الشرق الأوسط إذ يحتفظ بمكانته الاستراتيجية

أسئلة كثيرة عن موقع روسيا في سوريا الجديدة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
سوريون يحتفلون بالإطاحة بنظام آل الأسد، حول برج الساعة الجديد وسط مدينة حمص، 18 ديسمبر

الشرق الأوسط إذ يحتفظ بمكانته الاستراتيجية

شكّل الحدث السوري بسقوط نظام آل الأسد دليلا قويا على المتغيرات الجيوسياسية التي حدثت في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. صحيح أن الضربات القوية التي تعرض لها "حزب الله" في لبنان، منذ منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، والتي أضعفته كثيرا كانت هي أيضا دليلا على هذه المتغيرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بدعم أميركي. لكن الحدث السوري كان حاسما في تأكيد هذه المتغيرات بالنظر إلى أنه كان حلقتها الثالثة بعد غزة ولبنان، وكنتيجة لما جرى في كليهما.

هذا يطرح سؤالا أساسيا عن أين ستقف حلقات المتغيرات تلك؟ هل ستكون سوريا آخر محطاتها، أم إنها ستشمل العراق أيضا وربما إيران؟ في الواقع أثبت مسار الأحداث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أنه من الصعب جدا التنبؤ بمستقبل التطورات في منطقة مثل الشرق الأوسط، وفي حرب كتلك التي تخوضها إسرائيل في ظل مشهد إقليمي ودولي معقّد على خلفية تجذّر الاصطفاف بين الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة وبين القوى الإقليمية والدولية التي تحاول أن تطرح نفسها كقطب صلب في مواجهة "الهيمنة الغربية".

الأكيد أنّ كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023 يؤكد أن الشرق الأوسط لا يزال يحتفظ بمكانته الاستراتيجية على الساحة الدولية. هذا في وقت كان الحديث قبل الحرب عن تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة نظرا إلى تحوّل أولوياتها نحو مواجهة روسيا والصين كل في إطاره الجغرافي وسياساته. وهو ما خلق انطباعا عن انخفاض القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط على الساحة الدولية لمجرد "تخلّي" الولايات المتحدة عنه. لكن في الواقع فإنه ينبغي قراءة هذا التخمين في إطار مساعي قوى إقليمية ودولية لخلق أرضية إعلامية وسياسية تصور تبدل الأولويات الأميركية كما لو أنه فرصة لها لتقوية نفوذها في المنطقة على حساب النفوذ الأميركي المتداعي.

رويترز
رجل يجلس خارج سجن صيدنايا، الذي يوصف بالمسلخ البشري، 17 ديسمبر

ولا ريب في أن يحيى السنوار لم يكن بعيدا عن هذه القراءة عند تخطيطه لعملية "طوفان الأقصى" على اعتبار أن تحول واشنطن نحو أوروبا والمحيط الهادئ سيجعلها أقل استعدادا للانخراط مجددا في المنطقة دفاعا عن إسرائيل. طبعا هذا لا يختصر دوافع السنوار لتنفيذ العملية والتي لم تتكشف كلها بعد وربما سيبقى العديد من جوانبها غامضا ومجهولا، إلا أن الأكيد أن السنوار كان يراهن على الانقسامات الداخلية الإسرائيلية على خلفية الخلاف حول مشروع "الإصلاحات القضائية" الذي قاده بنيامين نتنياهو، كما كان يراهن على استعداد "محور المقاومة" وعلى رأسه إيران للدخول في الحرب إلى جانبه تطبيقا لمفهوم "وحدة الساحات"، والذي كانت "حماس" والسنوار وقطاع غزة برمته أولى ضحاياه، ثم لحق بهم "حزب الله" ولبنان.

أي إن السنوار وقع في أوهام القوة التي كان يروجها "المحور" عن نفسه، وفي تقديرات خاطئة للمشهد الإسرائيلي الداخلي، ولمدى استعداد واشنطن لدعم تل أبيب. وهذا من دون إغفال أن السنوار نفسه، وبحسب مصادر "حماس"، لم يكن يقدّر أن تبلغ عملية طوفان الأقصى هذا الحجم وأن هدفها كان القيام بعمليات أسر والتفاوض بعدها على صفقة تبادل، لكن العملية خرجت عن السيطرة خصوصا مع تداعي شبكات "الدفاع" الإسرائيلية في غلاف غزة. كما تردد أوساط قريبة من "حماس" معلومات عن أن السنوار أبدى لوسطاء نرويجيين في بداية الحرب عن استعداده للتفاوض على صفقة شاملة لكن نتنياهو رفض عرضه.

لا يمكن القياس على الحدث السوري لوحده للبرهان على تراجع المكانة الدولية لروسيا، فالمحك الأساسي لهذا التراجع هو الحرب في أوكرانيا، وقدرة موسكو على الخروج منها منتصرة أو بأقل تقدير غير مهزومة

أيا يكن من أمر فتفاصيل العملية لا تزال طي الكتمان وربما ستشكل التحقيقات الإسرائيلية بشأنها أحد أهم المصادر لمعرفتها، ولكن ما يفترض أخذه في الاعتبار أن تقدير السنوار لظروف العملية وإن لم يكن منسقا تماما مع "محور المقاومة" فإنه لم يخرج عن الإطار العام لتقدير "المحور" لموازين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، ليظهر لاحقا أن "المحور" بكامله وليس "حماس" فقط وقع في أوهام تقدير قوته، أو أنه لم يتوقع أن تفضح الأحداث حجم قوته. 

بيد أن الأهم من ذلك كلّه أن المتغيرات التي شهدتها المنطقة لا تقتصر نتائجها على "محور المقاومة" وحسب بل تشمل أيضا القوى الدولية التي كانت تطمح لحجز مساحة صلبة في خريطة النفوذ الإقليمية والدولية في المنطقة وفي مقدمتها روسيا. فموسكو التي كانت تراهن على إشغال أميركا والغرب في حرب الشرق الأوسط وبالتالي تخفيف الضغط عليها في أوكرانيا– وهو ما طرح تساؤلات عن دور روسي معين في "طوفان الأقصى"- وجدت نفسها تواجه نتائج هذه الحرب في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وهو ما يفرض تحولا كبيرا على مستوى النفوذ الروسي ليس في سوريا وحسب بل في المنطقة برمتها.

لذلك لا يقتصر السؤال حول تأثيرات أحداث المنطقة في غزة ولبنان وسوريا على إيران، وما إذا كانت هذه الأحداث الدراماتيكية ستؤدي الى إضعاف نظامها من الداخل وتوجيه ضربة إسرائيلية وربما أميركية لبرنامجها النووي– بعد وضع دونالد ترمب هذا الاحتمال على الطاولة- بل إن هناك سؤالا عن مدى تأثير أحداث المنطقة وخصوصا في سوريا على روسيا التي وعلى الرغم من دورها المتأخر في "ترتيبات" سقوط الأسد بعد أن اتضحت حتمية هذا السقوط، فإن سقوطه نفسه شكل انتكاسة استراتيجية لها. فبعد أن شكل تدخل موسكو لإنقاذ الأسد في عام 2015 دلالة على عودتها القوية إلى المنطقة والمياه الدافئة، وتحولها لاعبا رئيسا على المسرح الدولي- خصوصا أن ذلك حدث بعد ضمّها لجزيرة القرم– فإن انهيار المشروع الروسي في سوريا، عسكريا بعد فشل الجيش السوري الذي استثمرت موسكو في بناء وحدات فيه، وسياسيا بعد فشل مساري "آستانة" و"سوتشي" لخفض التصعيد، لا يمكن أن يكون إلا مؤشرا لبداية تراجع مكانة روسيا على الساحة الدولية انطلاقا من الشرق الأوسط. وهو ما يؤكد احتفاظ المنطقة بأهميتها الاستراتيجية، باعتبار أن تراجع نفوذ أي قوة عالمية أو إقليمية فيها يؤدي إلى تراجع حضورها على المسرح الدولي.

طبعا لا يمكن القياس على الحدث السوري لوحده للبرهان على تعرض المكانة الدولية لروسيا للتراجع، إذ إن المحك الأساسي لهذا التراجع يبقى الحرب في أوكرانيا، وقدرة موسكو على الخروج منتصرة منها أو بأقل تقدير غير مهزومة. إلا أنه في الوقت عينه وقياسا على تصوير موسكو لقوتها ولعودتها قطبا رئيسا في مواجهة الهيمنة الغربية، فإن عدم تمكنها من الدفاع عن نظام الأسد كما حصل في عام 2015 ليس تفصيلا عابرا في قياس مدى قدرة موسكو على الاحتفاظ بمكاسبها الاستراتيجية على المسرح الدولي.

إلى أي مدى سيحفز تراجع نفوذ روسيا في المنطقة خصومها إلى تكثيف أدوات الضغط السياسية والعسكرية ضدها؟

فالقول إن جيش الأسد لم يكن مستعدا للقتال لا يفسّر وحده عدم قيام موسكو وكذلك طهران في الدفاع عنه، فالواقع أن كليهما لم يعد قادرا على منع سقوط نظام الأسد. فلا إيران التي تلقت أذرعها ضربات قاسمة خلال الحرب الأخيرة كانت قادرة على الزج بمستشاريها ومقاتلي الفصائل الموالية لها للقتال ضد الفصائل السورية، ولا روسيا التي لن تلقى طائراتها مواكبة ميدانية على الأرض، بخلاف العام 2015، قادرة على وقف تقدم الفصائل نحو دمشق. وهو ما يدل إلى تكامل النفوذ بين كل من طهران وموسكو في المنطقة وخصوصا في سوريا، على الرغم من كل ما قيل في المرحلة الماضية عن تناقضات بينهما. لكن أيضا فإن روسيا الغارقة في الحرب الأوكرانية منذ أكثر من عامين والتي تستعين الآن بمرتزقة من كوريا الشمالية لاسترجاع منطقة كورسك داخل حدودها بعدما احتلها الجيش الأوكراني قبل أشهر، لم تعد قادرة ولا مستعدة للانخراط مجددا في معركة الدفاع عن نظام الأسد وتفضل التركيز على حربها في أوكرانيا. والأهم أن المتغيرات الجيوسياسية التي فرضتها الحرب في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023، وضعت موسكو أمام أمر واقع جديد في سوريا لا تمتلك أدوات كافية للتعامل معه، مما اضطرها للاستسلام له ومحاولة التكيف معه وتحديد خسائرها من جرائه. وهو ما يؤكد أنه لا يمكن مقاربة تطورات الأحداث في المنطقة مقاربة إقليمية بحت وكأن تأثيراتها تنحصر في الشرق الأوسط، بل ينبغي مقاربتها دوليا على قاعدة انعكساتها على موازين القوى الدولية.  

وفي السياق فقد دفع اغتيال أرفع مسؤول نووي بالجيش الروسي الثلاثاء الماضي، وعلى بعد 7 كيلومترات من الكرملين، إلى التفكير في معاني التزامن بين اغتياله من جانب الاستخبارات الأوكرانية وسقوط نظام الأسد.

أ.ف.ب
عناصر من القوات الروسية والسورية عند معبر أبو الضهور على الحافة الشرقية لمحافظة إدلب في 20 أغسطس 2018

للوهلة الأولى يبدو الربط من حيث التوقيت بين الحدثين في غير محله على اعتبار أنه ينبغي عدم المبالغة في البحث عن علاقة سببية مباشرة بينهما بالنظر إلى انفصالهما الجغرافي وإلى أن هذا الاغتيال ليس الأول من نوعه منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية. لكن واقع الأمر أن تزامن الحدثين يطرح سؤالا أساسيا عن مدى تأثير الانتكاسة الروسية في الشرق الأوسط على مستقبل ديناميات القوة الروسية داخل روسيا وفي مجالها الاستراتيجي المباشر وحول العالم. بصيغة أخرى إلى أي مدى سيحفز تراجع نفوذ روسيا في المنطقة خصومها إلى تكثيف أدوات الضغط السياسية والعسكرية ضدها؟

طبعا لم تتوفر بعد معطيات كافية للاجابة عن هذا السؤال، ولاسيما مع اقتراب دخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وهو الذي وعد بإحلال السلام في أوكرانيا ولو لم يفصح عن استراتيجيته لتحقيق ذلك. ومن دلالات المتغيرات التي فرضها انتخاب ترمب على ملف الحرب الروسية الأوكرانية تولي "الناتو" تنسيق المساعدات العسكرية لكييف بدلا من أميركا. وفي المقابل فإن فلاديمير بوتين لا يزال يتصرف على اعتبار أن اليد العليا ما تزال له في أوكرانيا، وهو ما أكده الاثنين الماضي بقوله إن العام الحالي كان عاما تاريخيا على صعيد تحقيق الأهداف العسكرية في أوكرانيا. لكن في الواقع فإن انتخاب ترمب رفع من مستوى الاهتمام باحتمالات التسوية السياسية للنزاع أكثر منه بمجريات المعارك على الأرض التي تتراجع أهميتها نسبيا، ولو كان الجيش الروسي يحقق بعض التقدم على الأرض لكنه تقدم بطيء وغير قادر على حسم المعركة.

ربما لا يصلح الشرق الأوسط ليكون دليلا كافيا على حجم التفوق الأميركي حول العالم، لكن الأكيد أنه لا يمكن التعامل مع المتغيرات في الشرق الأوسط كما لو أنها لم تحصل وكما لو كانت بلا تأثير

وإذا كانت بوتين، لو يتطرق في كلمته الاثنين الماضي، والتي أوجز فيها مجريات العام الحالي على خطوط المواجهة في أوكرانيا، إلى الحدث السوري، فهو تعهد بمواصلة تعزيز تحالفات بلاده العسكرية مع أطراف تتشارك مع روسيا مواقفها في مواجهة الهيمنة الغربية.

والحال فإن كلام بوتين هذا يعيد إلى الأذهان السردية التي تتحدث عن بداية أفول الإمبراطورية الأميركية لصالح صعود قوى عالمية جديدة على المسرح الدولي في مقدمتها روسيا والصين، في وقت أن الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط أظهرت أن أميركا ما تزال قادرة على التدخل بقوة وحسم الصراعات، بينما خصومها يقبعون في خلفية المشهد، ويحاولون تحديد خسائرهم. ولو كانت أدوات فوز إسرائيل وأميركا قد تحمل في طياتها مخاطر عليهما على المدى البعيد بالنظر أنها أدوات قوة بحت زادت في تقليص إمكانات السياسة في المنطقة.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يتحدث إلى الصحافيين بعد مؤتمره الصحفي السنوي المتلفز، موسكو في 19 ديسمبر

وربما لا يصلح الشرق الأوسط ليكون دليلا كافيا على حجم التفوق الأميركي حول العالم، لكن الأكيد أنه لا يمكن التعامل مع المتغيرات في الشرق الأوسط كما لو أنها لم تحصل وكما لو كانت بلا تأثير على المسرح العالمي، وبالأخص بالنسبة لكل القوى التي تعد نفسها بمواجهة الولايات المتحدة، من إيران إلى روسيا، وحتى الصين التي لا شك أنها تراقب بدقة التطورات الدراماتيكية في المنطقة وتأثيراتها على حلفائها المفترضين.

وفي المحصلة فإنّ كلام بوتين، الخميس الماضي، عن أن بلاده لم تهزم في سوريا وأنها حققت أهدافها فيها "بشكل ما"، يؤكد أن موسكو باتت في موقف دفاعي في المنطقة، ولو حاول بوتين التقليل من حجم مسؤوليته عن سقوط الأسد، مرة بالإشارة إلى مغادرة الإيرانيين والموالين لهم دمشق من دون قتال، ومرة بالقول إن بلاده تحافظ على العلاقات مع الفصائل السورية. لكن الأكيد أن موقع روسيا في سوريا الجديدة لن يكون هو نفسه في "سوريا الأسد" التي يشكل سقوطها نهاية حقبة طويلة في المنطقة، ويعيد رسم خريطة النفوذ الإقليمية والدولية فيها.

font change

مقالات ذات صلة