سيكون لانهيار نظام الأسد آثاره الكبيرة على مجمل الشرق الأوسط، وبخاصة في بلدان المشرق العربي، لأسباب عديدة، ضمنها أن ذلك النظام الفظيع والمهول في بشاعته وقسوته، كان طوال ستة عقود فاعلا سياسيا سلبيا، في مجمل التحولات السياسية في تلك المنطقة، وبمثابة سد هائل يحجز إمكانيات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سوريا وفي المجتمع السوري، إضافة إلى أنه تحكّم أو أثر على نحو كبير، كسلطة وصائية غاشمة بلبنان وبالفلسطينيين، وحتى بفضاءات السياسة العربية، بادعاءاته وابتزازاته ومزايداته.
بديهي أنه من المبكر ومن الصعب، في هذه الفترة العصيبة، والأحداث والمداخلات المعقدة، التكهن، بطبيعة أو باتجاهات التغيير الحاصل في سوريا. بيد أنه رغم ذلك لا يمكن النظر إلى ذلك التغيير إلا باعتباره خطوة إيجابية لا بد منها، إذ تم تقويض "نظام الأبد" الأسدي، إلى الأبد، وهذا كان من سابع المستحيلات، وخارج تخيلات السوريين، الذين عايشوا قسوته وخبروا فظاعاته، واغترابه عنهم، إذ أزاح صخرة صلبة مكثت على صدورهم (مع اللبنانيين والفلسطينيين)، طويلا، ما يفتح المجال أمام ممهدات التطور في سوريا، رغم كل التحفظات والتخوفات والمداخلات والتحديات المشروعة.
أيضا، تنبع النظرة الإيجابية للتغيير الحاصل في سوريا من الطريقة الهادئة والسلسة والسلمية التي تم بها، بنأي القوى المعنية عن معارك عسكرية، وعن إراقة دماء، ما بين هشاشة هيكل النظام، وفضح الفساد المعشعش في جسده. كما تنبع من الحفاوة التي استقبل بها السوريون في كل مناطق سوريا التغيير، وهم الذين ظلوا يتوقون للحرية، وهو ما تمثل في نأيهم بأنفسهم عن القيح الذي زرعه النظام في أجسادهم، المتمثل بالخوف من الآخر والكراهية وروح التعصب الطائفي، إذ لم تشهد مدن سوريا اعتداءات على خلفيات طائفية، أو ثأرية، فحتى "موالي" النظام استقبلوا كمندهشين التحول الحاصل، والتفاهة التي تكشف عنها الرئيس الفار، الذي تصرف كشخص مهجوس بشخصه وعائلته المباشرة، ولم يتصرف كرجل دولة، إذ ذهب بالطريقة التي أتى بها، لدى تغيير الدستور، قبل 24 عاما، ببضع دقائق، كي يصبح على قياسه، في ما عرف بسوريا الأسد إلى الأبد، كجمهورية وراثية، أو كمزرعة للعائلة.
تقويض نظام الأسد، أدى أيضا إلى تقويض النفوذ الإيراني في المشرق العربي، الذي صعد مع الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، أي طوال عقدين
الآن، مع ولادة سوريا جديدة، رغم الغموض، والمداخلات المختلفة، الداخلية والخارجية، بشأن قيامها، يمكن ملاحظة أن الشرق الأوسط تغير أيضا، فالتغيير السوري أدى إلى تغيير إقليمي، تمثل أساسا بأفول مكانة ودور النظام الإيراني في المنطقة، من العراق إلى لبنان، إذ كانت سوريا، الأكثر أهمية للنفوذ الإيراني، وبمثابة حلقة الربط الأساسية له.
والمعنى أن تقويض نظام الأسد، أدى، أيضا، إلى تقويض النفوذ الإيراني في المشرق العربي، الذي صعد مع الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، أي طوال عقدين، إذ إن حقبة الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في سياسات إيران بالشرق الأوسط، التي أدت إلى تخريب بني الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي انتهت، بعد أن استهلكت، وأدت ما عليها، وبعد أن انكشفت عن أوهام مع شعار "وحدة الساحات"، وقرب انهيار إسرائيل، وادعاء القدرة على تسويتها بالأرض في غضون ساعات أو أيام، إذ نأت إيران بنفسها عن تدمير إسرائيل لغزة، ثم عن الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على لبنان، ثم عن ضرب إسرائيل لسوريا.
في المحصلة فإن تقويض النفوذ الإيراني في المشرق العربي نهائيا، أو تحجيمه، يعني خلاص لبنان من ذلك النفوذ، وخلاصه من طغيان "حزب الله" على الدولة والمجتمع، وربما يشمل ذلك العراق، وحتى "الحوثيين" في اليمن، عاجلا أم آجلا.
الآن نحن إزاء دولتين إقليميتين قويتين تتحكمان في المشرق العربي، هما: إسرائيل، التي تبدو منتصرة، وفقا للمعطيات الحالية. وفي المقابل ثمة تركيا، التي يبدو أنها استعادت اعتبارها كدولة شرق أوسطية لا يمكن تجاوزها
على ذلك فإن إسقاط النظام السوري، الذي يعني إسقاط النفوذ الإيراني في بلدان المشرق العربي، يفيد بصعود نفوذ تركيا في المنطقة، وهي المرة الأولى من نوعها، إذ بينما كانت إسرائيل، كقوة إقليمية، تتصدر الهندسة الإقليمية في الشرق الأوسط، في الفترة من 1967-2003، فإن إيران تصدرت ذلك، بفترة سماح، أو بفترة توظيفات، أميركية-إسرائيلية، في الفترة من 2003-2023، أي منذ تسليمها العراق على طبق من فضة إلى لحظة عملية "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، فإن تركيا تبدو اليوم في مكانة الصدارة في تشكيل الشرق الأوسط، عبر التغيير السوري، الذي لا شك أن لها اليد الطولى فيه، مع الشعب السوري، الذي بذل كثيرا بمعاناته وتضحياته وكفاحه. (يمكن مراجعة مقالتي في مجلة "المجلة": "حرب إسرائيل كهندسة جديدة للمشرق العربي"- 9/11/2024)
الآن نحن إزاء دولتين إقليميتين قويتين تتحكمان في المشرق العربي، هما إسرائيل، التي تبدو منتصرة، وفقا للمعطيات الحالية، إذ قوضت المقاومة في غزة، وفرضت هيمنتها المباشرة على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، كما قوضت "حزب الله"، في لبنان، وهشمت النفوذ الإيراني في المنطقة. في المقابل ثمة تركيا، التي تبدو أنها- من مدخل التغيير السوري- قد استعادت اعتبارها كدولة شرق أوسطية قوية ونافذة، ولا يمكن تجاوزها، في المنطقة.
وفقا لكل تلك الاعتبارات، فإن كثيرا من الأمور ستتوقف، أولا، على اتجاهات التغيير السوري، ببناء سوريا كدولة مواطنين أحرار ومتساوين، أو تعثر هذا المسار، بإعادة إنتاج النظام السابق، أو بوجود تفاعلات، داخلية وخارجية، تحول دون قيامة سوريا الجديدة. ثانيا، سيتوقف هذا على شكل العلاقة بين إسرائيل وتركيا، كدولتين إقليميتين تتصدران المشهد، وهي علاقة معقدة، وتسمح بسيناريوهات عديدة. ثالثا، الأمر سيتعلق، أيضا، بمدى استجابة النظام السياسي العربي للتحول السوري، وكيفية التعاطي معه، وأيضا، كيفية تعاطيه مع الدولتين الإقليميتين أي إسرائيل وتركيا، وبالأساس وعي النظام العربي بمصالحه وأولوياته. رابعا، في الغضون ستبقى المنطقة أمام إسرائيل- كدولة استعمارية وعنصرية واستيطانية، وهي في هذه الحال، كدولة متجبرة ومدعومة من الدول الغربية- ستبقى مصدر توتر وعدم استقرار في الشرق الأوسط، ما يعني أن كثيرا من الأمور ستتعلق بمدى استجابتها أو عدم استجابتها، للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.