"عن التحوّل إلى دجاجة غينيا" للمخرجة الزامبية رونجانو نيوني: جرس إنذار

المكاشفة والتضامن في مواجهة مرتكبي الاغتصاب

ملصق فيلم "عن التحوّل إلى دجاجة غينيا".

"عن التحوّل إلى دجاجة غينيا" للمخرجة الزامبية رونجانو نيوني: جرس إنذار

سبق للمخرجة الزامبية رونجانو نيوني أن لفتت الانتباه بفيلمها الروائي الأول "أنا لست ساحرة" الصادر عام 2017، لتعود بالقوة ذاتها، بل أكثر إبهارا في فيلمها الثاني "عن التحوّل إلى دجاجة غينيا" الصادر هذه السنة 2024، والذي عرض ضمن فئة "نظرة ما" في "مهرجان كان السينمائي" لهذا العام.

يمزج الفيلم في أسلوبه بين السوريالية والواقعية مع التزام السخرية السوداء على طول مسرده البصري، ومجمل الحكاية الدرامية مؤسسة على قضية الاعتداء الجنسي على القاصرات، لكن مع التستر عليها بقوة من طرف النساء أنفسهن، وهذه هي المفارقة الصارخة.

في مفتتح الفيلم، تقود شولا الصامتة سيارة في طريق ليلية وهي تلوح بزي أسود مبهرج وغرائبي، لأنها عائدة لتوها من حفلة تنكرية. تصادف في طريقها جثة على الناصية فتتوقف لتلقي نظرة عليها، ويتضح أن الجثة لعمها المدعو فريد. ببرودة، تتعامل مع الموقف الطارئ إذ تتصل بأبيها وتخبره بغير ما تأثر أو انفعال. كذلك والدها في الطرف الآخر على الهاتف، لا يبدي التعاطف المتوقع بقدر اهتمامه بالمال. تتأكد فرضية موت العم بسبب نوبة قلبية،بعد استدراجه من طرف أحد سماسرة الجنس إلى بيت دعارة في الجوار.

تنضم إلى شولا على جانب الطريق ابنة عمها نسانسا الثملة، وهي امرأة شقراء ذات ضفائر من الذرة ورموش صناعية ضخمة. فوضوية ومزعجة في آن، لكن تثير انتباهها بقدرتها الهائلة على سرد الحكايات، خاصة الصادم منها، أي ما حاول العم الميت نفسه اقترافه معها حينما كانت طفلة.

شولا الصامتة إذن، تنتمي إلى أسرة من الطبقة المتوسطة، تهيمن فيها العمات والخالات، مع أن سطوة الكلمة هي لسلطة الرجل. في الفيلم تطغى قوة العمات والجدات على فرض واقع حال غير طبيعي، نقيض للعدالة الاجتماعية، متواطئ مع تعسفات واقترافات وانتهاكات ذكور الأسرة، بل التستر الأعمى على جرائمهم البشعة المتمثلة في الاعتداء الجنسي على القاصرات. وإذ تتفرد هؤلاء النسوة الهرميات بمشرط الأحكام، فإنما يُخضعن الصوت الآخر، للشابات المتنورات، ويُرضخنهن إلى ما يعتقدنه صوابا تحت سطوة تقاليد العائلة من أجل الحفاظ على وحدتها وتوازنها.

تطغى قوة العمات والجدات على فرض واقع حال غير طبيعي، نقيض للعدالة الاجتماعية، متواطئ مع تعسفات واقترافات وانتهاكات ذكور الأسرة


الانحياز إلى الرجل

شولا، رغم أنها حداثية وقادمة من بلد أوروبي تعمل عبر اجتماعات "زووم"، ستصطدم بهذه الطقوسية النسائية المنحازة الى خطيئة الرجل والتستر على اقترافاته النكراء، فما أن تطأ بيت الجنازة تلسعها التوبيخات وتنال قسطا وافرا من إدانة سلوكها المتحضر، إذ يطلب منها وساسنا القيام بدور الطاهيات وتقديم الأكل للرجال، مع التزام الحياد.

ضمن هذه الكوميديا الاجتماعية، يتضاعف التوتر الدرامي مع الحضور الطارئ لابنة العم بوب، وهي خريجة كلية، دُعيت الى المشاركة في الحداد الصاخب، كيما تساعد في خدمة النادبات وجراح المكلومات على فقدان العم، ويتضح أنها تعاني اختلالا نفسيا، سرعان ما تغادر نحو المستشفى، ثم تؤوب لتستمر في دورها البائس ضمن دائرة الجنازة.

تتعمق برودة شولا تجاه عائلتها، فوالدها مختفٍ، وعمها مغتصب متسلسل للقاصرات، بل أرملته بالكاد تبلغ 18سنة، ولديها دزينة أطفال دون السابعة، وهي الأكثر تعرضا للتعنيف والإساءة من بين ضحاياه. بالرغم من ذلك، هي صامتة، ولا تبدي موقفا ضد ما حدث لها ولأخريات من طرف زوجها الفقيد. على النقيض من ذلك، يحاكمها جمع النسوة المتسلطات على عدم حزنها الكافي، ويهددنها بالاقصاء من التركة.

تسترجع شولا عبر ذكرياتها برنامجا تلفزيونيا للأطفال أحبته في صغرها وهو خاص بالحيوانات، بالتركيز على حلقة محدّدة، تتعلق بدجاجة غينيا، هذه التي يعمل صوتها كإنذار عند اقتراب خطر الحيوانات المفترسة، وبالتالي فزعيقها بمثابة قرع جرس الخطر لحماية الحيوانات الأخرى من وحشية الافتراس المحدق بها.

بالتركيز على هذا الطائر الذي يعيش إلى حدود عشرين عاما ويمكن أن يكون بنيا أو أحمر أو أصفر أو أسود أو أبيض، سندرك استعارة عنوان الفيلم المتطابقة مع رمزية محتواه، بل نستوعب الزي الغرائبي الذي ظهرت به شولا في مفتتح الفيلم وهي عائدة من الحفلة التنكرية، إذ هو نفسه شكل دجاجة غينيا الفانتازية.

لا ينبش الفيلم في التسلسل الهرمي لبنية الأسرة المتناقضة في زامبيا فقط، وإنما يشمل ذلك كل القارة الأفريقية ويتخطاها إلى ما هو إنساني


مجافاة المباشرة

هو فيلم مركب، يراهن على التعقيد، يجافي المباشرة وينتصر لطرائق غير تقليدية في لغته البصرية، وعلامات إرساليته ما في مبنى المعنى، فليس إنكار تاريخ العنف الجنسي للعم فريد ما تكرس الطقوس استهدافه، وإنما إدانة سلوك النساء الهرمي في تقاليد العائلة الذكورية، الساعي إلى التستر على الجريمة الجنسية في حق القاصرات من جهة، ومن جهة إدانة هذا التواطؤ المكرس للاختلال الاجتماعي بدعوى الحفاظ على وحدة العائلة واستمرارها.

من أجل هذه الوحدة المزعومة، تتحول الجنازة نفسها إلى حفلة تنكرية، بالتحريض على حجب الماضي الأسود بقناع الحاضر المخادع، من أجل استشراف الآتي بأيما طريقة موهومة تصون التناغم الاجتماعي المهزوز.

في هذا المحفل الاجتماعي المشوه، تتصادم الحقائق الخفية بالأكاذيب المعلنة، ويجب على الفرد لكي يحافظ على توازنه أن يدعي ما يناقض ذاته، كأنما المعادلة لكي يصون عقله هي أن يصاب بالجنون فعلا.

ومع أن الفيلم يرسم صورة قاتمة عن هذا المجتمع المحاصر بتقاليد كارثية، في غياب هاجس لمقترح العدالة المطلوبة، فإن قيم الصداقة وجرأة المكاشفة التي تنشأ بين شولا وضحايا عمها القاصرات، تومئ بإشارة تصحيحية، وتلوح بقميص الالتفات إلى مأساة طارئة، ملء رسالتها أن شولا لاذت بأسلوب طائر/ دجاج غينيا في قرع ناقوس الخطر، وعلى هذا النحو يجب على أجيال زامبيا الصاعدة من الفتيات الطليعيات أن يفعلن، أن يتجاسرن في حماية أنفسهن بأن يتحولن إلى دجاجات غينيا كلهن، بالاستنفار العارم ضد الحيوانات المفترسة.

لعلّ هذا ما حاولت أن تثيره بصورة من الصور، اللقطة الأخيرة، في مجرى الصخب الأجوف الذي ينحدر إليه الحوار العائلي، ويمر أشخاص غاضبون في هيئة شبحية وهم يصرخون ويشيرون بأصابعهم بعضهم إلى بعض.

 

المخرجة رونجانو نيوني.

"عن التحول إلى دجاجة غينيا" فيلم جريء، صادم، قاس وسحري، لا ينبش في التسلسل الهرمي لبنية الأسرة المتناقضة والتأثير السالب الذي يضاعفه على سلوك أفرادها في زامبيا فقط، وإنما يشمل ذلك كل القارة الأفريقية ويتخطاها إلى ما هو إنساني. لذا، فالذكاء الفني ما يسلكه الفيلم في تقديم خطابه المأساوي، المرح واللاذع أيضا، دون السقوط في فخ المباشرة بالنظر إلى أن الحكاية في الأصل درامية، لكن تدبير سردها الكوميدي الأسود، والسوريالي في آن، مختلف وممتع من حيث مغايرته ولا مألوفه.

font change

مقالات ذات صلة