"هند أو أجمل امرأة في العالم" لهدى بركات: التحديق في الموت والفناء

لبنان في صورة امرأة تحتضر

Adrian DENNIS -AFP
Adrian DENNIS -AFP
الكاتبة هدى بركات في متحف فيكتوريا وألبرت بلندن، قبل إعلان جائزة "مان بوكر" 2015.

"هند أو أجمل امرأة في العالم" لهدى بركات: التحديق في الموت والفناء

"هند أو أجمل امرأة في العالم" (دار الآداب، 2024) للكاتبة اللبنانية هدى بركات هي رواية التحلل البطيء، التحلل والفناء، والقبول بهما. فهذا بالضبط ما تسعى إليه هنادي، بطلة هذه الرواية وراويتها: أن تنمحي شيئا فشيئا حتى تتلاشى في العدم. لهذا السبب عادت إلى لبنان بعد سنوات طويلة قضتها في باريس – لكي تموت ببطء. تقول هنادي: "لم أعد إلى هذه البلاد حبا أو اشتياقا. بل بسبب أن أرض الله الواسعة لفظتني. وجدت نفسي على الرمل، عند حافة الموج كالحيتان النافقة".

لبنان الانهيار

اختارت هنادي المكان الأنسب لتموت فيه، مكانا يشبهها، في طور التحلل والاحتضار: لبنان الغارق في انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق. إننا في العام 2020، وقد مُسخ البلد في غضون أشهر قليلة حتى بات يصعب التعرف إليه. بلمسات سريعة، خفيفة وانطباعية، ترسم هدى بركات، في خلفية أحداث الرواية، صورة لمكان – لبنان – لم يعد يشبه نفسه. كأنه تقهقر إلى ما قبل الحضارة ولا يزال مستمرا في تقهقره هذا نحو الزوال: لا كهرباء، حسابات مصرفية تبخرت بين ليلة وضحاها، فقر مدقع ينتشر كالوباء، نفايات مكدسة في الشوارع، زمر من المراهقين والأطفال يتسولون نهارا ويسكرون ليلا ويعتدون أحيانا على المارة. وكأن هذا كله لا يكفي: انفجار مرفأ بيروت – "العصف الرباني"، كما تسميه بطلة الرواية – الذي دمر جزءا مهما من العاصمة.

إلى هذا المكان تعود هنادي بحثا عن اللاشيء، لا بل عن العدم، وهو ما ينطوي على مفارقة كبيرة. ففي حين تعتمد الروايات، عموما، على الحركة والصراع والسعي إلى تحقيق هدف ما، مهما كان ضئيلا، فإن حبكة "هند أو أجمل امرأة في العالم" تدور حول رغبة البطلة في الوصول إلى حالة من الجمود بحيث لا يعود يحصل لها شيء على الإطلاق.

لا يعني هذا أن لا أحداث في هذه الرواية، ولكنها أحداث تنتمي في معظمها إلى الماضي، تسترجعها الراوية وهي تذوي شيئا فشيئا.

حبكة "هند أو أجمل امرأة في العالم" تدور حول رغبة البطلة في الوصول إلى حالة من الجمود بحيث لا يعود يحصل لها شيء


القبح والجمال

يمكن اختصار قصة هنادي في بضع كلمات: كانت فائقة الجمال فأصبحت قبيحة بما يفوق الخيال. كان الجميع يصعق بجمالها عندما كانت صغيرة، ولطالما قالت لها أمها إنها أجمل فتاة في العالم. لكن كان ثمة مَن يضاهيها جمالا: شقيقتها هند، التي توفيت وهي لا تزال طفلة، قبل بضع سنوات من ولادة هنادي. وفي نظر الأم، لم تكن هنادي سوى تعويض أو بديل عن تلك الابنة الأولى. أما الأب، فقد اختفى في أحد أيام الحرب الأهلية، وظل مصيره مجهولا.

shutterstock
امرأة في شارع الجميزة وخلفها مسجد محمد الأمين عند غروب بيروت.

طوال حياتها، ستشعر هنادي بأن شبح هند يلازمها، تلك الشقيقة الميتة ذات الجمال الاستثنائي، والتي كان ينبغي لهنادي أن تحل محلها، لكنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا، إذ تحولت إلى مسخ: أصيبت بمرض "الأكروميغاليا"، وهو اضطراب هورموني نادر يتسبب بتضخم كبير في الأطراف وبتشوه في ملامح الوجه. إذاك لم تعد أمها تستطيع النظر إليها، فأخفتها في علية المطبخ، حيث عاشت هنادي في عزلة تامة لمدة طويلة – شهورا، أو ربما سنة، أو حتى أكثر. إن سلوك الأم الذهاني هذا يحمل القارئ على التشكيك في صحة قصة الطفلة الأولى التي ماتت: فلعل هند مجرد وليدة هلوسات هذه الأم التي لم تحتمل تشوه ابنتها وقبحها، فشطرتها إلى شخصين.

في نهاية المطاف، تنجح هنادي في الفرار من منزل والدتها. تمضي بضعة أشهر في بيت خالتها، ثم تغادر إلى فرنسا. هناك، تبدأ سنوات طويلة من التسكع والتشرد. ففي باريس، تعيش هنادي في الشوارع، تنام تحت الجسور أو في محطات المترو. لكن باريس هي أيضا المكان الذي عرفت فيه حبها الأول والوحيد: رشيد، المتشرد المبتور الذراع ذو الماضي الغامض. إنه الرجل الوحيد الذي رغب فيها ونظر إليها كامرأة، بالرغم من هيئتها وملامحها الشديدة الذكورية. إلا أنه كان سكيرا عنيفا، فتركته هنادي.

بلد لم يعد بلدا، بلد ينمحي شيئا فشيئا في طريقه نحو العدم، تماما مثل بطلة الرواية


الاحتضار

أما الآن، في لبنان، فلم يعد يحدث لها أي شيء تقريبا. لقد وصلت إلى نهاية طريقها: هذا ما تريده بالفعل. يتفاقم مرضها وتتدهور صحتها. تؤلمها جميع مفاصلها، تفقد أسنانها، يضعف بصرها. صداقات عابرة تربطها ببعض سكان الحي، لكن رفيقتها الحقيقية وأنيستها هي قطة مشوهة مثلها، قطة بثلاث قوائم وعين واحدة، تتحدث إليها هنادي وتشاهد التلفزيون برفقتها. تضمر هنادي، تضمر حياتها، لا بل كيانها، فتتقبل ذلك بسكينة غريبة، بالرغم من عشقها الحياة. فهي لطالما عشقت الحياة، مهما بدا ذلك متناقضا. لكن النهاية باتت وشيكة الآن. عليها مغادرة هذه الدنيا بعد وقت لن يطول. عزاؤها الوحيد هو أنها أخيرا في مكانها، هي التي عاشت دوما على هامش كل شيء، ولم يكن لها يوما أي مكان. إنها الآن في مكانها، في هذا البلد الذي كان جميلا في أحد الأيام، ثم مُسخ فصار قبيحا بما يفوق الخيال. بلد لم يعد بلدا، بلد ينمحي شيئا فشيئا في طريقه نحو العدم، تماما مثل بطلة الرواية.

وداع لبنان

لكن هل شخصية هنادي هي فعلا كناية عن لبنان، أم أن ذلك ليس سوى إسقاط خاطئ يرتكبه كاتب هذه السطور؟

تصعب الإجابة عن هذا السؤال، إذ أن الحدودَ الفاصلة بين التأويل الصحيح والتأويل شبه الهذياني غائمةٌ جدا. ما يمكن قوله هو أنه بمجرد أن تخطر للقارئ فكرة أن هنادي قد ترمز إلى لبنان حتى تستحوذ على ذهنه فلا يعود قادرا على التخلص منها. ذاك أن هذه الفكرة تمنح النص قوة تأثير كبيرة. فالرواية هذه، متى قرئت من هذا المنظور، تستحيل رثاء مؤلما وقاسيا للبنان. كأنما البلد نفسه هو الذي يكلمك، ويروي لك قصة احتضاره، ويعلمك بأن وقت الوداع قد حان، وبأن عليك تقبل ذلك. كأنما البلد يرثي نفسه، لكن بلا أي إفراط عاطفي، بل ببساطة ووقار، مما يجعل الرثاء أكثر قسوة وإيلاما.

THOMAS COEX -AFP
منظر جوي للعاصمة بيروت.

إلا أن هذا كله لا يحيل هنادي رمزا جامدا أو شخصية أحادية البعد كما يحدث غالبا في الروايات التي تتكئ بشكل كبير على الرموز والكنايات. فهنادي تبقى هنادي، أي شخصية فريدة، من لحم ودم، ولا يمكن اختزالها في كونها كناية عن لبنان. بيد أنها، في الآن عينه، كناية عن لبنان، وهو ما يحيل هذا البلد المحتضر شخصية روائية من لحم ودم. وفي هذا تحديدا تتبدى براعة هدى بركات: في أنها دمجت شخصية ومكانا فصنعت منهما كائنا واحدا ينبض بالحياة.

هذا التمرين على التحديق في الموت والفناء صرنا نحتاج إليه حاليا، في لبنان، أكثر من ذي قبل


"هند أو أجمل امرأة في العالم" رواية قاتمة بالغة السوداوية، ولكنها، للمفارقة، تبعث على شيء من السكينة. ذاك أنها تمرينٌ على التحديق في الموت والفناء من أجل تقبلهما. موت هنادي ولبنان، ولكن موت القارئ أيضا. كأن ما قاله الكاتب الفرنسي فرنسوا دو لاروشفوكو (1613-1680) بات لا يصح في عالم هذه الرواية: "الشمس والموت لا يمكن التحديق بهما".

غلاف رواية "هند أو أجمل إمرأة في العالم".

وهذا التمرين على التحديق في الموت والفناء صرنا نحتاج إليه حاليا، في لبنان، أكثر من ذي قبل. ذاك أننا أصبحنا نعيش في زمن أكثر قسوة وقتامة من زمن هذه الرواية (زمن الإنهيار). بات ذاك الزمن، بالرغم من الفجائع التي أحلّها، يبدو لنا اليوم، من حاضرنا، عصرا جميلا ينتمي إلى ماض سحيق. فقد دخلنا الآن في زمن الدمار والمجازر اليومية. وعلينا أن نمرن أنفسنا على تقبل ذلك.     

font change

مقالات ذات صلة