهم قد يتضح أنه يصب في مصلحة إسرائيل على المدى الطويل؟ 
ونظرا لعجز الرئيس جو بايدن وفريقه، أما من أحد في فريق ترمب مهتم بالاكتفاء بالنصر في سوريا على إيران و"حزب الله" وتقديم النصح لإسرائيل بوقف استعدائها غير المبرر للشعب السوري؟ لا شك أن ثمة قادة في طهران يصلّون كي تستمر إسرائيل في تلك الممارسات.
يجب أن تتوقف الحرب الاستباقية التي تشنها إسرائيل على سوريا الآن. ومع أنه لا يمكن الآن التراجع عن العاصفة التي أفسدت احتفالات سوريا بانتصارها، يمكن من خلال دبلوماسية ماهرة تخفيف الضرر الذي لحق بمصالح إسرائيل مع مرور الوقت. بل يمكن، في الواقع، حتى لإسرائيل أن تسهم في تشكيل سوريا ما بعد الأسد بطريقة إيجابية. نعم، ستظل "هيئة تحرير الشام" تمثل علامة استفهام، لكن لا داعي لأن تخلق إسرائيل عدوًا حيث قد لا يكون هناك عدو في الأساس.

font change

مقالات ذات صلة