15 عاما على رحيلها... بديعة حداد مدربة صوت فيروز وماجدة الرومي

عملت بصمت ورافقت مسيرة عشرات المغنين

facebook
facebook
بديعة صبرا تنال وسام الاستحقاق اللبناني في 4 أكتوبر 1986.

15 عاما على رحيلها... بديعة حداد مدربة صوت فيروز وماجدة الرومي

في حصة الحنجرة ووتر الصوت اسم علم هو بديعة صبرا حداد (1923-2009) التي "شالت من حنجرتها وترا وصبغت به حناجر أجيال من طلاب الغناء الأوبرالي" وفقا لما ذكرته الأديبة والصحافية الراحلة مي منسى في كلمة ألقتها خلال حفل منح حداد وأستاذ الموسيقى الراحل إسطفان دميان وسام الاستحقاق اللبناني، ونشرته جريدة "النهار" في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1986.

نتناول اليوم "صانعة الأصوات" بديعة حداد في الذكرى 15 لرحيلها، في محاولة لكسر الغبن الذي طاول المسيرة الفريدة لـ"مدام بديعة" كما كان يناديها طلابها، ومنهم على سبيل المثل لا الحصر فيروز وماجدة الرومي وغسان صليبا وسواهم، وصولا الى مغنين أوبراليين شقوا دربهم إلى العالمية على غرار الباريتون غربيس بوياجيان الذي قدم حفلات غنائية في أوبرا متروبوليتان في نيويورك والسوبرانو سونيا غزاريان، التي بقيت لأعوام عدة الرقم الصعب في الغناء الأوبرالي في فيينا.

نرصد مشاعر الفرح في نبرة صوت الميزو سوبرانو لينا كورجيان خلال حديثنا معها عن بديعة حداد في اتصال هاتفي في مقر إقامتها في سويسرا، مشيرة إلى أنها واكبت معها التحضيرات لامتحان الدخول إلى جامعة الموسيقى والفنون الأدائية في فيينا، والتي حازت فرصة الالتحاق بها.

تقول: "أذكر مدام بديعة في كل مرة أقف فيها وراء الكواليس"، وقد أصبحت هذه عادة لديها قبل الصعود إلى مسارح عريقة في فيينا وزيوريخ وألمانيا كمغنية أوبرالية رئيسية في عروض متنوعة شملت دورا في "مدام باترفلاي" لبوتشيني.

على خطى أبيها

"بديعة حداد امرأة أتقنت إرادة التمرد في مسيرتها ولا سيما من خلال تمرسها في تدريب الأصوات"، يقول الباريتون فادي جنبرت، المنكب على تنسيق أرشيف حداد منذ وقت طويل، بعدما أودعه إياه السيد بسام حداد، ابن شقيق المربي ميشال حداد، زوج السيدة بديعة.

كانت فيروز تتردد حتى مطلع ثمانينات القرن الماضي الى منزل ميشال ووديعة حداد لتمرين صوتها

يتحدّث جنبرت لـ"المجلة" عن بديعة حداد، المولودة لعائلة الأشقر، قبل أن يتبناها وديع صبرا مؤسس الكونسرفتوار الوطني اللبناني وزوجته أديل مسك، بوقائع مأهولة بخيوط حناجر الأصوات وروعة الكلمة الموشاة بذكريات محفورة من أرشيف مدام بديعة.

يختصر جنبرت بدايات بديعة، التي انتقلت من بلدتها قرنايل في قضاء بعبدا بجبل لبنان، إلى منزل صبرا في زقاق البلاط في العاصمة بيروت، بداية كمدبرة منزلية ثم كتلميذة مواظبة على طلب العلم في الكونسرفتوار.

يكشف جنبرت أن دراسة حداد المتقدمة للأوبرا في إيطاليا عام 1954 ساهمت في صقل مهاراتها، التي برزت في حفلات غنائية عدة في بيروت، ومنها تأديتها دور  فيوليتا في أوبرا "لا ترافياتا" لفيردي في العام 1956 في حضور رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون، إضافة إلى أن حنجرتها ارتقت من خلال أدائها ثلاث مقطوعات موسيقية من تلحين والدها وديع صبرا، هي "ذكرى الأم" من كلمات الشاعر الراحل شبلي الملاط، و"أمنا الأرض" من كلمات الشاعر الراحل رشدي المعلوف، و"ماذا؟ انتهى كلُّ شيّ؟" للشاعر الراحل سعيد عقل.

صانعة الأصوات

يتوقف جنبرت عند وقائع حوار أجرته يوما الزميلة بسكال الشمالي على شاشة تلفزيون لبنان مع بديعة حداد، وفيه أكدت الأثر العميق الذي تركه وديع صبرا في حياة بديعة، كاشفا أن السيدة فيروز، وفقا لشهادات عدة، كانت تتردد حتى مطلع ثمانينات القرن الماضي الى منزل ميشال ووديعة حداد في منطقة بدارو ببيروت لتمرين صوتها.

Anwar AMRO - AFP
فيروز تغني على "مسرح بلايا" في ساحل علما، شمال بيروت.

وكانت الست بديعة كرست حياتها للتعليم وتدريب الأصوات في كل من الكونسرفتوار الوطني ومعهد الموسيقى في جامعة "الروح القدس"،  الكسليك، في قضاء كسروان، ليولد من خلال هذه الجهود الجبارة "طيف واسع ضم أسماء تصدرت المشهد الغنائي بامتياز، ومن هؤلاء الميزو سوبرانو مارو برتاميان  في دار أوبرا فيينا في النمسا، والسوبرانو سيلفا بدويان المتنقلة بين دور الأوبرا في كل من نيويورك وفيينا، والتينور رولان غطاس، والسوبرانو جردا إيف غروسوب ذات الغناء المبدع في الأوركسترا السمفونية في نيويورك، فضلا عن عملها الدؤوب على تمرين أصوات كل من ماري نقور محفوض وجوليا بطرس وغادة شبير وفؤاد فاضل ورونزا وفاديا طنب الحاج وإدغار عون والأخت ماري كيروز وجمانة مدور وماري دياب يمين ورندة غصوب وسواهم.

دفعتني إلى أن أتوق إلى العلم والمعرفة دون كلل، لأنهما شكلا نقطة ارتكاز في تحقيق طموحاتها

ماري محفوض

تذكر مدربة الصوت ماري نقور محفوض في اتصال مع "المجلة" أن "الست بديعة، التي لم ترزق بأطفال، عاشت أمومتها مع طلابها، مما دفعها الى منحهم كل وقتها"، لافتة إلى أنها "لم تكن تلتزم الوقت المحدد للحصة التدريبية على تمرين الصوت إن في منزلها في بدارو أو في بلدة غوسطا الكسروانية، والذي شرعته لي ولكثيرين أثناء الحرب المجنونة على لبنان".

ماذا أضافت مدام بديعة إلى حياتها؟ الجواب بسيط، وفقا لمحفوض: "دفعتني إلى أن أتوق إلى العلم والمعرفة دون كلل، لأنهما شكلا نقطة ارتكاز في تحقيق طموحاتها دون شك".

عطاء بلا حدود

ماذا عن تجربة الكونسرفتوار؟ تشير المعلومات وفقا لما ينقله جنبرت عن أرشيف بديعة حداد، مضمون إفادة من المعهد المذكور موقّعة من مديره بالتكليف الدكتور أنطوان حبيقة أن"بديعة يوسف الأشقر حداد توقفت عن العمل بتاريخ 27/6/1987 برتبة معلم قمة، مع العلم أنها تولّت تدريس مواد السولفيج والغناء الغربي والأوبرا، وقد كلفت رئاسة فرع الغناء منذ السنة الدراسية 1973/1974 حتى بلوغها السن القانونية للتقاعد".  

facebook
بديعة صبرا حداد خلال صف تدريبي، في منزلها في بدارو.

ويلفت المسؤول عن أرشيف طلاب الكونسرفتوار ميشال سمعان، الذي كان يشغل مسؤولية ناظر المعهد خلال فترة تعليم السيدة بديعة في المعهد وقبلها، في حديث الى "المجلة"، إلى أنها "كانت تتميز باندفاع لافت للتعليم الى درجة أنها لم تتغيب يوما عن أي حصة، إضافة إلى أنها اتسمت بالشفافية في الكشف دون أي قيود عن مهارات تمرين الصوت".

يتوقف سمعان عند حرصها على تنظيم أمسيات موسيقية لطلاب المعهد، يتخللها غناء غربي، وهذا ما تناولت تفاصيله الصحافية الراحلة مي منسى في جريدة "النهار" في 28/3/1983 خلال وصفها حفلا شهدته في الكونسرفتوار.

قبل توجهها لإعطاء حصة لطلابها في الكونسرفتوار، جسدت الفنانة القديرة رونزا (اسمها الحقيقي عايدة طنب) في كلامها لـ"المجلة" أهمية "مدام بديعة"، مشيرة إلى أنها "رسخت معرفتي في الدراسة الأوبرالية والريبرتوار الكلاسيكي". تتذكر: "طلب الأستاذان عاصي ومنصور رحباني من مدير الكونسرفتوار آنذاك الأب يوسف الخوري أن أتابع أنا وشقيقتي فاديا حصصا غنائية غربية في المعهد، وهناك ثابرنا على تمرين أصواتنا مع امرأة تمدحنا عند الضرورة، وتنتقدنا بحسم عندما لا نكون على قدر توقعاتها".

ثابرنا على تمرين أصواتنا مع امرأة تمدحنا عند الضرورة، وتنتقدنا بحسم عندما لا نكون على قدر توقعاتها 

رونزا

وتشير رونزا إلى أن "مدام بديعة كانت تحضر عروض بعض مسرحياتي لتنوه بتطور صوتي وتدخل بتفاصيل محددة في هذا السياق".   

في الانتقال إلى تجربة السيدة بديعة حداد في معهد الموسيقى في جامعة "الروح القدس" في الكسليك، يقول الأب بديع الحاج، عميد كلية الموسيقى في الجامعة سابقا وأحد طلاب مدام بديعة لـ"المجلة" إن "الست بديعة هي صورة للمرأة الكلاسيكية من حيث شكلها، وتسريحة شعرها وأسلوبها في اختيار ملابسها، التي تعكس من خلالها الحقبة الموسيقية المجسدة فيها، مع ما رافق ذلك من صورة للمعلمة الحازمة والمحبة"، موضحا أنها "من الناحية الموسيقية، علمتنا الإلقاء وإخراج الصوت، مع ما يرافق ذلك من تحولات، أهمها إيصال الكلمة الى الآخرين بطريقة واضحة، غناء أو صوتا".

يضيف: "كانت تعيش في الظل، وتدير أي حفلة موسيقية بالخفاء عن الجمهور وهي جالسة بين الحضور، ولا يتعرف اليها الناس الا عندما يصر طلابها على صعودها إلى المسرح".  

يتشابك كلام الأب الحاج مع حديث المغنية الكندية اللبنانية رنده غضوب، التي عبرت في رسالة عابقة بالحب والشوق عن تجربتها مع مدام بديعة، التي كانت تبذل جهدها في بداية كل حصة لإقناعها بالعزوف عن ولعها بموسيقى الجاز، بحجة أنها ترى فيها مغنية ميزو سوبرانو واعدة.

font change

مقالات ذات صلة