شكّل الحدث السوري بسقوط نظام آل الأسد دليلا قويا على المتغيرات الجيوسياسية التي حدثت في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. صحيح أن الضربات القوية التي تعرض لها "حزب الله" في لبنان، منذ منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، والتي أضعفته كثيرا كانت هي أيضا دليلا على هذه المتغيرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بدعم أميركي. لكن الحدث السوري كان حاسما في تأكيد هذه المتغيرات بالنظر إلى أنه كان حلقتها الثالثة بعد غزة ولبنان، وكنتيجة لما جرى في كليهما.
هذا يطرح سؤالا أساسيا عن أين ستقف حلقات المتغيرات تلك؟ هل ستكون سوريا آخر محطاتها، أم إنها ستشمل العراق أيضا وربما إيران؟ في الواقع أثبت مسار الأحداث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أنه من الصعب جدا التنبؤ بمستقبل التطورات في منطقة مثل الشرق الأوسط، وفي حرب كتلك التي تخوضها إسرائيل في ظل مشهد إقليمي ودولي معقّد على خلفية تجذّر الاصطفاف بين الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة وبين القوى الإقليمية والدولية التي تحاول أن تطرح نفسها كقطب صلب في مواجهة "الهيمنة الغربية".
الأكيد أنّ كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023 يؤكد أن الشرق الأوسط لا يزال يحتفظ بمكانته الاستراتيجية على الساحة الدولية. هذا في وقت كان الحديث قبل الحرب عن تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة نظرا إلى تحوّل أولوياتها نحو مواجهة روسيا والصين كل في إطاره الجغرافي وسياساته. وهو ما خلق انطباعا عن انخفاض القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط على الساحة الدولية لمجرد "تخلّي" الولايات المتحدة عنه. لكن في الواقع فإنه ينبغي قراءة هذا التخمين في إطار مساعي قوى إقليمية ودولية لخلق أرضية إعلامية وسياسية تصور تبدل الأولويات الأميركية كما لو أنه فرصة لها لتقوية نفوذها في المنطقة على حساب النفوذ الأميركي المتداعي.
ولا ريب في أن يحيى السنوار لم يكن بعيدا عن هذه القراءة عند تخطيطه لعملية "طوفان الأقصى" على اعتبار أن تحول واشنطن نحو أوروبا والمحيط الهادئ سيجعلها أقل استعدادا للانخراط مجددا في المنطقة دفاعا عن إسرائيل. طبعا هذا لا يختصر دوافع السنوار لتنفيذ العملية والتي لم تتكشف كلها بعد وربما سيبقى العديد من جوانبها غامضا ومجهولا، إلا أن الأكيد أن السنوار كان يراهن على الانقسامات الداخلية الإسرائيلية على خلفية الخلاف حول مشروع "الإصلاحات القضائية" الذي قاده بنيامين نتنياهو، كما كان يراهن على استعداد "محور المقاومة" وعلى رأسه إيران للدخول في الحرب إلى جانبه تطبيقا لمفهوم "وحدة الساحات"، والذي كانت "حماس" والسنوار وقطاع غزة برمته أولى ضحاياه، ثم لحق بهم "حزب الله" ولبنان.
أي إن السنوار وقع في أوهام القوة التي كان يروجها "المحور" عن نفسه، وفي تقديرات خاطئة للمشهد الإسرائيلي الداخلي، ولمدى استعداد واشنطن لدعم تل أبيب. وهذا من دون إغفال أن السنوار نفسه، وبحسب مصادر "حماس"، لم يكن يقدّر أن تبلغ عملية طوفان الأقصى هذا الحجم وأن هدفها كان القيام بعمليات أسر والتفاوض بعدها على صفقة تبادل، لكن العملية خرجت عن السيطرة خصوصا مع تداعي شبكات "الدفاع" الإسرائيلية في غلاف غزة. كما تردد أوساط قريبة من "حماس" معلومات عن أن السنوار أبدى لوسطاء نرويجيين في بداية الحرب عن استعداده للتفاوض على صفقة شاملة لكن نتنياهو رفض عرضه.