تتطلع اقتصادات دول شمال أفريقيا إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة في الناتج المحلي الإجمالي تتجاوز 4 في المئة في عام 2025، في مقابل 3,2 في المئة في الاقتصاد العالمي، مدعومة بموازنات ضخمة للانفاق على التنمية وبرامج الدولة الاجتماعية في الصحة والتعليم والدعم المباشر والأجور، وحزمة من الإصلاحات والتدابير لزيادة الإيرادات وتحسين المؤشرات الماكرو اقتصادية وخفض التضخم والمديونية.
لكن بلوغ هذه الأهداف رهن بوقف الحروب والنزاعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا وإسكات المدافع في كل مناطق الصراع، وعودة الانتعاش إلى الاقتصاد العالمي، واستقرار أسواق المواد الأولية والطاقة والتجارة، وانتظام الأمطار وزيادة الإنتاج الزراعي لمواجهة تحديات الأمن الغذائي.
اقتصادات غير منسجمة سياسيا
هناك إجماع على أن المنطقة المغاربية غير منسجمة اقتصاديا بسبب خلافاتها السياسية المعقدة، لذلك فإن حجم النمو المرتقب يتوقف أساسا على طبيعة الإصلاحات الداخلية أكثر منه التداعيات الخارجية. ويعتقد محللون "أن العمل بشكل منفرد بعيدا عن التكامل الإقليمي، يُضعف فرص التقدم ويُضيع على المنطقة من 2 إلى 3 في المئة من النمو السنوي".
قد تستفيد الدول المستوردة للطاقة مثل المغرب وتونس، والتي تتراوح مديونيتها بين 70 و80% من الناتج المحلي، من انخفاض الأسعار العالمية ومن تنوع مصادر الدخل بالاعتماد على قطاعات ذات قيمة مضافة
وعلى الرغم من ارتفاع حظوظ الدول المصدرة للنفط في تحقيق معدلات نمو قوية بفضل صادرات الطاقة، إلا أن "غياب الإصلاحات الضرورية يقلص فرص تحويل الإيرادات إلى تنمية شاملة"، وقد لا ينعكس النمو المرتفع على سوق العمل والبطالة والأسعار والمديونية، وفق صندوق النقد الدولي.
العجز والمديونية معضلتان متداخلتان
تعتبر موازنة الجزائر، الكبرى من حيث القيمة، بمبلغ 126 مليار دولار، لكنها تعاني من عجز يُقدّر بـ62 مليار دولار. وقال وزير المالية لعزيز فايد "إن المديونية ستبلغ 17 تريليون دينار (نحو 127 مليار دولار) عام 2025، ما يمثل 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي". وعلى الرغم من أنها مستحقة في معظمها لمؤسسات مالية أو صناديق سيادية محلية، إلا أنها تضع عبئا متزايدا على المالية العامة، بعد تراجع إيرادات النفط والغاز نحو 16 في المئة عام 2023 حيث بلغت 50 مليار دولار.
وخلال الشهور التسعة الأولى من 2024، قدرت إيرادات النفط والغاز بـ34 مليار دولار وفق "بلومبرغ"، نظرا الى عدم استقرار الأسعار في السوق الدولية نتيجة الحروب والأزمات. وتعتمد الموازنة على إيرادات النفط والغاز بنسبة 60 في المئة، إلا أن هذه العائدات لم تعد قادرة على تغطية الدين العام والعجز المالي المقدر بـ21,7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
أهمية تنوع مصادر الدخل في المغرب وتونس
في المقابل، قد تستفيد الدول المستوردة للطاقة مثل المغرب وتونس، والتي تتراوح مديونيتها من 70 إلى 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، من انخفاض الأسعار الدولية ومن تنوع مصادر الدخل بالاعتماد على قطاعات ذات فائض قيمة مرتفعة، غير مرتبطة بالتطورات الجيوسياسية، مثل الصناعات والطاقات المتجددة والخدمات. لكن في الجانب الاجتماعي، يبقى حجم الإنتاج الزراعي حاسما في التعافي الاقتصادي والعمل، مما يرفع معدلات البطالة في هذه الدول بسبب تأثير التغيرات المناخية، كون الزراعة لا تزال تمثل نحو 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في البلدين.
وتفضل المؤسسات الدولية صيغة تعدد الدخل في اقتصاد المغرب، الذي أصبحت الصناعة تمثل 28 في المئة من ناتجه المحلي، مما ساعد في تجاوز بعض الصعوبات المناخية والأزمات الدولية، وحافظت معدلات النمو على وتيرة شبه مستقرة بين 3 و4 في المئة، بإطلاق إصلاحات سياسية واقتصادية مبكرا.
وتتوقع الموازنة المغربية نموا بـ4,6 في المئة ومعدل تضخم 2 في المئة والعجز 3,5 في المئة السنة المقبلة. وسجل النمو 3,4 في المئة في 2024.
قد تسجل الموازنة الجزائرية عجزا تاريخيا يمثل 22% من الناتج، والإيرادات المتوقعة ستكون في حدود 64 مليار دولار بزيادة 1,9% في صادرات الطاقة
وتتوقع تونس تحقيق نمو بـ3,2 في المئة في 2025، في مقابل 1,6 في المئة عام 2024، وزيادة في الإيرادات بـ5,7 في المئة على أساس برميل نفط بسعر 77 دولارا. وهي تحتاج إلى تمويلات بقيمة 28 مليار دينار (8,83 مليارات دولار)، منها 22 مليار دينار (6,94 مليارات دولار) من السوق المالية المحلية، "مما يشكل ضغطا وإرهاقا للقطاع المصرفي بسبب إقراض الحكومة المتكرر". وتقدر خدمة الدين العام بنحو 6 مليارات دولار منها 3,2 مليارات دولار ديونا داخلية، و2,72 مليار دولار ديونا خارجية.
موازنات مغاربية بـ253 مليار دولار في 2025
رصدت دول المغرب العربي موازنات ضخمة لعام 2025 بلغت قيمتها، بحسب سعر الصرف، نحو 253 مليار دولار، منها 126 مليار دولار في الجزائر، و73 مليار دولار في المغرب، و26 مليار دولار في ليبيا، ونحو 25 مليار دولار في تونس، و3 مليارات دولار في موريتانيا.
صادق مجلس الأمة في #الجزائر بالإجماع على مشروع موازنة 2025 بحجم نفقات يقدر بـ 126 مليار دولار وهو الأكبر في تاريخ البلاد، وتوقعات بتسجيل إيرادات 64 مليار دولار ليصل العجز إلى 62 مليار دولار بما يمثل 22% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع في العام المقبل#اقتصاد_الشرقpic.twitter.com/SZQaezRDre
وقد تسجل الموازنة الجزائرية عجزا تاريخيا يمثل 22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وأفاد تقرير الموازنة "إن الإيرادات المتوقعة ستكون في حدود 64 مليار دولار بزيادة 1,9 في المئة في صادرات الطاقة".
ليبيا أعلى معدلات النمو
ويقدر صندوق النقد الدولي في مراجعته السنوية "أن الجزائر تحتاج إلى سعر نفط بين 110 و119 دولارا للبرميل في وقت يتراوح السعر بين 70 و80 دولارا بحسب الطلب والمستجدات الدولية". ويرى أستاذ الاقتصاد في جامعة تيزي أوزو شرق البلاد، إبراهيم معمري، "إن الاعتماد على مصادر الطاقة يهدد إيرادات الموازنة على المدى المتوسط بسبب تقلبات الأسواق الدولية".
لولا الحرب الأهلية لتطور الاقتصاد الليبي بنسبة 68 في المئة في عقد واحد
البنك الدولي
يُتوقع أن تقود ليبيا النمو في الدول العربية والمغاربية بنسبة قد تصل إلى 13,7 في المئة، مدفوعا بعودة الإنتاج في آبار النفط شرق البلاد ورفع حالة القوة القاهرة، وتجاوز أزمة البنك المركزي في طرابلس. وارتفع إنتاج ليبيا إلى 1,5 مليون برميل يوميا في الربع الرابع من العام 2024 بزيادة نحو نصف مليون برميل يوميا، وهي تتوقع أن يبلغ الإنتاج مليوني برميل عام 2027.
لكن حكومتي ليبيا في الغرب والشرق متهمتان بضعف الحوكمة، وسوء التدبير وعدم نجاعة الإنفاق العام. وسبق لديوان المحاسبة الليبي "الكشف عن صادرات نفط بيعت في مقابل وقود، ولم تسجل في إيرادات الدولة". ووفقا لأستاذ الاقتصاد في جامعة مصراتة عبد الحميد فضيل، "ما وصل إلى خزينة الدولة هو 20 مليار دولار بدلا من 28 مليار دولار"، في تصريحات لـ"الشرق الأوسط".
وجددت بعثة الأمم المتحدة تأكيد "ضرورة تسخير الموارد النفطية لتحقيق التنمية والازدهار للشعب الليبي وضمان الاستقرار الاقتصادي والمالي للبلاد". ويمثل النفط 97 في المئة من دخل الحكومة و94 في المئة من الصادرات و60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. والمفارقة أنه على الرغم من ارتفاع إيرادات النفط، تراجع نصيب الفرد الليبي 50 في المئة عما كان عليه قبل عشر سنوات.
ويقول البنك الدولي "لولا الحرب الأهلية لتطور الاقتصاد الليبي 68 في المئة في عقد واحد".
موريتانيا تدخل نادي الدول المصدرة للغاز
في أقصى جنوب المغرب العربي تستعد موريتانيا لدخول نادي الدول المصدرة للغاز من حقل "غراند تورتو أميم" GTA، وحقل بئر الله النفطي على المحيط الأطلسي، مما سيسمح بزيادة الإيرادات بالعملة الصعبة، والمساهمة في خلق مساحة مالية تلبي احتياجات التنمية على المدى المتوسط.
تشكل موريتانيا همزة وصل، بين شمال أفريقيا ودول الساحل جنوب الصحراء، في المبادلات التجارية عبر ممر الكركرات مع المغرب، وصار وضعها الجغرافي مرغوبا أميركيا وأوروبيا في مجالات الأمن والهجرة السرية
وتوقع صندوق النقد الدولي الذي منح نواكشوط دفعة مالية بقيمة 9 ملايين دولار، أن تحقق البلاد نموا بـ4,2 في المئة، وتضخما بـ4 في المئة، وعجزا في الحساب الجاري بقيمة 960 مليون دولار العام المقبل. وتشكل موريتانيا منذ فترة، همزة وصل بين شمال أفريقيا ودول الساحل جنوب الصحراء في المبادلات التجارية عبر ممر الكركرات مع المغرب، وأصبح وضعها الجغرافي مرغوبا أميركيا وأوروبيا في مجالات الأمن والهجرة السرية ومكافحة الجريمة والإرهاب.
أزمة ثقة تدفع للتسلح والإنفاق العسكري
على عكس تجمعات اقتصادية إقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد الأوروبي، يعيش الاتحاد المغاربي أزمة ثقة متزايدة مع تراكم الخلافات والصراعات والنزاعات، التي باتت مفتوحة على كل الخيارات، مما رفع نفقات الدفاع إلى أكثر من 50 مليار دولار العام المقبل.
الحكومة المغربية تتوقع ارتفاع إنفاقها في عام 2025 بنحو 13% إلى 721.3 مليار درهم (73 مليار دولار)، بحسب مشروع موازنة 2025، فيما قدرت ارتفاع إيرادات الدولة 14.5% إلى 657.8 مليار درهم
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) October 19, 2024
ورصدت الجزائر نفقات عسكرية بقيمة 25 مليار دولار تمثل خُمس الموازنة العامة، مما يجعلها أكبر موازنة للنفقات العسكرية في مجموع شمال أفريقيا قبل المغرب ومصر. في المقابل ستحتاج الموازنة إلى تمويلات بنحو 62 مليار دولار، أي ما يوازي 21,8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لم يُفصح عن طريقة تأمينها، علما أن الحكومة رفضت اللجوء إلى الاستدانة الخارجية وقد تستخدم الاحتياطي النقدي المقدر بـ70 مليار دولار. وبلغ العجز في موازنة 2024 نحو 43 مليار دولار.
جمر تحت الرماد قابل للانفجار
بدوره، رصد المغرب في الفصل 39 من قانون المالية المقبل مبلغ 133,4 مليار درهم (نحو 13,5 مليار دولار) "لاقتناء وشراء وإصلاح معدات القوات المسلحة الملكية ودعم صناعة الدفاع". ويُقدّر إجمالي نفقات الدفاع المغربي بنحو 23 مليار دولار بهدف "تعزيز القدرات العسكرية للمملكة المغربية بما يشمل اقتناء طائرات جد متطورة وأنظمة دفاع جوي حديثة". ولا تنظر المؤسسات الدولية بعين الرضا إلى سباق التسلح في المنطقة وزعزعة الاستقرار الإقليمي في وقت يحتاج الفضاء المغاربي إلى تفاهم واستقرار وتنمية شاملة.
ان الصراعات، السياسية والاقتصادية، بين دول جنوب البحر الأبيض المتوسط تعطل التنمية في مجموع شمال أفريقيا، وتُنذر بنزاعات عنيفة
تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" في بروكسيل
واعتبر تقرير صدر أخيرا عن "مجموعة الأزمات الدولية" في بروكسيل "أن الصراعات، السياسية والاقتصادية، بين دول جنوب البحر الأبيض المتوسط تعطل التنمية في مجموع شمال أفريقيا، وتُنذر بنزاعات عنيفة". ودعت إلى ضبط النفس ومواصلة ممارسة الضغوط الديبلوماسية لاحتواء التوترات".
وتعتقد بروكسيل "أن كل تفاقم في أوضاع شمال أفريقيا والساحل قد يؤثر سلبا على الأمن والاستقرار والإمدادات داخل الاتحاد الأوروبي"، وكل "انفلات أمني قد تكون له عواقب في مجال الهجرة السرية والاتجار بالبشر، وانتشار الجريمة العابرة للحدود". ويُنظَر إلى عودة الرئيس دونالد ترمب الى البيت الأبيض مطلع العام المقبل، كأحد الرهانات لتخفيف حدة التوترات.
اختلاف السياسات يحكم توجهات الانفاق
على الرغم من اختلاف مصادر الدخل والتوجهات الاقتصادية، تسعى موازنات العام المقبل إلى تحسين الدخل الفردي والقدرة الشرائية، عبر رصد مبالغ مهمة لدعم الأسعار، وخفض الضرائب على الدخل، والإنفاق على التنمية والبنى التحتية، وإعفاء جزء من الواردات الغذائية من أداء الرسوم الجمركية والضريبة على الاستهلاك، لكبح التضخم وحماية الأسعار. لكن نتائجها الاقتصادية والاجتماعية على المواطنين ستختلف من حكومة إلى أخرى، بحسب طبيعة المناخ السياسي-الاقتصادي والحوكمة المحلية، ومستوى الاندماج في الاقتصاد العالمي، وحجم المساهمة في التجارة الدولية.