العودة الى الوطن... موسم الهجرة العكسية العربية من كندا

المغادرون في أعلى مستوى منذ عقدين بسبب أزمات السكن والصحة والعمل والضرائب والتعليم وبطء الإجراءات الحكومية

إيوان وايت
إيوان وايت

العودة الى الوطن... موسم الهجرة العكسية العربية من كندا

بدأ طموح المهاجرين إلى كندا لتحقيق حلم كبير يتحوّل إلى صدمة وخيبة أمل مريرة، وصراع من أجل البقاء، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وصعوبة تأمين السكن، ونقص الخدمات وفي مقدمها الرعاية الصحية.

منذ عام 2015 جعل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو من تسهيل الهجرة إلى كندا سلاحه الرئيس لتخفيف التحدي الكبير الذي تواجهه والمتمثل في تباطؤ نمو عدد السكان، وارتفاع نسبة الشيخوخة (من المتوقع أن يشكل كبار السن ربع السكان بحلول عام 2051)، ونقص اليد العاملة، وضعف النمو الاقتصادي، وجعل هدفه استقطاب نصف مليون مهاجر في السنة كمعدل وسطي.

لكن هل السحر انقلب على الساحر؟

تُظهر البيانات الرسمية أنه في الأشهر الستة الأولى من عام 2023 غادر نحو 42 ألف شخص كندا، إضافة إلى 93.818 شخصاً غادروا في عام 2022، و85.927 شخصاً غادروا في عام 2021، وبذلك بلغ معدل المهاجرين الذين يغادرون كندا أعلى مستوى له منذ عقدين في عام 2019، وفقاً لتقرير حديث صادر عن معهد المواطنة الكندية Institute for Canadian Citizenship (ICC).

أ.ف.ب.
رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، يحضر جنازة رئيس الحكومة الكندي السابق برايان مولروني في مونتريال، كندا، 23 مارس 2024.

وتُظهر بيانات هيئة الإحصاء الكندية (Stat Can) أن الهجرة العكسية في الربع الثالث من عام 2023، ارتفعت إلى مستوى غير عادي بنسبة 3 في المئة لتصل إلى 32.026 شخصاً.

وقارب عدد المغادرين سنوياً ربع عدد الوافدين تقريباً، أي أن الحكومة تخسر ما يقرب من مليار دولار كندي أنفقتها كي تأتي بأولئك الذين غادروا، وتخسر أيضاً فرصة إقناعهم للبقاء والإنتاج.

أظهرت البيانات أن الهجرة العكسية في الربع الثالث من عام 2023، ارتفعت إلى مستوى غير عادي بنسبة 3 في المئة لتصل إلى 32.026 شخصاً

هيئة الإحصاء الكندية

وكانت نسبة المهاجرين من عدد السكان الإجمالي في كندا بلغت 0.2 في المئة في منتصف التسعينات، وتبلغ حالياً نحو 0.09 في المئة، وفقاً للبيانات الحكومية الرسمية.

بالنسبة الى دولة مبنية على المهاجرين، فإن الاتجاه المتزايد لمغادرة كندا يهدد بتقويض إحدى السياسات الرئيسة لحكومة ترودو، التي منحت الإقامة الدائمة لعدد قياسي يبلغ 2.5 مليون شخص في ثماني سنوات فقط.

ما هي أسباب الهجرة المعاكسة؟

في أوطان المنشأ للمهاجرين، تبدأ الأسباب من نماذج التمويل، اذ يعتمد نموذج التمويل بشكل أكبر على الادخار، أما في كندا فيأتي الائتمان أولاً. لكن الوافدين الجدد إلى كندا يصلون وليس في جعبتهم تاريخ ائتماني، وتاليا من الصعب للغاية بالنسبة اليهم الوصول إلى أي تمويل، لأن لديهم ملف تعريف عالي الأخطار ولا يوجد لديهم درجة ائتمانية (credit score)، وهذا يقف عقبة أمام إمكان الاستثمار والأعمال.

لا يُمكن للوافد الجديد العمل في كندا في مجال تخصصه بسبب الحاجة إلى معادلة شهادته وقبولها، وبسبب المطالبة بأن يكون لديه خبرة مسبقة في سوق العمل الكندي حصراً، وهو ما يُعرف بعقبة "الخبرة الكندية"

إن النظام المالي الحالي لا يُمكّن رواد الأعمال الجدد والمستثمرين القادمين من خارج كندا من الدخول إلى خضم الدورة الاقتصادية السائد، ولا توجد موارد كافية للقادمين الجدد بطريقة من شأنها أن تهيئهم للنجاح بمجرد استقرارهم في كندا.

"الخبرة الكندية" وشهاداتها

أما بخصوص العمل والوظائف، فلا يُمكن للوافد الجديد العمل في كندا في مجال تخصصه بسبب الحاجة إلى معادلة شهادته وقبولها، وبسبب المطالبة بأن يكون لديه خبرة مُسبقة في سوق العمل الكندي حصراً، وهو ما يُعرف بعقبة «الخبرة الكندية» Canadian experience، ومهما تمتّعَ الوافد بالخبرة في بلده الأم فإن ذلك لا يعني إمكان حصوله على فرصة للعمل في كندا، فالعوائق كثيرة.

أ.ف.ب.
خيم لمهاجرين غير شرعين في حديقة عامة في تورونتو، كندا، 7 يونيو 2021.

تبدأ تلك العوائق بضرورة اتقان اللغة الفرنسية أو الإنكليزية (وفقاً للوجهة والمدينة المقصود السفر إليها في كندا)، وهناك ضرورة الحصول على التراخيص والتصاريح الكندية لمزاولة المهن، أو أن يحمل شهادات علمية من كندا تحديدا، وغيرها من العوائق. وليس سهلاً إتاحة الفرصة للمستجدين، مما يترك المجال فقط للعمل في المطاعم والمقاهي والمتاجر والسوبرماركت والمستودعات ومحطات البنزين، والأعمال التي تحتاج إلى مجهود عضلي.

لا تعترف كندا بالشهادات الأجنبية في العديد من التخصصات التي تحتاجها بشدة، مثل الرعاية الصحية والهندسة والتكنولوجيا، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل 17.5 في المئة من المهاجرين ذوي المهارات العالية الذين يستقرون في كندا (كثير منهم من المستثمرين ورجال الأعمال) يميلون إلى الهجرة في غضون 20 عاماً من الوصول، وفقاً لهيئة الإحصاء الكندية.

اختلافات للأجور ومعظمها للإيجارات

وحتى لو كان هناك فرص عمل، فإن أرباب الأعمال لا يخاطرون بتوظيف من ليس لهم حقّ العمل، وفي حال وافقوا على توظيفهم بشكل غير مشروع، فسوف يتعرض هؤلاء العاملون إلى أسوأ أساليب الاستغلال وأبشعها، عبر تلقّيهم راتباً أدنى من الحدّ القانوني، وحرمانهم من أي تأمين صحي أو رعاية في حال تعرضهم لحادث عمل. وللأسف، هناك من انتهى الوضع بهم يبحثون عن مأوى يقيهم الثلج والعواصف، وعن لقمة تسدّ رمقهم، وبعضهم أصبح وضعه خارج القانون.

مسار الضرائب في كندا يتصاعد، وقد تصل إلى نسبة 50% للعائلة التي يزيد دخلها على 150 ألف دولار كندي سنوياً

يختلف الحد الأدنى للأجور بين المقاطعات الكندية، وهو يتراوح بين 14 دولاراً كندياً و19دولاراً في الساعة، تُقتطع منه نسبة كبيرة من الضرائب. وفي كندا فإن الضرائب تصاعدية، وقد تصل إلى نسبة 50 في المئة للعائلة التي يزيد دخلها على 150 ألف دولار كندي سنوياً.

لكن حتى في حالة راتب الحد الأدنى، يذهب أكثر من 30 في المئة إلى 50في المئة منه لدفع الإيجارات السكنية المرتفعة للغاية. ويُعتبر التشرد هاجسا مستشريا يؤرّق أصحاب الدخل المنخفض في المدن الكبرى. 

وفي المتوسط، هناك حاجة إلى نحو 60 في المئة من دخل الأسرة في كندا لتغطية تكاليف ملكية المنازل، وهو رقم يرتفع إلى نحو 98 في المئة في فانكوفر و80 في المئة في تورونتو، حسبما ذكر تقرير رويال بنك أوف كندا Royal Bank of Canada (RBC) في تقرير في أيلول 2023.

ولإزالة الفجوة بين الطلب والعرض في أزمة السكن، فإن كندا ستحتاج إلى بناء 1.3 مليون منزل إضافي بحلول عام 2030، أي نحو 181.000 منزل إضافي سنوياً مما يتم بناؤه حالياً، بحسب ما صرّح المسؤول البرلماني عن الموازنة.

وتفيد أحدث استطلاع للرأي أجراه معهد "أنجوس ريد" (Angus Reid Institute)، فإن نحو اثنين من كل خمسة مهاجرين يفكرون جديا في مغادرة المقاطعة حيث إقامتهم بسبب عدم قدرتهم على تحمل تكاليف السكن.

مشكلة النظام الصحي السيئ مستعصية، حيث فترات الانتظار تمتد إلى أسابيع وأشهر أحياناً للحصول على الخدمة الطبية، ويستلزم التحويل إلى طبيب متخصص أن يكون لديك طبيب عائلة

طبعاً، هناك أيضاً تكلفة الكهرباء والماء والتدفئة والهاتف والمواصلات (شراء السيارة ومستلزماتها وبوليصة التأمين مكلفة للغاية)، ناهيك عن الاحتياجات الشخصية من ملبس ومأكل وخلافه، وقد تسببت الزيادة العالية في تكاليف المعيشة بصعوبة في توفير الضروريات الأساسية.

النظام الصحي الكندي السيئ

وبالنسبة للمتقاعدين هناك من لا يستطيع أن يرى نفسه يحافظ على مستوى معيشته في كندا من دخل تقاعده. كما أن عدداً من المهاجرين الذين عجزوا عن العمل في السوق الكندي يجدون أنفسهم يعيشون من دون راتب تقاعدي، أو يعيشون على الحد الأدنى تماماً، وهو بالكاد يكفي لإيجار غرفة، ناهيك عن تأمين لقمة طيبة أو حياة كريمة.

أ.ف.ب.
عاملة اجتماعية في برنامج التوعية العقلية لرعاية المتشردين، تتحدث مع عميل خارج مستشفى في أوشاوا، أونتاريو، كندا، 5 أبريل 2024.

أما الحصول على المساعدات الاجتماعية فدون ذلك إجراءات وصعوبات، أو سلسلة لا تنتهي من الاضطرار إلى اللجوء إلى التلاعب والكذب والتزوير للحصول على المساعدة الشهرية، وفي النهاية هي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع!

وهناك أيضاً مشكلة النظام الصحي السيئ، حيث فترات الانتظار تمتد إلى أسابيع وأشهر أحياناً للحصول على الخدمة الطبية، وحيث يستلزم التحويل إلى طبيب متخصص، أن يكون لديك طبيب عائلة Family Doctor يحتفظ بسجلاتك ويقوم بتحويلك إلى الأطباء المختصين وطلب الفحوص المخبرية وفحوص الأشعة اللازمة ووصف الأدوية وغيرها. ويتطلب الأمر سنوات أحياناً لكي يُصار إلى تعيين طبيب عائلة لك. لذلك ترى العديد من الأشخاص يُغادرون كندا للعلاج خارجها لخطورة وضعهم وعدم قدرتهم على الانتظار. 

المناهج التربوية والمفاهيم الاجتماعية

وهناك مشاكل أخرى تتعلق بالمناهج التربوية وإدخال مفاهيم اجتماعية وجنسية وغيرها مما ترفضه ولا تتقبله المجتمعات الإسلامية والعربية لتربية الأبناء، خصوصا مع اتساع فجوة التقاليد والأعراف والفروقات الدينية والثقافية والقيمية الكبيرة بين البلدان الأصلية للمهاجرين وبلد المهجر، وكذلك مشكلة تعلم الأولاد اللغة الأم.

ثمة مشاكل أخرى تتعلق بالمناهج التربوية وإدخال مفاهيم اجتماعية وجنسية وغيرها مما ترفضه ولا تتقبله المجتمعات الإسلامية والعربية لتربية الأبناء

ناهيك عن مشاكل تتعلق بصعوبة التأكد من الأصناف الاستهلاكية المعروضة في السوق فيما إذا كانت حلالاً أم لا. كذلك هناك مشكلة الحظر والتضييق على لبس الحجاب، وغيرها من الأمور التي تهم المسلمين. وهناك مسألة التأقلم مع المناخ القاسي والكآبة التي يسببها، ومشكلة القلق وضغوط الحياة، وعدم وجود عائلة أو سند أو دعم اجتماعي كما هو في البلاد العربية..

أيضاً فإن ارتفاع تكاليف السفر يجعل صعباً (وللبعض مستحيلاً) السفر لزيارة عائلاتهم في بلد المنشأ للاطمئنان عليهم أو المشاركة في أفراحهم وأتراحهم، ويتمّ الاكتفاء بالتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

بطء الإجراءات الحكومية

كما أن الأمور الإجرائية والإدارية الحكومية تتم ببطء شديد. مثلا معاناة الحصول على رخصة قيادة سيارة لا توصف، سواء تعلمت القيادة في كندا أو رغبت في استبدال رخصة القيادة التي تحملها من بلدك. مثل آخر، بعد استكمالك شروط الحصول على الجنسية عليك أن تنتظر فترة طويلة لتعيين موعد في المحكمة لإصدار حكم بمنحك الجنسية الكندية، وبعدها الانتظار فترة طويلة أخرى للحصول على جواز السفر الكندي. 

غتي
مسافران في محطة المغادرة في مطار مونتريال الدولي، كندا، 10 سبتمبر 2024.

وهناك مشاكل خاصة وفقاً للمقاطعات الكندية، وعلى سبيل المثل لا الحصر، في مقاطعة كيبيك هناك مشكلة التضييق على استعمال اللغة الإنكليزية (خلافاً للدستور الكندي)، ومشكلة التمييز العنصري تجاه "الأغراب".

 أضف إليها مشكلة فرض نظم قيم مختلفة بين الحين والآخر لإجبار الوافد على اعتناق نظام قيم جديد، أو عند التقدم للاستفادة من خدمات معينة.

في الصحافة عموما يصف المعلقون والمحللون السياسيون غالباً أهداف الهجرة في كندا بأنها "عدوانية"، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن كندا تعتمد على الهجرة الاقتصادية لسد النقص في العمالة وزيادة عدد سكانها

وما يزيد الطين بلّة، أنه ليس مطروحاً في المنظور القريب أي خطط جدّية حكومية (لا على صعيد المقاطعة ولا على الصعيد الفيديرالي) لمعالجة هذه المشاكل والصعوبات!

في عام 2022، صنفت استطلاعات الرأي دعم الهجرة في كندا عند أعلى مستوى له على الإطلاق. ومع ذلك، بحلول خريف العام التالي، كانت مجموعة من مؤسسات جمع البيانات (نانوس، إنفايرونيكس، ليجر، أباكوس) تفيد بأن ما يزيد على 40 في المئة من الكنديين يشعرون بأن البلاد تقبل عدداً كبيراً جداً من المهاجرين.

أ.ف.ب.

في الصحافة ومنافذ الأخبار مثل CTV وBBC وForbes وCIC News، يصف المعلقون والمحللون السياسيون غالباً أهداف الهجرة في كندا بأنها «عدوانية»، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن كندا تعتمد على الهجرة الاقتصادية لسد النقص في العمالة وزيادة عدد سكانها.

لقد أصبح من المعتاد أن الأشخاص الذين لديهم خيارات أخرى، إما أن يذهبوا إلى بلد آخر أو يعودوا إلى ديارهم بعدما فشلوا في التأقلم مع الوضع في كندا، ومن هنا نرى ازدياد موجة الهجرة المعاكسة من كندا، وتنامي حلم العودة الى الوطن.

font change

مقالات ذات صلة