أما وقد هرب بشار الأسد وسقط النظام، فصار يصح القول إن السوريين قد خطوا الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل.
سقطت مقولة أن النظام السوري أفضل الموجود، فقد شاهد العالم أجمع بالصوت والصورة أنه كان الأسوأ على الإطلاق لا في تاريخ سوريا والمنطقة فحسب ولكن في تاريخ العالم الحديث أجمع. وبينما كان يهرب كان السوريون يثبتون للعالم أنهم دعاة بناء دولة وأن العائق أمام هذه الدولة كان النظام.
بدأت تتكشف قصص السجون، وبدأت تفتح المقابر الجماعية، منذ نحو 54 عاماً وهذا حال الكثير والكثير من السوريين، يبحثون عن أحبائهم بين سجون الأسد ومعتقلاته، مئات الآلاف من السوريين كانوا هناك ودفنوا هناك، ولكل واحد من هؤلاء اسم وحكاية وعائلة.
سقط النظام فراح السوريون يبحثون عن أحبائهم، لم يذهبوا إلى حيث بيوت المجرمين، لم يبحثوا عن انتقام، كل ما يبحثون عنه هو العدالة وبعض من رفات أبنائهم.
من يصغي جيداً للسوريين، من يعرفهم جيداً يعرف كم أن الغالبية العظمى من هذا المجتمع مسالمة، محبة للحياة، محافظة على تقاليد وعادات لا تؤذي أحدا، نعم هو مجتمع محافظ ولكنه أثبت بالفعل لا بالقول أنه ليس متطرفاً.
اليوم وآلاف العائلات تقيم العزاء لمن فقدوا، اليوم والمهجرون بدأوا بالعودة، والثوار في الساحات يحتفلون بعد طول انتظار، لا بد من الحديث عن هواجس الكثير من السوريين وتحديداً ممن انتموا لهذه الثورة العظيمة ودفعوا أثماناً ما كان لأحد أن يتصورها، ولكنّ للحرية ثمنا في بعض البقع الجغرافية بينما هي حق بديهي في بقع أخرى.
يتخوف السوريون من الثورة المضادة، وهو تخوف مشروع خصوصاً أن بعض الدول وأولها إسرائيل وإيران تتضرر جداً من انتصار الثورة السورية، إسرائيل التي فقدت حارس حدودها، وإيران التي سقط مشروعها التوسعي بسقوط بشار، كما بعض الدول التي تفضل نظاماً كالنظام السوري بكل إجرامه وإرهابه على وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم. هذا التخوف يرافقه التخوف من عودة أزلام الأسد، أولئك الذين يصعب عليهم تخيل سوريا الدولة ويريدونها مزرعة كما كانت من أجل مصالحهم الفاسدة.
يتخوف السوريون من الثورة المضادة، وهو تخوف مشروع، خصوصاً أن بعض الدول وأولها إسرائيل وإيران تتضرر جداً من انتصار الثورة السورية، إسرائيل التي فقدت حارس حدودها، وإيران التي سقط مشروعها التوسعي بسقوط بشار
يتخوف آخرون من استحواذ الإسلام السياسي على الحكم وفرض أجنداته، رغم أن جميع أطياف الشعب السوري السياسية شاركت خلال العقود الماضية بمعارضة هذا الحكم ودفعت كغيرها أثماناً باهظة خلال الـ13 عام الماضية.
وبين الهاجسين والخوفين، يبقى على السوريين ترتيب أولوياتهم، وبرأيي أن الأولوية الأساسية هي بناء الدولة والحفاظ على وحدتها، بعد عقود من انحلال الدولة لصالح النظام والميليشيات، الدولة التي تتسع لجميع السوريين بعيداً عن مصطلحات الاستشراق المستعملة لابتزازهم تحت شعار "حقوق الأقليات"، وكأن الأكثرية هي مجموعة واحدة موحدة وليست عبارة عن تنوع سياسي وثقافي، وكأن العرب السنة إن لم يتدخل الغرب بمصطلحاته الهجينة سينقض كالوحش على جاره "الآخر".
وحدة سوريا الأرض تبدأ من وحدة الشعب، ووحدة الشعب لا تلغي تنوعه على جميع المستويات العرقية والمذهبية والفكرية والسياسية والثقافية.
يتوجس البعض من القيادة الحالية، ويعتبر ما تقوم به هو إرسال التطمينات للدول الإقليمية والغربية بهدف إزالة صفة "إرهاب" عنها، بينما خطابها للداخل غامض، وجميع تعييناتها في المناصب الإدارية والوزارية هي من بين صفوفها ومناصريها، ولكن لنتذكر أن بشار الأسد هرب من أسبوعين، وأن نظامه سقط من أسبوعين، فالمرحلة تتطلب التأني كما تتطلب الحذر الشديد.
للانتقال بسلاسة نحو الدولة المنشودة لا بد من العدالة، كي لا يسمح للطابور الخامس باستغلال آلام السوريين والجنوح نحو الثأر.
أي سلطة ستحكم دمشق لن يكون بإمكانها إعادة إنتاج سجن صيدنايا، وأي سلطة ستحكم لن تصدر الإرهاب الذي صدره الأسد الأب والولد، لن ترسل المفخخات والكبتاغون ولن تغتال قيادات الدول المجاورة، ليس فقط لأنها لا تريد ولكن لأن هناك شعبا دفع أثماناً باهظة لينال حريته ويستعيد كرامته بين الشعوب، وقد أثبت هذا الشعب أنه رغم كل ما حيك ضد ثورته خلال 14 عاما فإنه لم يتنازل ولم يتراجع إلى أن نال حريته واستعاد كرامته.
وكما أن الأولوية اليوم هي لبناء الدولة، فإن حجر الأساس في الدولة هو دستورها، دستور الدولة كما هو دستور جميع السوريين، وليحكم من تفرزه صناديق الاقتراع لاحقاً ما دام الدستور يحدد شكل الدولة وعلاقتها بمواطنيها، يحدد الحقوق والواجبات.
وللانتقال بسلاسة نحو الدولة المنشودة لا بد من العدالة، كي لا يسمح للطابور الخامس باستغلال آلام السوريين والجنوح نحو الثأر.
وكل ذلك لا يتحقق من دون الأمن، التحديات كبيرة والآمال أكبر، ولكن إرادة السوريين أثبتت أنها أقوى من كل ما يحاك ضدهم.