سوريا التي تحرج العراقhttps://www.majalla.com/node/323555/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
لا شيء اختبر العراق "الجديد" مثل سوريا "القديمة". فعلى مدى أعوام طويلة اختار ساسة العراق "الديمقراطي" الوقوف بقوة مع نظام استبدادي بعثي يعاقبونه بشدة في العراق ويدعمونه بقوة في سوريا، باستخدام حجج مُضللة جوهرها بقاء أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في الحكم، وليس الدفاع عن مصالح البلد المشروعة، من ضمنها تلك المرتبطة بالأمن القومي العراقي. هَيمن هذا السلوك الأناني والضيق الأفق أخلاقيا وسياسياً والمُضرّ استراتيجياً على صناعة القرار العراقية نحو سوريا على مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية.
في الرابع من أبريل/ نيسان 2012 قال رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، بنبرة لا تخلو من الانفعال في إشارته للأوضاع في سوريا: "لغة استخدام القوة في إسقاط النظام، سوف لن يسقط النظام بالقوة، قلناها سابقاً. قالوا شهرين وقلنا سنتين، والآن أكثر من سنة والنظام لم يسقط، ولن يسقط. ولماذا يسقط؟ لكن المشكلة أن النظام يتشبث ويقاوم والمعارضة تتشبث وتقاوم... وظيفتنا نحن كعرب وكمسلمين أن نذهب لإطفاء النار وتطويق الأزمة ما دامت هذه الأزمة قابلة لأن تتفاعل... نحن نرفض تسليح المعارضة بالمطلق... حتى لو سقط النظام، إذا سقط النظام، وماذا بعد؟ لا أحد يفكر في ماذا بعد، نحن نفكر في ماذا بعد!".
في هذا المؤتمر الصحافي الذي عُقد بعد نهاية القمة العربية في بغداد (أقصد القمة الثالثة والعشرين للجامعة العربية) وكانت الأزمة السورية موضوعاً رئيساً وخلافياً فيها، دعا المالكي إلى حوار بين المعارضة والسلطة لحل الأزمة المتصاعدة حينها.
كان الافتراض الذي استند عليه المالكي وتكرر فحواه المتشابه في إعلانات كثيرة، عراقية وإيرانية ولـ"حزب الله" اللبناني وقتها، أن ثمة إمكانية حقيقية للتفاوض بين النظام والمعارضة لحل المشكلة وأن على المعارضة أن لا تضيع فرصة التفاوض هذه وتصر على درب السلاح. كان الواقع على الأرض مختلفاً تماماً، فالنظام سد طرق التفاهم والتفاوض مبكراً، ولجأ إلى العنف المفرط حتى قبل الخطاب الشهير للرئيس المخلوع، بشار الأسد، أمام مجلس الشعب في نهاية مارس/آذار 2011، بعد أسابيع من اندلاع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإصلاحات جدية مثل إلغاء قانون الطوارئ وتفكيك الدولة الأمنية وحكم الحزب الواحد. اعتبر الرجل أن ما يحدث هو عبارة عن مؤامرة خارجية ينبغي الوقوف ضدها بحزم، فيما لم يتحدث عن أي إصلاحات فعلية وحقيقية أو الاستعداد لها تستوعب مطالب المحتجين.
بخلاف الأسباب الإيرانية الاستراتيجية والبعيدة المدى للوقوف إلى جانب حكم الأسد، كانت الأسباب العراقية مباشرة ومصلحية، وفئوية الطابع وتتعلق بالحفاظ على حكم أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق
قبل تصريح المالكي هذا بأربعة أشهر، أي في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2011، ذكر الرجل، في لقاء صحافي، استعداده للوساطة بين المعارضة والنظام، محذراً من اندلاع حرب أهلية في سوريا، ومؤكداً من جديد على رفضه إسقاط نظام الأسد مع تأكيده على ضرورة قيام هذا النظام بإصلاحات وإنهاء حكم الحزب الواحد! في حينها، مع اندلاع الاحتجاجات السورية وتحولها تالياً إلى نزاع مسلح بسبب القمع الأمني الشديد الذي سلّطه نظام الأسد على المحتجين السلميين، كان ثمة ترقب عربي عام، شعبي ورسمي، يشبه الإجماع، لنهاية وشيكة ومتمناة لهذا النظام في سياق الربيع العربي الذي أطاح بثلاثة أنظمة جمهورية عربية استبدادية (تونس، مصر، ليبيا) وكان المتوقع أن سوريا ستكون الرابع. شذَ العراق عن هذا الإجماع العربي إذ وقف مبكراً مع نظام الأسد حتى مع المفارقة المريرة التي كانت تُثار عراقياً بقوة ضد هذا التأييد المبكر لهذا النظام، فحكومة المالكي، كما دولة ما بعد 2003 العراقية، دأبت على معاقبة حزب "البعث" الذي في العراق، ومطاردة أعضائه، وكثيرٌ منهم هربوا واختبأوا في "سوريا الأسد"، لكنها في الوقت ذاته تدعم حزب "البعث" الذي في سوريا وتدافع عنه في المحافل العربية!
لم يكن قرار المالكي المبكر بدعم نظام الأسد مرتبطاً بموقفه من حزب "البعث"، بل بخوفه من "الربيع العربي" واحتمالات امتداده إلى العراق خصوصاً مع تصاعد المظاهرات المعارضة لحكومته في البلد وقتها متأثرة بنجاحات الربيع العربي الأولى، واندلاع "الربيع الكردي" في إقليم كردستان، شمال العراق. مَثَّلَ "الربيع العربي" تحدياً حقيقياً لكامل الطبقة السياسية العراقية الحاكمة، خصوصاً الشيعية منها، وكانت الإطاحة المحتملة بالأسد تلوح ككابوس حقيقي يرعب هذه الطبقة، لأن حكمها سيكون مهدداً بقوة. هذا الخوف من "الربيع العربي"، وبوابته العراقية كانت سوريا المجاورة، هو الذي دفع الجماعة السياسية الشيعية الحاكمة إلى التحالف مع نظام الأسد. قبل هذا، كان العراق ينظر بارتياب لنظام الأسد، بل اشتكى ضده أمام الأمم المتحدة بحجة صحيحة وموثقة تتعلق بتدريبه إرهابيين في معسكرات داخل سوريا قبل إرسالهم إلى العراق لتقويض تجربته الجديدة بالديمقراطية المدعومة أميركياً خوفاً من انتقالها إلى سوريا تالياً في حال نجاحها.
على هذا النحو، وجد العراق نفسه مع إيران في المعسكر نفسه الداعم للأسد، لكن لأسباب مختلفة، إذ كانت إيران قد قررت منذ بدء الاحتجاجات السلمية السورية، في مارس 2011 الوقوف إلى جانب النظام على أساس حلف تاريخي وثيق بين الجمهورية الاسلامية وسوريا البعثية منذ نجاح الثورة في إيران في 1979، يقوم على مناهضة الغرب في المنطقة، و"إحباط مخططاته" ومنع تمدد نفوذه فيها.
في ظل هذا الحلف الأيديولوجي والبرغماتي بين نظام ديني إسلامي وآخر قومي عربي يجمعهما العداء للغرب بزعامة أميركية والرغبه بالتصدي له إقليمياً، استطاعت إيران تشكيل "محور المقاومة" المناهض للغرب، ودعم "حزب الله" في لبنان لتصبح سوريا، في ظل حكم عائلة الأسد، جزءاً من الأمن القومي الإيراني.
وبخلاف الأسباب الإيرانية الاستراتيجية والبعيدة المدى للوقوف إلى جانب حكم الأسد، كانت الأسباب العراقية مباشرة ومصلحية، وفئوية الطابع وتتعلق بالحفاظ على حكم أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق.
تم إنتاج الكثير من المقولات المزيفة لضمان استنفار نفسي عال ودائم تولت تغذيته آلة دعائية ضخمة كما في الادعاء المضلل بأن "التكفيريين" في سوريا يستهدفون إزالة ضريح السيدة زينب في دمشق
لكن المشقة التي واجهتها الحكومة العراقية حينها تمثلت في عجزها عن تقديم تبرير متماسك سياسياً ومقبول شعبياً في العراق وطويل الأمد، لدعمها نظام الأسد، خصوصا في سياق ما أصبح حربا أهلية سورية مفتوحة، بلا نهاية لها في الأفق. في البدء استخدم المالكي خليطاً مرتبكاً وعمومياً من حجج الاضطراب الأمني والخوف من المجهول وضرورة قيام النظام السوري بإصلاحات لاستيعاب المعارضة. لكن هذه الحجة توارت سريعاً لصالح حجة مختلفة أشد رسوخاً، لكنها أكثر إشكالية: الإرهاب المُحرك طائفياً الذي يستهدف الشيعة، أي الصراع المذهبي بين متطرفين سنة "ارهابيين" وشيعة يدافعون عن أنفسهم. بدأت هذه الحجة بالبروز في أواسط عام 2013، بعد عام تقريباً من حديث المالكي بعد القمة العربية بخصوص بقاء نظام الأسد، عبر تأكيد زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله في مايو/أيار 2013، لأول مرة، أن حزبه يقاتل في سوريا ضد "التيار التكفيري" الذي يهدد بالسيطرة على مناطق سورية محاذية للبنان ما يعرض ليس فقط الشيعة اللبنانيين للخطر بل كل اللبنانيين وصيغة عيشهم المشترك. تحدث نصرالله حينها عن مؤامرة عالمية تقودها الولايات المتحدة الأميركية لدعم التكفيريين محذراً من أن "وباء الجماعات التكفيرية ينتشر في العراق وتونس وغيرها" وأن أغلبية المنظمات المقاتلة في سوريا ضد النظام هي تكفيرية، ما يتطلب الوقوف ضدها.
عملياً، عنى بروز حجة الصراع المذهبي ومواجهة التكفيريين في سوريا تنحيةً لموضوع بقاء الأسد في السلطة بوصفه شأناً ثانويا لا قيمة له أمام الضرورة الكبرى بدفاع الشيعة عن أنفسهم أمام الهجوم الإرهابي التكفيري الذي يستهدفهم. لم تكن هذه التنحية مريحة سياسياً فقط، بل ضرورية مذهبياً أيضاً لأنها أزالت عن الفصائل المسلحة العراقية الشيعية المختلفة التي أرسلت مسلحيها إلى سوريا للقتال إلى جانب الأسد الحرجَ السياسي والديني والشعبي الكبير الذي كانت تواجهه في العراق بخصوص دعمها لنظام بعثي "علماني" قمعي، مرفوض ومُحارَب في العراق أصلاً، وساهم سابقاً في تدريب إرهابيين وإرسالهم للعراق. لعبت هذه التخريجة الجديدة، أي القتال دفاعاً عن الشيعة والتشيع ضد التكفيريين وليس عن الأسد و"البعث" ضد معارضيه، دوراً أساسياً في تحشيد الجمهور الشيعي في العراق وخارجه لتأييد القتال في سوريا وتطوع الكثيرين من الشيعة فيه (حسب تصريح القائد العام لـ"الحرس الثوري" الإيراني، محمد علي جعفري، في 2019 بأن بلاده جندت نحو مئة ألف عراقي للقتال في سوريا).
كان هذا التحشيد هائلاً وناجحاً، عبر استنفار الحس المذهبي الشيعي العميق بالخطر والخوف من الاستهداف الخارجي. في هذا السياق أنتجت الكثير من المقولات المزيفة لضمان استنفار نفسي عال ودائم تولت تغذيته آلة دعائية ضخمة كما في الادعاء المضلل بأن "التكفيريين" في سوريا يستهدفون إزالة ضريح السيدة زينب في دمشق (خصوصاً المقولة التي اشتهرت حينها "سترحلين برحيل النظام" رغم أنه ليس مؤكداً، حتى شيعياً، أن السيدة زينب مدفونة في دمشق فعلا). كان الرد على هذا التهديد المفترض مقولة مضادة، ترسخ الصراع الوجودي، استثمرت عميقاً في الوجدان الشيعي العام "لن تُسبى زينب مرتين" التي تُنسب لقائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، عبر التسمية التي اختارها في 2012 لعملية حماية الضريح التي قادها.
ساهمت عوامل مختلفة في غياب الأسئلة المنطقية في العراق بخصوص ما يحصل في سوريا ودور العراق فيها، وفي صعوبة الحصول على أجوبة معقولة
في خضم هذا التحشيد المذهبي القوي، بالمقولات المضللة التي أحاطت به وتخللته وأدامته على مدى أعوام، غابت الأسئلة المنطقية عراقياً، بخصوص فحوى الذي كان يجري في سوريا فعلاً. ففي الحقيقة، لم تكن الجماعات السورية المسلحة، وكثير منها سلفية، مهتمة بالشأن العراقي، ولم تهدد العراق أو الشيعة، بل كان جهدها منحصراً فى الإطاحة بالأسد، بلا أجندة إقليمية عابرة للحدود. فأهم هذه الجماعات وأشدها تأثيراً، "جبهة النصرة" التي تشكلت في سوريا عام 2012، لم تقم بأي عملية إرهابية في العراق، ولم يكن خطابها مهتماً بالعراق أو موجهاً ضد حكومته أو شيعته، إذ كان تركيزها العسكري، كما خطابها، هو إنهاء حكم الأسد، وإقامة دولة إسلامية في سوريا (وتراجعت تالياً عن هذا الهدف الأخير). الفصيل الوحيد الذي كان يستهدف العراق ويهدد شيعته هو تنظيم "داعش"، لكن أصل هذا التنظيم في العراق، حيث تأسس هناك في 2006 وكان العراق مركز قوته وعاصمة زعامته، ومنه انتقل إلى سوريا في ربيع 2013، تحت عنوان "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، بعد نحو عامين من وقوف العراق إلى جانب سوريا الأسد ضد خصومه.
ساهمت عوامل مختلفة في غياب الأسئلة المنطقية في العراق بخصوص ما يحصل في سوريا ودور العراق فيها، وفي صعوبة الحصول على أجوبة معقولة. بين أهم هذه العوامل هو إعلام عراقي معظمه كسول وفاقد للمهنية تعوزه القدرة على التشكيك والتساؤل الضروريين بحثاً عن الحقيقة، إذ اندرج هذا الإعلام بسهولة مقلقة في التحشيد المذهبي عبر اختصار فج للنزاع في سوريا في ثنائية ضيقة: إرهابيين داعشيين ومتعاطفين معهم يهددون العراق من جهة، ونظام حكم بعثي سيئ يمكن التعايش معه من جهة أخرى.
إزاء مثل هذه الثنائية الخانقة، لكن المزيفة، لم يكن أمام العراق إلا اختيار أهون الشرين: نظام الأسد. في ظل هذا الاندراج الإعلامي وحتى النخبوي والثقافي العراقي، ضاع التمييز بين عشرات الفصائل السورية المسلحة وتوجهاتها المختلفة، كما ضاعت أيضاً معها الفظاعات المهولة التي ارتكبها نظام الأسد، بمساعدة قوية إيرانية وروسية وفصائلية عراقية ولبنانية، ضد السوريين المعارضين وحتى العاديين الذين كان أقصى ذنبهم أنهم كانوا يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة.
ليس هذا الفشل السياسي والأخلاقي العراقي الفادح إلا انعكاساً مخيفاً آخر لمعنى النفوذ الإيراني في العراق، بما ينطوي عليه من الخطورة الواضحة في تحول الأولويات الرسمية الإيرانية إلى أولويات عراقية.