جنبلاط في دمشق: فتح صفحة علاقات الدولhttps://www.majalla.com/node/323582/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%B7-%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82-%D9%81%D8%AA%D8%AD-%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84
زيارة وليد جنبلاط المحملة بالرموز إلى دمشق، بعد نحو اسبوعين من سقوط نظام الأسد، تستحق أن توضع في إطار العلاقات الطويلة، ليس بين الموحدين الدروز وعاصمة "بلاد الشام" فحسب، بل أيضا في سياق تصور الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين لدورهم في المنطقة وما يجب أن يكون عليه مستقبلهم، وكيفية تصحيح خلل فرضه النظام السوري السابق على العلاقة.
الأقليات أكثر حساسية من غيرها في تلمس مواطن الخطر ومصادر التغيير. كرّس وليد جنبلاط هذه المقولة وحولها إلى ما يشبه البداهة، حيث جلبت له التغيرات المفاجئة في مواقفه انتقادات الحلفاء قبل الخصوم. فليست قليلة لائحة المواقف التي انتقل فيها من ضفة الى ضفة وأن ظل منتظرا مرور جثث اعدائه في النهر. ويشكل الماضي بالنسبة للدروز ولوليد جنبلاط درسا مريرا من النكسات القابلة للتكرار في حال الغفلة. وإعدام الزعامات الدرزية في أعقاب حرب 1860 الأهلية في الجبل، على الرغم من انتصار الدروز الميداني فيها، جاء نتيجة عدم إدراك آل جنبلاط والدروز عموما أن الأتراك لا يستطيعون الوقوف في وجه المد الغربي الذي تتقدمه الحملة الفرنسية الرامية إلى إقامة حكم المتصرفية في جبل لبنان.
أما اغتيال أجهزة الاستخبارات السورية لكمال جنبلاط في مارس/آذار 1977، فكان لإفهام الدروز أنهم أضعف من أن يقودوا المسلمين في لبنان، حتى لو تحالف كمال جنبلاط مع ياسر عرفات زعيم "منظمة التحرير الفلسطينية" وحتى لو كان جنبلاط قائدا لليسار اللبناني وحركته الوطنية. في الصيغة المعدلة من الحديث الطويل الذي اجراه كمال جنبلاط قبل اغتياله بشهور وصدر بعنوان "من اجل لبنان" (صدرت صيغة مخففة بعنوان "هذه وصيتي" بعد مصرع جنبلاط)، لا يخفي تقييمه شديد السلبية لآل الأسد وحكمهم. وكان واضحا ان الرجل يعرف ان حافظ الاسد واخيه رفعت لن يبقيا عليه حيا، بعدما رفض اي دور سياسي لهما في لبنان اثناء زيارته الاخيرة الى دمشق في ابريل/ نيسان 1976.
يتعين التذكير هنا أن أحد أسباب التباعد القديم والمتجدد بين دروز لبنان ودروز إسرائيل على سبيل المثال، هو رفض الزعامة الجنبلاطية أن يكون ولاء الدروز لدولة غير عربية
لكن، في نهاية المطاف، اقتلع السوريون نظام الأسد واستقبلوا وليد جنبلاط استقبال الفاتحين وهو الذي سار في طريق معقد من العداء والولاء للنظام المخلوع، فرضته عليه أحوال الصراعات الطائفية والسياسية في لبنان. فمنذ استلم الزعامة الجنبلاطية، ظل تحت تهديد صريح من حافظ الأسد بالاغتيال مثلما اغتيل أبوه. كما أن حاجته إلى السلاح والإمداد أثناء حرب الجبل في 1983، جعلته في صف الموالين للحكم السوري وصولا إلى "اتفاق الطائف" والصيغة التي رست عليها نهاية الحروب اللبنانية في 1990.
المهم في هذا المجال تذكر أن الموحدين الدروز، كما يحبون أن يسموا أنفسهم، حريصون على البقاء ضمن الصف العربي. وفي كل أعمال مؤرخيهم، تبرز صورة الطائفة المدافعة عن الداخل العربي وغير المنفصلة عن الانتماء العربي على الرغم من الاختلاف المذهبي. بل إن "التمرد المديد" الذي قام به الدروز بين القرنين السادس عشر والثامن عشر ضد الدولة العثمانية (والمصطلح للمؤرخ الراحل عبد الرحيم أبو حسين) رمى إلى الحفاظ على قدر من الاستقلال عن حكم الولاة الأتراك في دمشق حيث كان يرى الدروز انهم هم الاصحاب الحقيقيون للارض وليس العثمانيين.
ويتعين التذكير هنا أن أحد أسباب التباعد القديم والمتجدد بين دروز لبنان ودروز إسرائيل على سبيل المثال، هو رفض الزعامة الجنبلاطية أن يكون ولاء الدروز لدولة غير عربية. وهذا ملف يعاد فتحه وإغلاقه كلما حصل تغير في خريطة المنطقة حيث يدور الحديث عن دروز إسرائيل كنموذج لما يجب أن تكون عليه علاقات الأقلية الدرزية مع دولة الاحتلال في الجولان أو غيرها. وهو ما لا يوافق جنبلاط عليه.
فالرؤية الدرزية العامة تصدر عن اعتبار هذه الطائفة جزءا لا يتجزأ من المنطقة. وفي كل حدث كبير شهدته سوريا أو لبنان، كان للدروز دور فيه. وتحضر ثورة سلطان باشا الأطرش ضد الانتداب الفرنسي التي كانت ذروة الثورة السورية الكبرى في 1925 لرفض خطط الاستعمار الفرنسي بتقسيم البلاد الى دويلات طائفية بعد إزالة المملكة العربية وإبعاد فيصل الأول إلى العراق. ولم تكن العلاقات خلال سنوات الاستقلال الأولى سهلة بين الدروز ودمشق، وشخصيات مثل شبلي العيسمي في قيادة حزب "البعث" وسليم الحاطوم في قيادة الجيش السوري، شكلت– إلى جانب شخصيات من أطياف ومكونات أخرى- تذكيرا بتعدد الهوية السورية وتنوعها.
في الوقت الذي تتصاعد فيه أصوات متسائلة عن مستقبل العلاقات الداخلية السورية واللبنانية، بدا أن وليد جنبلاط أمسك بدور الممثل الأوسع شعبية وشرعية للدروز
يضاف إلى ذلك أن لائحة الانعطافات التي قام جنبلاط بها منذ خروجه الشهير من قوى "14 آذار" في 2009، لتجنب الصدام مع "حزب الله"، وصولا إلى لقائه بشار الأسد في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، حيث ظلت سلامة الطائفة الدرزية هي الهاجس المسيطر في الوقت الذي كانت قوى سياسية كبيرة تتخذ مواقعها على خريطة الاصطدام. وحافظ جنبلاط على سياسة الحياد الإيجابي إذا صح التعبير بعدم الانخراط في اقتتال دموي مع أي من الأطراف المهيمنة إدراكا منه إلى أن حجم الطائفة لا يساعدها على تغيير موازين القوى، من دون أن يخفي مواقفه السياسية التي ظلت معارضة للنفوذ السوري والتمدد الإيراني.
بالعودة إلى زيارة جنبلاط، وفي عالم المكونات المشرقية وعلاقات الطوائف والجماعات التي تستعين بالتاريخ لتحديد مواقعها في الحاضر، وفي الوقت الذي تتصاعد فيه أصوات متسائلة عن مستقبل العلاقات الداخلية السورية واللبنانية، بدا أن وليد جنبلاط أمسك بدور الممثل الأوسع شعبية وشرعية للدروز، وجاء بصفته هذه إلى دمشق ليعلن طي صفحة خطيرة مما سمي "تحالف الأقليات" اندفع بعض المسيحيين والشيعة والدروز إلى الرهان عليه كمحاولة صبيانية للتلاعب بالوضع في الشرق الاوسط.
وبذلك، تكون الزيارة في سياق تطبيع الوضع القائم وإعادة بناء علاقات سليمة بين كافة المكونات تضمن للجميع الحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية التي لم يعد من مجال للمغامرة بها من جديد، وبحيث تكون الدولتان اللبنانية والسورية هما من يرسم العلاقات والمصالح وليست امزجة الافراد والمستبدين.