تركيا وسوريا الجديدة... تفاهمات سياسية وميدانيةhttps://www.majalla.com/node/323547/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%87%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9
يوما بعد يوم، تتزايد التكهنات بأن العملية التي أطاحت في النهاية بنظام الأسد لم تكن ابنة لحظتها، بل بدأ الإعداد لها منذ أكثر من عام، بمشاركة تركيا، والولايات المتحدة، ودول أخرى بدرجات متفاوتة، ولكن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نفى وجود أي تنسيق مسبق مع دول أو مجموعات أخرى للتخطيط لهذه العملية. ووفقا لفيدان، بدأت مشاركة تركيا فقط بعد أن أطلقت "هيئة تحرير الشام" وجماعات المعارضة الأخرى العملية، حيث ركزت الجهود التركية على تقليل الخسائر البشرية وتجنب التعقيدات، كما قال في مقابلة مع قناة "الحدث" السعودية.
في أعقاب الإطاحة بالأسد، برز فاعلان محليان رئيسيان في المشهد السوري: "هيئة تحرير الشام" و"وحدات حماية الشعب."
تسيطر "هيئة تحرير الشام"، التي انبثقت عن تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، على إدلب منذ عام 2015. وعلى الرغم من تصنيفها كمنظمة إرهابية، يبدو أنها استطاعت أن تطور علاقات مع تركيا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
ويحاول زعيم "هيئة تحرير الشام"، أحمد الشرع (الذي كان يُعرف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني) إعادة تشكيل صورتها، وقد تبنى، علانية، في سبيل ذلك خطاب أكثر اعتدالا. ودعا إلى "الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة،" مشددا على الحاجة إلى "تأسيس دولة قائمة على القانون والمؤسسات لضمان استقرار مستدام".
ويبدو أن "هيئة تحرير الشام" هي من يدير سوريا حاليا، ومن الواضح أنها تنوي الاستمرار في هذا الدور بعد الفترة الانتقالية. باختصار، تحاول "هيئة تحرير الشام" إعادة صياغة صورتها، مرسلة إلى العالم رسالة، مفادها "لسنا كما كنا." ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت الأفعال ستتطابق مع الأقوال.
في الوقت نفسه، تراجعت جماعات المعارضة الأخرى، مثل الحكومة السورية المؤقتة، والائتلاف الوطني السوري، و"الجيش الوطني السوري"، وجماعات مسلحة أخرى، إلى الظل إما بصمتها أو غيابها الواضح.
مناورات "وحدات حماية الشعب"
على النقيض من ذلك، ظلت "وحدات حماية الشعب" قوة ثابتة في الشأن السوري، حيث تتنقل بين العلاقات مع جميع الأطراف الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإيران ونظام الأسد. وهي تقوم بمناورات مدروسة للبقاء، في مواجهة سقوط الأسد، وعمليات تركيا ضد بنيتها التحتية وقياداتها، وتقدم "الجيش الوطني السوري" شرقا، وموقف ترامب، الذي عبّر عن رغبته في النأي عن الملف السوري.
وفاجأت "وحدات حماية الشعب" بقولها إنها كانت منذ البداية إلى جانب الثورة السورية. كما أعلن قائدها، مظلوم عبدي، عن اتفاق مع "هيئة تحرير الشام" ينص على التزام كل طرف بحدوده على جانبي نهر الفرات وتجنب المواجهة. وأشار عبدي أيضا إلى وجود حوارات مع تركيا بوساطة الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي لهزيمة "داعش".
أكدت تركيا أنْ لا مشكلة لديها مع الأكراد كعرق، سواء في العراق أو سوريا، ولكنها كررت، على لسان وزير دفاع ها يشار غولر، هدفها الرئيسي وهو القضاء على حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب
من جانبها، أكدت تركيا أنْ لا مشكلة لديها مع الأكراد كعرق، سواء في العراق أو سوريا، ولكنها كررت، على لسان وزير دفاع هايشار غولر، هدفها الرئيسي وهو القضاء على حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب.
وأشار غولر إلى أن الروابط بين "وحدات حماية الشعب" و"حزب العمال الكردستاني"، الذي يتخذ من جبل قنديل شمالي العراق مقرا له، روابط مؤكدة ولا يمكن إنكارها، وكذلك الأهداف السياسية الأوسع نطاقا المرتبطة بهذه الروابط، بما في ذلك ما يُسمى عملية السلام الجديدة في تركيا.
وأوضح الوزير التركي أنْ لا خيار أمام "وحدات حماية الشعب" سوى حل نفسها، مؤكدا على شرطي تركيا الأساسيين، وهما مغادرة جميع الأعضاء غير السوريين، وخاصة كوادر حزب العمال الكردستاني من تركيا والعراق، للأراضي السورية؛ وتسليم المقاتلين من الجنسية السورية أسلحتهم.
انتقال معقد
تظل الفترة الانتقالية في سوريا مليئة بعدم اليقين، حيث تسعى الفصائل المتنافسة والجهات المحلية والقوى الدولية إلى تحقيق أهداف متباينة. وقد تفضي إعادة تشكيل صورة "هيئة تحرير الشام" ومناورات وحدات حماية الشعب إلى اتجاهات جديدة، ولكن من غير المؤكد ما إذا كانت نتيجة تلك التحولات ستؤدي إلى استقرار دائم أو مزيد من الصراعات، فذلك يعتمد على مدى تطابق أقوال هذه الجماعات مع أفعالها – وكيفية استجابة المجتمع الدولي لهذه التطورات.
وبيّن وزير الدفاع أن بلاده أبلغت الولايات المتحدة بهذه النقاط، وطُلبت منها إعادة النظر في سياستها تجاه "وحدات حماية الشعب"، ولكن لا يبدو أن السياسة الأمريكية تشهد تغيرا كبيرا في هذا الميدان، على الأقل في الوقت الحالي.
تتمثل أولويات سوريا في هذه المرحلة بما يلي:
- منع انهيار الدولة، الحفاظ على النظام العام، وتوفير الاحتياجات الأساسية للشعب.
- تأسيس هيكل سياسي وإداري جديد للدولة السورية.
- تفكيك الجماعات المسلحة وجمع الكم الهائل من الأسلحة المنتشرة في أيدي مختلف الفصائل.
كما يطالب السوريون بمحاسبة المسؤولين عن التعذيب والقتل الممنهج الذي أودى بحياة آلاف المعتقلين في سجون النظام، وفي مقدمتها سجن صيدنايا الذي أصبح رمزا لتلك الانتهاكات. غير أن من الضروري أن تجري هذه المحاسبة دون أن تتحول إلى حملة انتقامية عشوائية تؤدي إلى فرض عقوبات جماعية أو استهداف جماعات بعينها، مثل العلويين.
يمضي تشكيل الهيكل السياسي-الإداري الجديد في سوريا وفق المراحل التالية:
أولا، تشكيل حكومة تصريف أعمال تتألف من أعضاء حكومة الإنقاذ التي حكمت إدلب لسنوات، بمن فيهم رئيس الوزراء. وبينما ينتمي جميع أعضاء الحكومة إلى "هيئة تحرير الشام"، تخلو الحكومة من النساء أو ممثلين عن المعارضة والأقليات (العلويين، الدروز، التركمان، الأكراد، والمسيحيين).
ثانيا، المرحلة الانتقالية المقبلة، والتي يُفترض أن تبدأ بعد انتهاء ولاية حكومة تصريف الأعمال في مارس/آذار، من المتوقع أن تعالج هذا النقص عبر تشكيل حكومة انتقالية أكثر شمولا، ولن نعرف مدى تحقق ذلك إلا بمرور الوقت.
ثالثا، صياغة دستور جديد يحل محل دستور 2012 لنظام الأسد. وستتركز أبرز نقاط الخلاف على:
- طبيعة الهيكل الإداري (هل سيكون نظاما مركزيا أم سيعتمد الحكم المحلي).
- هوية الدستور (هل سيكون مدنيا أم سيستند إلى الشريعة الإسلامية).
رابعا، إجراء انتخابات حرة وتعددية في موعد يُحدد لاحقا، بحيث يتمكن الشعب السوري من اختيار من يحكمه.
وستكون إعادة بناء الاقتصاد السوري بعد سنوات من التدمير تحديا بالغ الصعوبة للجميع، فقد انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 85% بين عامي 2011 و2023، بينما تُقدر تكلفة إعادة الإعمار بما لا يقل عن 300 مليار دولار.
ورغم احتمال تقديم المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية دعما ماليا فسيبقى هذا الدعم محدودا، وستظل سوريا بحاجة إلى إيجاد مواردها الخاصة من خلال:
- تحصيل الضرائب من السكان.
- جذب الاستثمارات الأجنبية.
- تعزيز القطاعات الإنتاجية والصناعية والتصدير.
- الاستغلال الأمثل لمواردها الطبيعية.
ولعل المورد الأهم لسوريا هو النفط، الذي بلغ إنتاجه قبل عام 2011 نحو 380,000 برميل يوميا. وتخضع حقول النفط، اليوم، لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، التي تموّل عملياتها العسكرية والإدارية عبر بيع النفط بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار العالمية. فلا بد إذا من تحرير النفط من سيطرة وحدات حماية الشعب واستغلاله لصالح الشعب السوري.
وفيما يتطلع السوريون إلى رفع العقوبات، فإن ذلك سيظل مرهونا بشروط سياسية وقانونية قد يستغرق تحقيقها زمنا طويلا. وقد صرح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأنه يعتزم الابتعاد عن الملف السوري باعتباره "شأنا سوريا،" غير أن هذا يبدو أمرا عزيزا على التحقق. ويبقى حجم الدور الأميركي في سوريا مسألة محورية خلال المرحلة المقبلة.
ومع ذلك، فثمة مخاوف من حدوث أسوأ السيناريوهات في الفترة المقبلة، تبرز هذه السيناريوهات الاحتمالات التالية:
- قد تفرض الجماعات السلفية رؤيتها المتشددة للإسلام على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، وتؤسس حكومة تستند إلى مبادئها الأيديولوجية.
- بالمقابل، قد تسعى "وحدات حماية الشعب" إلى ترسيخ مشروع "الإدارة الذاتية" وتطويره إلى مراحل أخرى أبعد مستقبلا.
- وقد تتعرض وحدة الأراضي السورية للتهديد إذا سعت الأطراف الكردية والدرزية والعلوية إلى تحقيق طموحات انفصالية. (ويجدر بنا أن ننتبه هنا إلى إشارات إسرائيل الأخيرة حول حماية الأقليات في سوريا، ولا سيما الأكراد والدروز، فهي ليست مجرد صدفة).
- وقد يحاول نظام الأسد استعادة نفوذه بدعم من إيران وروسيا.
- وقد تنزلق سوريا مجددا إلى حالة من الفوضى والحرب الأهلية.
لا ريب في أن الرئيس أردوغان قد نجح، بعد اثنتي عشرة سنة، في تحقيق اختراق مهم فيما يخص الملف السوري، وهو أحد أصعب الملفات التي واجهها، بعد الوضع الاقتصادي في تركيا. ومن هنا يمكن فهم زيارة رئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالن، إلى دمشق والتي قُصِد منها أن تبدو كاستعراض واضح لنفوذ تركيا، فإذا كانت مشاهد قالن وهو يتجول في شوارع المدينة بسيارة يقودها أحمد الشراع، وصورته أثناء الصلاة في الجامع الأموي، رسالة رمزية مدروسة تُظهر الثقل السياسي والدبلوماسي لأنقرة في سوريا، فقد حققت هدفها بوضوح.
لكن هذه الخطوة الاستثنائية أثارت جدلًا واسعًا وطرحت تساؤلات بين السوريين والمراقبين الأجانب. وفي هذا السياق، سارع وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى توضيح أن زيارة رئيس المخابرات إلى دمشق جاءت لنقل التفاهمات التي أُبرمت مع القوى الإقليمية والدولية. وأكد فيدان أن الرسائل التي حملها إلى دمشق تضمنت:
• منع التنظيمات الإرهابية من استغلال المرحلة السياسية الجديدة.
• تشكيل حكومة شاملة تمثل جميع الأطياف في المرحلة المقبلة.
• التأكيد على ألا تشكل سوريا تهديدا لجيرانها.
وفي خطوة لافتة، أعادت تركيا فتح سفارتها في دمشق بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول، بعد إغلاق دام اثنتي عشرة سنة، وهو القرار الذي اتخذته شخصيا خلال فترة عملي سفيرا لتركيا آنذاك.
باختصار، خلال الأسبوعين الماضيين، حققت تركيا مكاسب غير مسبوقة على الساحة الدولية، وأصبحت تُطرح كفاعل رئيسي في الملف السوري، وبرزت كطرف محوري قادر على تشكيل مستقبل سوريا في شتى الميادين، من تسهيل العملية السياسية وإعادة الإعمار، إلى منع عودة "داعش" وضمان عودة اللاجئين.
ولكن على الرغم من الموقف المتميز الذي تحتله تركيا حاليا، لا تزال التحديات قائمة وعدم اليقين ماثلا. ولذلك، يتعين على أنقرة توخي الحذر واتخاذ خطوات مدروسة، لأن الفشل في تحقيق انتقال سياسي ناجح في سوريا واحتمالية العودة إلى الفوضى سيُلقيان بظلالهما الثقيلة على تركيا.
لهذا السبب، تؤكد تركيا التزامها بدور بناء وداعم لتحقيق حل شامل ومستدام ودائم للأزمة السورية.