لعب نظام الأسد المخلوع في العقود الأخيرة دورا أساسيا في "محور المقاومة"، ولم تقتصر علاقته مع مكونات المحور (الدول والقوى) على التحالف العسكري فقط، إنما تعدته إلى أبعاد أيديولوجية وسياسية واقتصادية. وباعتباره الحاضنة الأساسية لـ"محور المقاومة"، واعتبار إيران عاصمة المحور، كان نظام الأسد المنفذ المطيع لسياسات إيران الإقليمية وملبي طموحاتها، لذلك يشكل فرار الأسد الذي ترتب عليه خروج سوريا من "محور المقاومة"، خطرا وجوديا على المحور كله، وعلى أمن إيران القومي بالأخص، يبدأ هذا الخطر من ضمور دورها العسكري والأمني، ويمر بالخسارات الاقتصادية، ليصل إلى التغييرات المتوقعة في خارطة الجغرافيا السياسية للمنطقة.
على صعيد أكثر خصوصية، بما أن سوريا شكلت بسبب موقعها الاستراتيجي جسرا جويا وبريا لتهريب الصواريخ الإيرانية والدولارات الأميركية من إيران إلى "حزب الله" اللبناني، فإنه بتدمير جسر التواصل هذا، خسر "حزب الله" طريق إمداده العسكري وممر إسناده المالي، وكنتيجة حتمية لذلك، ستتراجع قدراته العسكرية، وستضعف سيطرته على قرارات الدولة اللبنانية، وسينعزل عن دول المحور وقواه، مما سيضعف نفوذ إيران أيضا.
من ناحية أخرى، من الطبيعي أن إسرائيل سوف تستغل هذه التغييرات في سوريا، وستترجم ذلك، بشن المزيد من الغارات الجوية على قواعد إيران وقواتها الوكيلة على الأراضي السورية، وبمحو المراكز العسكرية ومخازن الأسلحة والصواريخ التابعة لجيش النظام، التي لم تكن قبل فرار الأسد مصدر قلق لها، لكنها كذلك مع النظام الجديد الذي من المبكر التنبؤ بسياساته، ونتيجة لذلك، سيشهد نفوذ إيران الإقليمي خسارات أخرى مدوية، بخاصة أن إيران تمكنت من خلال سيطرتها على الأسد، من تكريس نفسها كصانع أساسي لسياسات المنطقة.
خلال الأزمة السورية، أنفقت إيران ميزانيات ضخمة للمحافظة على بقاء الأسد في مكانه، ليس لشخصه، إنما بهدف تعزيز دورها في المنطقة وحماية عمقها الاستراتيجي
لطالما كان شعار إزالة إسرائيل من الوجود، هو القناع الذي تلطّى خلفه التمدد الإيراني في سوريا وفي المنطقة، لكن الوجه الحقيقي لهذا الشعار كان تدمير ما لا تستطيع إسرائيل أن تدمره، وهو المجتمعات العربية والروابط التاريخية بين الشعوب الجارة (العراق والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا) وزرع الفتن وبث السموم الطائفية، والقضاء على أي فرصة لبناء حكم ديمقراطي، أو إحلال السلام الدائم والعادل، وهذا ما حصل حقيقة، بعد دفعها "حزب الله" إلى التدخل في سوريا وقتل شعبها ووأد ثورته، من ناحية، ومن ناحية ثانية، أدى إلى إضعاف حضور الدول العربية والإسلامية مثل المملكة العربية السعودية ومصر في المنطقة، وصولا إلى تركيا.
وفي الوقت الحالي، تتحضر المعارضة السورية لرسم خارطة سياسية مختلفة لسوريا، ومن الواضح أن الخطوة السياسية الأولى التي ستقوم بها، هي التخلص من إرث التحالفات القديمة التي حوّلت سوريا إلى مستعمرة إيرانية.
في العلاقات السياسية، يبدو أنه سيكون للجارة تركيا رأي مسموع في بناء السلطة الجديدة وإبرام الاتفاقيات وعقد التحالفات، بعد أن أتمت المهمة العسكرية بنجاح، كما ستتاح للمملكة العربية السعودية الفرصة لإنقاذ البلاد والعباد من آثار النفوذ الإيراني على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى الدينية.
على الضفة الأخرى، سيكون لسقوط نظام الأسد عواقب اقتصادية وخيمة على إيران. خلال الأزمة السورية، أنفقت إيران ميزانيات ضخمة للمحافظة على بقاء الأسد في مكانه، ليس لشخصه، إنما بهدف تعزيز دورها في المنطقة وحماية عمقها الاستراتيجي، ودفعت ميزانيات خيالية ذهبت مع الريح بهروب الأسد. هذا الفشل سيضع على إيران ضغوطا مضاعفة، تُضاف إلى خسارتها الأسواق والاستثمارات التي لا تعد ولا تحصى من شركات الاتصالات ومطابع الكتب والمواد الغذائية وتجارة التهريب وتصنيع الكبتاغون، التي أنشأتها في سوريا لتكسر بها عزلتها الاقتصادية، وتغرق خزينتها بمردودات مالية ضخمة.
سقوط نظام الأسد، حرر الشعب السوري وحرر سوريا أولا، وأسقط المشروع الإيراني في المنطقة ثانيا، وعلاوة على ذلك منح شيعة لبنان لأول مرة منذ عقود، فرصة تاريخية لفهم شخصيتهم
كما سيكون لسقوط نظام الأسد آثار سلبية على الروح المعنوية والنفسية لجمهور المحور، وعلى إيمانه بالمشروع الإيراني، فلن تؤدي خسارة سوريا إلى فقدان الجماعات الموالية لإيران ثقتهم في أنفسهم وفي إيران فحسب، بل يمكن أن تؤسس أيضاً لانطلاق موجة من النقد الذاتي والمراجعة لطبيعة تبعيّتهم لإيران وحجمها، وقد بدأت هذه النقاشات تطل برأسها في المجتمع الشيعي في لبنان، يرافقها مراجعة نقدية حول جدوى الحرب الأخيرة (إسناد غزة) وجدوى 14 عاما من التدخل في سوريا، وخسارة آلاف الشبان الشيعة اللبنانيين من أجل حماية هذا النظام.
هذا التحول من الممكن أن يطعن في شرعية سياسات إيران الإقليمية، ويجهز الأرضية لمعارضيها وللمعترضين على مصادرتها القرار الشيعي في المنطقة، للانشقاق تمهيدا للاستقلال، هذا أيضا بدأ يظهر من خلال ارتفاع أصوات تدعو شيعة لبنان إلى الخروج من تحت العباءة الإيرانية، والعودة إلى الحضن العربي المتمثل في مرجعية النجف.
الخلاصة، أن سقوط نظام الأسد، حرر الشعب السوري وحرر سوريا أولا، وأسقط المشروع الإيراني في المنطقة ثانيا، وعلاوة على ذلك منح شيعة لبنان لأول مرة منذ عقود، فرصة تاريخية لفهم شخصيتهم، ومراجعة أثمان تحالفهم مع إيران، وإعادة قراءة ارتباطاتهم بها عقديا وسياسيا ومذهبيا.