يعد الفن أحد أهم المصادر المحفزة روحيًا وثقافيًا ووجدانيًا لدى جميع الشعوب؛ لهذا ظل بشتى أنواعه منذ القدم مناهضًا أساسيًا في جميع الويلات والحروب، التي خاضها العرب ضد خصومهم.
وإذا ما أتينا اليوم لقراءة الشواهد على ذلك، فبإمكاننا الاستشهاد بالأغاني الشعبية الفلسطينية باعتبارها فنا مؤيدا لقضيته العادلة، ووسيلة ظلت لعقود خيارًا نافعًا وميسرًا لتعبئة شعبوية ضد الاحتلال الصهيوني.
وعلى مر العقود الماضية، استطاع الفن الفلسطيني، وإلى جواره الفن العربي، تدوين كل ما عاشه هذا الشعب الأعزل المسلوبة أرضه، حيث تجاوز هذا الفن في سبيل ذلك، الرقيب وأساليب المنع من أجل توثيق ذكريات تاريخية ومأساوية من الاحتلال والدمار.
استطاع هذا الفن بما يملكه من مقومات مؤثرة، توحيد المشاعر، والإسهام في حماية هُوية الفلسطينيين من التلاشي والاندثار، وربطهم بماضيهم الأصيل، رغم محاولات التغريب المتكررة لفصلهم عن ماضيهم؛ نتيجة ما يملكه الفن من روابط روحية، توطد علاقة الإنسان بثقافته ولغته وأرضه، وأهله.
لطالما تمكن هذا الفن من خلال أغانيه الحماسية، من توليد الصمود لدى الفلسطينيين بوجه خاص والعرب بوجه عام، إضافة إلى تنفيسه عنهم خلال اعتقالهم، ومعاركهم، وقمعهم. لقد نجح الفن الفلسطيني من خلال أهازيجه ومواويله وأغنياته، أن يحقق تفاعلا شعبيا أكثر مما شكلته الفنون البصرية أو السمعية الأخرى، وليس أدل على ذلك من انتشاره في جميع الانتفاضات التي اندلعت ضد المحتل منذ الانتداب البريطاني إلى يومنا هذا. ولقرب الكلمات الشعبية الدارجة من القلوب، ومقدرتها على التأثير في مشاعر المستمعين، وقوتها المعبرة عن تاريخ الألم والعذاب الفلسطيني، ظلت الأكثر تأثيرًا، والأعلى رواجًا وتثبيتًا للهوية المكانية والاجتماعية والإنسانية الفلسطينية، والتي سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى سلبها منهم.
استمر دور الفن، وبخاصة الأغنية الشعبية، كمؤيد للقضية الفلسطينية عبر جميع الإذاعات العربية، التي بثّت أغاني المقاومة الخالدة، والباقي أثرها إلى يومنا هذا
وإذا ما تتبعنا التراث الفني العربي اليوم، فسنجد أن ما أبدعه هو ما تم إنتاجه أثناء المقاومة، لنصل إلى أنّ الأغنية الفلسطينية، لم يقتصر ذيوعها في الأوساط العربية كنوع من التغني أو الترويح عن النفس فقط، وإنما كانت تنقل موسيقى الحياة وانتصاراتها، وحداد الموت وحسراته أيضًا.
كما ظهر خلال الثلاثة عقود الماضية، التأثير الكبير للفن العربي باختلاف لهجاته تجاه قضيته الفلسطينية، وذلك مع إطلاق "فن الأوبريت"، كـأوبريت "الحلم العربي" و"الضمير العربي" و"القدس حترجع لنا" التي كتبها الشاعر المصري مدحت العدل. ونشيد "موطني" الذي كتبه الأديب الكبير إبراهيم طوقان، لتغدو جميعها دروعًا فنية حصينة في مواجهة المحتل، وتوثيق جرائمه التاريخية البشعة.
كما استمر دور الفن، وبخاصة الأغنية الشعبية، كمناهضٍ للقضية الفلسطينية عبر جميع الإذاعات العربية، التي بثّت أغاني المقاومة الخالدة، والباقي أثرها إلى يومنا هذا، مثل "ظريف الطول" التي اعتبرت خطابًا شعبيًا فنيًا في وجه المحتل، إلى جوار كونها أغنية طربية أصيلة، ومثلها "الميجنا" و"الدلعونا" التي تركت أثرًا كبيرًا في الشعب العربي بأكمله؛ كونها انطلقت من البيئة البدوية، الأكثر عمقًا وتجذرًا بالمكان، ولأنها اعتمدت في لحنها على الأوتار الوطنية والنداءات الروحية.
سيبقى الفن ذلك السلاح المؤثر؛ كونه يملك القدرة على الوقوف في وجه جميع الخصوم
وعلى الرغم من اختلاف أشكال التعبير الفني عن القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، فقد أثبتت الأغنية الشعبية قدرتها على صناعة "دوشة" سواءً الشعبي منها أو السياسي، كتلك التي خلقتها أغنية الفنان الشعبي المصري شعبان عبد الرحيم "أنا باكره إسرائيل" التي أكدت ما لهذا الفن البسيط من قدرة على التأثير؛ فمع بساطة كلماتها، إلا أنها ذاعت عربيًا ودوليًا، بل وترسخت في ذهنية الأجيال، وما زالت تتردد على الألسن مع كل حرب جديدة تشنها إسرائيل. ومع أن مُغنّيها لم يكن سياسيًا، ولم يكن يملك أثناء أدائه لها، غير لكنته الشعبية البسيطة جداً، فإنها أقلقت أحد أكبر الكيانات في العالم، لانتشارها الاجتماعي الواسع.
سيبقى الفن ذلك السلاح المؤثر؛ كونه يملك القدرة على الوقوف في وجه جميع الخصوم. ولعل ما قاله الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني في كتابه "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة" ووصفه الدقيق للحصار الثقافي الفلسطيني، الذي فرضه الاحتلال عقب النكبة، وتصويره لمدى تأثيره على مستوى التلقي الثقافي.. "إلى أن انتشر فيما بينهم الشعر الشعبي، الذي غدا بمثابة الثقافة الوحيدة والمؤثرة، التي شكلت أدب مقاومة مكتملا دون أن يستطيع المحتل حصاره أو منعه؛ لسهولة حفظه وسرعة انتشاره".
إن تأثير الفن المناضل بشتى أنواعه في ذاكرة التاريخ العربي بوجه عام، والفلسطيني بوجه خاص واضح تمامًا، بدليل أن جميع المسلسلات والأغاني الفلسطينية الخالدة تلتصق بنا، وتؤثر فينا حتى اليوم، وفق تاريخ الأجيال المتسلسل الذي عجزت عن إيقاف انتشاره، أو التخفيف من تأثيره الاجتماعي شتى وسائل الإعلام المعادية؛ لأنه الأداة السلمية الوحيدة التي يجب أن تستمر في دورها التعبيري عن النكبات والدمار، ولأنه الأقدر على التعبير عن الهوية الحقيقية للمنكوبين، إضافة إلى أنه أيسر الأدوات القادرة على إيصال جميع الرسائل الإنسانية كما هي، دون تضليل أو تأويل، ولما يملكه من مؤثرات عاطفية، قادرة على مد جسور التعاطف الصادقة، وإعادة الإرادة والصمود لشعبٍ يستحق منّا الكثير.