كنت أنتظر فقط تلك اللحظة التي يردد فيها خوسيه أركاديو بوينديا، أن اليوم هو الإثنين، ليس الثلاثاء أو الخميس، بل هو "الإثنين المؤبد". تلك اللحظة التي يعلن فيها خوسيه جنونه الجهير، قبل أن يشرع في تحطيم الأشياء ويؤخذ بعدها ليقيَّد على جذع شجرة الكستناء.
وحين طرح سؤاله عن اليوم، وأجاب بنفسه "إنه يوم الإثنين"، كنت وصلت إلى ذروة البكائيَّة على عالم سحري خاص، أفل منذ وقت طويل، متداخلا مع عوالم ماركيز الغرائبية، التي أراها الآن، في زمن آخر، وعالم موازٍ، تتشكل متفجرة أمامي على شاشة "نتفليكس" وبلغة كولومبية – لاتينية أو إسبانية – بديعة، مشحونة بالشجن والحنين والجنون.
الدراما في مواجهة النص
منذ البداية، أو قبلها، حين أُعلن أن منصة "نتفليكس" على وشك إنتاج رواية "مائة عام من العزلة" في عمل درامي، لم أصنع لنفسي ذلك الجدار الفاصل بين ما هو نص وما هو صورة، فأنا مدرك جيدا للفروقات الكبيرة بين الشكلين من الفن، سواء من الناحية الإنتاجية، الفردية انفعالا وتخليقا واستقبالا في حال النص – الرواية، أو الجماعية التصنيعية التي لا تخلو من رؤى فردية متداخلة في حال الصورة – المسلسل الدرامي. فالصورة أو الدراما بناء آخر غير ملزم مطلقا باقتفاء الأثر الكامل للعمل السردي، رواية كان أم قصة، وما يحركه من آليات إبداعية مثيرة لفعل التخييل الفردي، يختلف تماما عن مثيرات العمل التخييلي المدون على الورق.
كنت مدركا ذلك وأنا أتهيَّأ لمشاهدة الحلقة الأولى من السلسلة الدرامية "مائة عام من العزلة"، بيد أنني عرفت حينها، في ما يشبه الوحي، أنه من الصعب أيضا - وإن لم يكن من المستحيل - فصل الرواية المختزنة في الذاكرة، والخالدة في الزمن، عمّا أنا في صدد مشاهدته، فكل ذلك السحر والجنون الماركيزي أخذ يتفاعل بداخلي، والمشهد الأول للمسلسل يستعيد المدخل النصي ذاته الذي حفظته ذاكرتي، وظللتُ أردّده لسنوات: "بعد سنوات طويلة وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف إلى الجليد...الخ".